التعذيــب
- 10
الدكتور
خالد الاحمد*
مقـدمـة
:
يقول
فلاسفة التاريخ : الهدف من دراسة
التاريخ ليس اجترار الآلام ،
ونبش الماضي بروائحه المتعفنة
واسترجاع الصـور المبكيـة ،
وإنما هو أخذ العبرة من الماضي ،
الماضي الذي كلف سوريا عشرات
الآلاف من خيرة أبنائها ، كي
لايضيع الماضي سـدى ، فنستفيد
منه في الحاضر ، وعندما أتحدث عن
المذابح الجماعية التي مارسها
نظام حافظ الأسـد في سوريا ، أو
أنواع التعذيب وأساليبه
الوحشية ؛ لا أقصد منها سوى أن
نعتبر من الماضي المؤلم ، وأن
نتخذ كافة الاجراءات
والاحتياطات كي لايعود هذا
الماضي ، ونجتث الأسباب المؤدية
لهذا الماضي المروع من جذورها ،
وأهم تلك الجذور الحكم الفردي
الديكتاتوري ، الذي استخدم
الجيش ( جيش الشعب ) كما قالوا
عنه ، استخدم جيش الشعب ليقتل
الشعب بدلاً من أن يحميه. وينهب
أموالـه وأثاث منازلـه بدلاً من
المحافظة عليها .
ويتابع
الأخ محمد سليم حماد عرض مشاهد
من التعذيب التي صبت عليه وعلى
إخوانه في سجن تدمـر ، في دولة
النظام الاستبدادي الأسدي ، هذا
النظام الذي قتل قرابة مائة ألف
مواطن من خيرة المواطنين ، وسجن
عشرات الألوف ، وشرد خارج سوريا
مئات الألوف أيضاً ...
ذيــل
الثعبـــان !
غير
أن هذه التطورات ( تخفيف حفلات
التعذيب ) كلها كانت تخفي وراء
وجهها المليح مؤامرة خسيسة ..
كان المقدم فيصل الغانم رأسها
المدبر وعرابها الخبيث . وكان
أبو عوض ( سجين صار عميلاً
للنظام ) ، من جانبنا أداتها
القذرة وذيل الثعبان الذي يتحرك
لمصلحة الرأس الخبيث بكل خسة
ولؤم . ولم تمض مدة من الزمن
حتى تبين لنا كيف أن الغانم هذا
قد نظم خارج أسوار السجن شبكة من
مصاصي الدماء ترأستها أمه نفسها
التي كانت تتولى تنظيم زيارات
لنخبة من أهالي المعتقلين
الموسرين للإجتماع بأبنائهم في
سجن تدمر مقابل مبالغ طائلة من
المال . [ وكانت النساء تجمع
حليها لتصل على زيارة ولدها في
تدمر مدة ساعة واحدة فقط ، وكانت
طوابير النساء تنام أمام منزل (
أم فيصل غانم ) كي تحصل على هذه
البطاقة مقابل الذهب ] .لكن ذلك
لم يكن يشبع جشع الرجل ، وكان
ينظر إلى الأموال التي يأتي
الأهالي بها لأبنائهم
المعتقلين عساها تدفع عنهم بعض
الشر أو المعاناة .. فيراها
غنائم مغرية يسيل لها لعابه .
ولذلك وحتى يضمن الغنيمة كلها
أنشأ شبكة ثانية من العملاء
والأجراء داخل السجن مهمتها
امتصاص تلك الأموال بطريقة أخرى .
كان أبو عوض مخلبها القذر بيننا ..
فعرف عن طريقه احتياجاتنا
ورغباتنا وحالتنا .. وفي سبيل
ذلك كانت خطبته العصماء تلك ،
وكانت سلسلة القرارات
الإستثنائية التي أحاطت بها .
