الإخوان
المسلمون
الحملة
الإنسانية خطوة أو مسار؟
سلمى
السهروردي
هناك وسائل غير القتل إذاً لدفع
الظلم هكذا أرادوا أن يقولوا أو
هكذا أردت أن أفهم، فلنكن معهم.
حين تسامعت أن الإخوان المسلمين
يطلقون حملة إنسانية لإسقاط
القانون 49/1980 الذي ينتمي
تاريخياً إلى قانون نمرود (حرقوه
وانصروا آلهتكم..) أو قانون
فرعون (لأقطعن أيديكم وأرجلكم
من خلاف، ولأصلبنكم في جذوع
النخل..) في جذوع النخل وليس على
جذوع النخل، إمعاناً في الإعجاز
من الكتاب العزيز، أو قانون ذي
نواس (صاحب الأخدود..) أو ربما
قانون هتلر في المحرقة الكبرى
في القرن العشرين.
حين تسامعت بذلك قدرت أن الإخوان
المسلمين بدؤوا يطرقون الباب
الصحيح بالأسلوب الصحيح. هاهنا
حملة إنسانية في موضوع إنساني
وحضاري وديني وقومي ووطني..
طريقة من التعاطي هي أجدى عليهم
بمليون مرة من اغتيال نافذ هنا
وفاسد هناك. قلت لا بد أن القوم
قد تعلموا في محنتهم التي
شاركوا في صناعتها لأنفسهم
ولغيرهم أشياء كثيرة فلا أقل من
أن تستجيب للنداء الصحيح أكف
التصفيق على طريقتنا، أو أصداء
التهليل على طريقتهم، وربما لا
يعلم الكثيرون أن معنى التهليل
ترداد كلمة /لا إله إلا الله/ وأن
الأوائل كانوا يقولون (هلل وكبر..)
ونحن اليوم نقول إن الجماهير
استقبلت الرئيس الروسي أو
الوزير الأمريكي بالتهليل
والترحيب..!!
نعم قرأت في الحملة الإنسانية،
ومازلت مرتبطة بهذا الوصف (الإنسانية)
أشياء أكثر بكثير مما قرأت في
ميثاقهم الوطني، أو في برنامجهم
السياسي أو تحالفهم مع
إعلان دمشق أو عبدالحليم
خدام أو حتى مع انفتاحهم
الحواري المعلن على الجميع.
هذه الحملة وضعتني مباشرة أمام
عنوان المسرحية العربية /العيال
كبرت/ ولفظ العيال هنا لا يراد
منه استصغار شأن، ولا التقليل
من مكانة، لأنني أعتقد أننا
جميعاً /عيال الله/ بدلالة
العربية الفصيحة /الخلق كلهم
عيال الله/ وعيال الوطن بدلالة
اللهجة المصرية الشائعة.
تتفق مع الإخوان المسلمين أو
تختلف تقترب منهم أو تبتعد،
تؤيد أو تعارض، ليس لك من خيار
إن كنت سليم العقل مستقيم
التفكير إلا أن تعترف أن هؤلاء
الناس جزء من البنيان الوطني
والنسيج الاجتماعي والتطور
الثقافي. وهم بالمعايير كافة
ليسوا الجزء الأشل بل هم جزء
حيوي فاعل، وإن كانت العرب قد
قالت من قبل (يدك منك وإن كانت
شلاء..). ولقولي جزء حيوي وفاعل
دلالتان الأولى أنهم فاعلون على
الحقيقة فهم على الرغم من
القانون 49/1980 موجودون في كل مكان
متحركون في بيوت الوبر والمدر،
لم أدخل وزارة من الوزارات في
زيارتي القريبة لدمشق إلا
وأطلوا عليّ برأس فتاة تحتجب في
خفر، أو بعذار فتى ربما يذكرك
بالكثير مما نظم أبو نواس. وإذا
خرجت من الرسمي إلى الشعبي، ومن