ثم
لا يلبثوا وأن يقوموا بين كل
أسبوع وآخر بتعويض السجن كله
بحفل شديد مفاجىء من التعذيب ،
بحيث يبقى الكل منضبطين يحسبون
للحفل القادم ألف حساب . وأما
المحاكمات والإعدامات فلم
تتأثر بكل هذا الذي يجري ،
وظل شبح الموت مخيماً علينا
يتخطف الزهرات من بيننا ويطبق
على أعناق الشباب الغر ونحن لا
نملك في رد ذلك حولاً ولا قوة .
آخـر
الأنفــاس !
وفي
ليلة من تلك الليالي كنت أنام
بجانب الأخ مأمون الذهبي .
وكان المسكين قد أصيب بالمرض
فتدهورت صحته بشكل متسارع ومريع .
حتى بات وهو الذي كان لاعب
كراتيه مفتول العضلات قوي
البنية لا يقدر على مغادرة
فراشه . ليلتها وفي ساعة
متأخرة نام كل من في المهجع ونمت
معهم ، مد مأمون يده الواهنة
نحوي وجعل يهزني حتى استيقظت .
فلما سألته ما به قال لي رحمه
الله :
صدري
يؤلمني .. اقرأ لي عليه .
فوضعت
راحتي على صدره وجعلت أقرأ من
الآيات والأدعية المأثورة .
حتى إذا سكن وخلته نام عدت إلى
النوم من جديد . فلما دنا
الصباح صاح فينا أبو عوض كعادته
:
الكل
استيقاظ .
فقمنا
كلنا وبقي مأمون في مكانه تغطي
وجهه البطانية ولا يتحرك .
فناداني أبو عوض لأوقظه ،
فناديته فلم يرد . قال أبو عوض
على مشهد من الجميع:
اخبطه
برجلك ليفيق .
فكشفت
عن وجهه وناديته لينهض . فلما
حدقت وجدته قد فارق الحياة .
قلت وأنا أكاد أحس آخر أنفاسه لا
تزال تتسارع على راحتى :
هذا
مات يا زلمه !
فلم
يهتز لأبي عوض شعرة ، ولم يزد
عن أن مضى ليخبر الشرطة بحالة
وفاة جديدة في مهجعه . وهرعت
أنا فسحبت مأمون بمساعدة الإخوة
فأدخلناه الحمام وغسلناه .
ولم يلبث "البلدية" أن
حضروا فأخذوه ومضوا .
مملكـة
الـوهـم !
ونمت
مملكة أبي عوض الواهية ..
فخصصت له إدارة السجن مكاناً
يديره كمتجر أو دكان بقالة كان
يبيع فيه السجناء الشاي والخضار
والفاكهة والإحتياجات الرئيسية
التي كانوا محرومين من معظمها
ويقبض على ذلك أفحش الأثمان !
وفي نفس الوقت كان فيصل الغانم
يترصد الزوار فيخضعهم كالعادة
للتفتيش . فإذا أرادوا أن
يعطوا أبناءهم مبلغاً من المال
كان له نصيب مباشر فيه . وإذا
أحضروا لهم ملابس أو حاجيات
أجاز دخول بعضها وصادر بعضها
الآخر بحجة أو بأخرى . فيحمل
أبو عوض الأشياء التي صودرت
ويدور بها على المهاجع ويبيعها
للمساجين أيضاً . وهكذا تصب
كل الأموال التي أحضرها الزوار
المساكين في جيب مدير السجن
وشركاه . ولم تكن بيدنا حيلة
لوقف هذا الإستغلال المكشوف .
وكنا نشتري أغراضنا المسروقة من
غير تردد . ففي حالنا البئيس
ذاك كنا بحاجة لأي لقمة طعام
نتقوى بها أو قطعة ملابس تقينا
الحاجة والبرد وتخفف عنا ولو
بعض تلك المعاناة .
الســــل
كانت
أبدان السجناء قد أنهكت إلى
أبعد الحدود بعد سنين من العذاب
المستمر والجوع والحرمان
والعيش في أسوأ الظروف الصحية
والنفسية . وعلى الرغم من هذا
الإنفراج الظاهر الذي حدث إلا
أن الوقت كان قد فات . وبدأ
عدد الضحايا يرتفع من جديد ..
وتزايدت حالات الوفاة المرضية
والإصابات المزمنة ، حتى مات
من مهجعنا وحده قرابة الأربعة
عشر أخاً لم ندر إلا بعد أن قضوا
رحمهم الله أن الذي أصابهم
حقيقة الأمر كان مرض السل .
وعندما تطورت معرفتنا بهذا
المرض الخبيث ووجدنا من يفقهنا
في أعراضه وأشكاله علمنا أنه لا
يصيب الرئة وحسب ، وإنما هناك
سل يصيب الأمعاء وسل بالكلى
وثالث بالعظام ورابع وخامس .
ولم يكن في مهجعنا حتى تلك
الفترة الطبيب المتخصص الذي
يقدر على تشخيص الداء ، مثلما
لم يكن لدينا العلاج المطلوب
حتى إذا علمنا به واكتشفناه .
وواقع
الأمر فإن مرض السل تم اكتشافه
منذ عام 1982 في المهجع 5-6 بالباحة
الأولى . وهو واحد من أقدم
مهاجع سجن تدمر . كبير
المساحة مظلم الجنبات شديد
الرطوبة . ولقد قدر أن يكون
أحد نزلائه الطبيب محمود العابد
من ( قرية مورك ) محافظة حماة ،
الذي كان أحد أطباء قسم الأمراض
الصدرية في إحدى مستشفيات حلب .
لكن الإخوة وقتها ومن خوفهم من
بطش الشرطة وإحساسهم بانعدام
التجاوب أو الإهتمام لم يبلّغوا
عن المرض . فلما لاحظت إدارة
السجن ازدياد الوفيات وتوافق
ذلك مع حالة الإنفراج العامة
تلك فتحوا للمسلولين مهجعاً
خاصاً في الباحة الرابعة هو
المهجع 23 .
ونعود
إلى مهجعنا 26 الذي بات الآن في
عهد ولاية أبي عوض القسرية عليه
أحد مهاجع السجن الخاصة إن لم
يكن أخصها جميعاً . وأما
السبب فكان - كما ذكرت - اتفاق
إدارة السجن مع أبي عوض على
تحويل السجناء الموسرين وأصحاب
الزيارات والواسطات إلى مهجعنا
ليكونوا تحت عينه ورقابته
الدائمة .. وتكون الزيارات
والنقود التي يرسلها أهاليهم
المساكين أدنى إلى جيب أبي عوض
وأسياده من جيوب أصحابها أنفسهم !
وفي
هذا السياق وضمن عمليات النقل
والتحويل جاء إلى مهجعنا مجموعة
من الإخوة الدمشقيين أذكر منهم
محمد الحوراني ، وسليم الأسد
( طبعاً دمشقي وليس من الأسرة
الحاكمة ) ، وعدنان المؤيد ،
وأخ من بيت دبش وغيرهم . وكان
سليم الأسد طبيباً من دمشق نقل
من مهجع 5-6 بعد أن تعلم من
الدكتور محمود العابد هناك فحص
المسلولين وتشخيص إصابتهم .
ونقل لنا وقتها نبأ اكتشاف
إصابات سلية بين السجناء .
وأخبرنا عن تخصيص مهجع 23
للمسلولين ، وأن أخاً آخر هو
زاهي عبادي من ( ادلب ) والذي كان
في سنته الرابعة بكلية الطب
تطوع للذهاب إلى نفس المهجع
والإشراف على إخوانه المسلولين ،
ثم لم يلبث رحمه الله أن أصيب
نفسه بالمرض عن طريق العدوى .
وفي
يوم من الأيام كنا في التنفس أنا
والأخ صبحي بركات أحد أفراد
مجموعتي ففوجئت به يستند إلى
ذراعي بادي الإجهاد ، وقال لي
وهو لا يقوى على إخراج الكلمات
أنه يحس بالغثيان وبالدوار ولا
يقوى على الحركة . فطلبناله
من الرقيب إذناً بدخول المهجع .
وهناك لم يلبث الأخ صبحي أن تقيأ
وسقط محلول القوى . وعندما
عدنا من التنفس فحصه الأخ سليم
فتبين له أنه السل . وعندما
حضر الشرطة وأخبرناهم أسرعوا
ونقلوه إلى المهجع 35 في الباحة
السابعة والذي خصص بدوره في تلك
الفترة للمسلولين بعدما ضاق بهم
مهجع 23 .
ومر
شهر آخر وإذ بي أجدني أعاني من
الأعراض نفسها : ارتفاع في
الحرارة ، وقلة شهية للطعام ..
وسعال وتعرق وإجهاد متزايد .
وبعد أسبوع من المعاناة فحصني
الأخ الطبيب سليم أسد فوجدني
أصبت بالسل أيضاً . وعندما
أخبر إدارة السجن بذلك نقلوني
بدوري إلى مهجع السل ، وكان
ذلك في الشهر السادس من عام 1983
وبعد أيام قليلة من محاضرة فيصل
الغانم العامة أمام السجناء .
جـرعـة
العـذاب !
دخلت
المهجع 35 في الباحة السابعة
فوجدت ويا لهول ما وجدت ! أكثر
من مائة من الإخوة ألقى المرض
بكلكله عليهم فسلبهم نضارة
الحياة وسمت العافية . فهذا
لا يكف عن السعال وفي يده علبة
صفيح صدئة يبصق فيها البلغم
والدم . وذاك يتقيأ بين فينة
وأخرى ولا يستطيع أن يمسك نفسه .
وثالث أصاب السل كليتيه فانتفخ
جوفه وكأنه امرأة حامل !
ووجدت المصاب بسل الخصيتين ،
وسل العظام ، وسل السحايا ،
وسل الرئتين .. وكان على كل
أولئك وعلي أن نستخدم الحمام
نفسه وأن ننام متجاورين نتبادل
العدوى ونتلقاها شئنا أو أبينا .
ولقد
كنت أظن أو أؤمل أن تكون ظروف
مهجع المسلولين أفضل من غيرها ،
لكنني وجدت الأمور كأنها لم
تتغير . فالبطانيتان
اليتيمتان والعازل على حالهم ..
والشراقة والنوافذ المفتوحة
كتلك التي في بقية المهاجع .
والحرس على الباب وفوق المهجع
يروحون ويغدون . وهناك برنامج
غير منقوص من التفقد إلى التنفس
إلى سوء الطعام ورداءة الظروف .
وعندما نكون في الساحة أو يرى
الشرطة منا ما لا يسرهم كنا ننال
من الضرب والجلد والعذاب ما لم
يختلف عن ذاك الذي يناله الإخوة
الأصحاء في مهاجع أخرى . ولعل
ميزة المهجع الوحيدة كانت في
نزلائه المسلولين جميعاً ..
وفي جرعة الدواء التي خصونا بها
وحسب ! وحتى جرعة الدواء تلك
كانت أداة تعذيب وابتزاز لنا ..
فلا يكاد ينقضي شهر على توفرها
حتى تنقطع وتغيب أسبوعين أو
عشرة أيام . فإذا عادت جعلنا
نتخوف انقطاعها ونترقب وصولها
فنزداد قلقاً على قلق وعذاباً
على عذاب .
وهكذا ،
ومع اضطراب تعاطي الدواء
واستمرار سوء التغذية وقساوة
الظروف استمر الإخوة يتساقطون
موتى واحداً بعد الآخر حتى عددت
أكثر من عشرين أخاً ماتوا من
مهجعنا نحن فقط . ومن هؤلاء
أذكر الآن أخاً من حمص اسمه عبد
الرحمن فليطاني ، وآخر اسمه
عبد الساتر مصطفى من نفس
المدينة . ومصطفى المصطفى من
قرية منبج قرب مدينة حلب .
وآخر اسمه الأول مصطفى من حلب
أيضاً .
نـوبــة
قلبيــة
ومن
شهداء مهجع السل أيضاً تحضرني
قصة الأخ محمد حسن عجعوج من حماة
الذي كان من جماعة الشيخ مروان
حديد الأوائل. والذي قامت
المخابرات السورية باعتقاله من
لبنان بعيد اعتقال الشيخ مروان ،
وأودع سجن المزة مع بقية من
اعتقل وقتها . ومع تطور
الأحداث وتصاعد موجات الإعتقال
في بداية الثمانينات نقل الأخ
حسن إلى سجن تدمر بعد المجزرة
الكبرى التي حدثت هناك .
وتنقل من مهجع 9 إلى مهجع 11
لألتقيه وقد أصابه السل آخر
الأمر في مهجع 35 .
وهناك
وفي يوم من الأيام وصل محمد حسن
عجعوج نبأ استشهاد أسرته جميعاً
أثناء أحداث حماة قبل أقل من عام .
وسمع بأن واحداً من اخوته
سُحِلَ في شوارع المدينة سحلاً .
فلم يتمالك رحمه الله وأصيب
بنوبة قلبية قضت عليه .
وصار
أمراً اعتيادياً بيننا أن ننادي
الشرطي صباح كل بضعة أيام
ونخبره بوفاة أحد المرضى ، ثم
نلتفت إلى برنامجنا ذاته نكاد
لا نحس تجاه الأخ الفقيد
بالحسرة قدرإحساسنا بالغبطة أن
قبضه الله إليه فاستراح من هذا
العذاب
هسـتيريـا
ومن
مشاهد مهجع السل التي لا تنسى
مشهد الأخ بسام الحافظ من حمص
الذي فقد القدرة آخر الأمر على
تحمل كل هذه العذابات والضغوطات
النفسية وما عاد يقدر على تلقي
المزيد . فوجدناه في ليلة من
الليالي ينهض وسطنا وقد احمرت
عيناه فكأنما هما من دم أو نار
وراح يطلق عقيرته بالصراخ
والعويل . وكان الإخوة كلما
حاولوا تهدأته ازداد انفعالاً
وتأزماً .
ودخل
الشرطي المناوب يستطلع الأمر ،
وأمر المسؤول الصحي الأخ زاهي
عبادي أن يسكته بالقوة . فلم
يجد الأخ إلا أن يعطيه إبرة
مسكنة هدأته بالتدريج . وفي
الصباح نادى الشرطي المسؤول
الصحي ليخرج هذا الأخ إليه .
فلما خرج المسكين انهال الشرطة
عليه ضرباً وجلداً وأعادوه يكاد
يسلم الروح . لكنه وعندما حل
المساء عاد وانتفض وكرر ما حدث
ليلة الأمس . فعاد الأخ زاهي
وأعطاه إبرة ثانية مهدئة .
وعندما أتى الشرطي من جديد رجاه
أن هذا السجين مصاب بالهستيريا
ولا يملك من أمره شيئاً .
ووعده أن يبذل أقصى جهده
لتهدأته وعلاجه . بعدها طلب
زاهي منا أن نكف عن محادثة الأخ
بسام . ونصبوا له في زاوية من
زوايا المهجع ما يشبه الخيمة
وأجلسوه فيها . وظل المسكين
قرابة الشهرين معزولاً عنا لا
يكلمنا ولا نكلمه بشيء .. أخذ
خلالها يتحسن بالتدريج . ثم
جرى نقله بعدها إلى مهجع آخر ولم
نعد ندري ما الذي انتهت به الحال
إليه .
ألفيـة
ابـن مـالـك !
ومضت
مسيرة العذاب .. تنهش المحنة
من أجسادنا المنهكة وتقتات
واحداً منا بعد الآخر ولا تشبع .
ولم يكن أمامنا من باب نلتجىء
إليه غير المولى تبارك وتعالى ..
نتقوى به على محنتنا ونتعالى
بالإلتجاء إليه على كل الجراح
والعذابات .
ولقد
كانت النفوس تضعف حيناً ،
وتتقوى من ثم أحياناً أخر .
لكن نفسياتنا تفوقت على أجسادنا
ولله الحمد . وتمكنت من
الثبات أغلب الأحيان حتى ولو
انهارت الأبدان وتهتكت الأجساد .
فكنا كلما خبت الهمم أو انتكأت
الجراح نشد من عزم بعضنا البعض
بالدعاء والصلاة والتبتل إلى
الله سبحانه وتعالى . ندعوه
مع كل فتحة باب ، ونشكره كلما
أغلقوا علينا الباب نفسه وبقينا
سالمين ! وبعدها وإذا أحسسنا
ببعض الأمان عدنا إلى برامجنا
التي باتت غذاء أرواحنا ورواء
قلوبنا .. درّتها كتاب الله
الكريم . حتى إذا أتقن واحدنا
حفظه التفت إلى من حوله من
إخوانه فتعلم منه ما لديه من علم
مفيد . فقه كان أو تجويد أو
لغة عربية أو متون . فإذا
أنهاها مضى يلتمس تعلم اللغة
الإنجليزية أو الفيزياء أو
الكيمياء .. وكل ذلك عن طريق
المشافهة .
وأما
أنا وبعد أن أتقنت حفظ القرآن
الكريم كله بفضل الله عكفت على
دراسة المتون ، وكان شيخي في
ذلك أخ من حلب جزاه الله خيراً
كان متقناً لحفظ المتون .
فأخذت عنه البيقونية والجزرية
والرحبية .. ومن ألفية ابن
مالك حفظت حوالي 650 بيتاً ولله
الحمد . وظهرت في هذا السياق
مواهب وعجائب .. فكان بعض
الإخوة يحفظون سيرة ابن هشام
ويدرسونها لإخوانهم الآخرين .
فلما اتقنها جمع منهم حولوها
إلى منظومة أيضاً بالغة الإتقان
[ وهذا يؤكد أن هذه الفئـة كانت
من زهـرة أبناء سوريا ، فعلى
الرغم من كل أشكال التعذيب
تمكنوا من حفظ القرآن الكريم
والمتون .... ] ...
التدمـري
الشـهيد
ومن
المواهب الفذة التي ظهرت بين
السجناء أخ شاعر نظم مجموعة من
القصائد الرائعة كنا نتناقلها
بين المهاجع ونحفظها عن ظهر غيب .
ولقد بلغنا أن الأخ حكم عليه
بالإعدام ونفذ الحكم في كل
المجموعة التي حوكمت معه ولم
يصل الدور إليه .. ففجر ذلك
كما يبدو موهبته الكامنة ،
وجعله ينطق بمعاناتنا جميعاً من
خلال قصائده الرائعة . ومما
لا أنساه من تلك القصائد واحدة
أهداها إلى إخوانه في مهجع السل
يقول فيها :
سيشرق
وجهك خلف الظلام
وصدرك
ينزف خلف الحديد
وما
كاد يثنيك حقد اللئام
فيا
أيها التدمري الشهيد
عليك
السلام عليك السلام
*
*
*
أخي
إنا بعد الأذى والهوان
سنعلو
على الخلق إنساً وجان
لنا
الصدر أو منزل في الجنان
وبعد
الأعاصير والزلزلة
كأن
فؤادي غدا قنبلة !
راحــل عنــك ..
كذلك
فجرت المحنة موهبة شعرية أخرى
في أخ من حلب كتب قصيدة يناجي
فيها والدته من خلف القضبان .
فتلقاها أخ آخر من مهجعنا برزت
موهبته الفذة في تلحين القصائد
وإنشادها . فصارت القصيدة
لحناً يتنقل على شفاه السجناء
من مهجع إلى آخر ومن قيد إلى قيد ..
فتشتد بها العزائم وتعلو
بكلماتها النفوس :
عندما
جاءت يفيض الود منها والحنين
تطرق
الباب وفي دقاتها لحن حزين
أتراها
تطلب الوصل وترجو أن ألين
أم
تراها ظنت القيد يهز الصامدين ؟
*
*
*
قلت
والثورة في نفسي أعاصير تجول
حسبي
الله ربي ونعم الوكيل
وحملت
الزاد والرشاش وقررت الرحيل
وعلى
الباب بقايا من عبارات تقول
*
*
*
راحل
عنك أقاسي من جراحي وأسافر
لا
أبالي بالمنايا وعلى الطغيان
ثائر
أتحدى
ظلمة الليل وأحيا لأقاتل
علمتني
صحبة القيد وأنغام السلاسل
أن
دين الله لا ينهض إلا بالقنابل
*
*
*
راحل
عنك أغني للسواقي والبيادر
أملؤ
البيداء نوراً ونشيداً وبشائر
ورصاصي
للطواغيت إلى النار تذاكر
في
سبيل الله ماض تابعاً نهج
الأوئل
علمتني
صحبة القيد وأنغام السلاسل
أن
دين الله لا ينهض إلا بالقنابل .
أنـا
بعـثي !
ولقد
كان من ميزات مهجع السل أيضاً
اختلاط انتماءات نزلائه وتعدد
الإتجاهات التنظيمية والسياسية
فيه . فبعد أن كان سجناء مهجع
26 من تنظيمات إسلامية أو من
المحسوبين عليهم جميعاً وجدنا
أنفسنا في مهجع السل 35 متجاورين
مع سجناء من تنظيمات يمينية
موالية للبعث العراقي . ورغم
أنني وبقية الإخوة كنا ولا نزال
نتعاطف مع أي مظلوم امتدت سطوة
النظام فسلبته حقاً أو زادته
رهقاً ، إلا أنني رأيت أولاء
البعثيين في أغلبهم مجرد
منتفعين مصلحيين من فلاحي منطقة
الجزيرة . جاء البعثيون
العراقيون إليهم فاستغلوا
فقرهم وحاجتهم وبساطتهم
وأمدوهم بالمال .
ولا
زلت أذكر من أسماء أولئك
اليمينيين واحدا اسمه حسين
الحافظ ، وآخر اسمه يعقوب
يعقوب ، وثالث لقبه أبو علي ..
كانوا كلهم من هذه الشاكلة .
وأما من كان صاحب فكر ووعي من
اليمينيين على قلته فقد تحول
إلى الحق وأعرض عن سفاسف
مجموعته منحازاً إلى الإسلام ،
وشهدنا منهم من هذا النموذج من
أحجم عن ذكر اسمه الآن سائلاً
الله له السلامة والثبات .
[
وهذا يؤكد أن النظام السوري
اضطهد البعثيين ، كما اضطهد
غيرهم ، فمتى يفهم البعثيون ذلك
ويعرفون الحقيقة ، ويقفون مع
المعارضة ضد النظام الاستبدادي
] .
هذه
صور من الحريـة التي نادى بها
حزب البعث العربي الاشتراكي ،
والتي أراد أن يعممها في الوطن
العربي كله ، فسلط الله قيادته
القطرية على قيادته القومية ،
وأنهت دور حزب البعث منذ منتصف
السبعينات أو قبل ذلك بقليل ...
وبقي النظام الاستبدادي يحكم
سوريا بالحديد والنار باسم حزب
البعث ... يجمع وينهب خيرات سوريا
ولبنان ، ويسود صفحة حزب البعث
في العالم أجمع ... فأين أنتم
أيها البعثيون الشرفاء الذين
تغارون على حرمـة حزب البعث
العربي الاشتراكي !!!؟ أين أنتم
!!! ماذا تنتظرون !! التحقوا
بالمعارضة السورية الداخلية
والخارجية ، لنقف جميعاً من أجل
إعادة الوحدة الحقيقة والحرية
الصحيحة والاشتراكية العادلة
لسوريا المغتصبة من قبل هذه (
المافيا ) ...
*كاتب
سوري في المنفى
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|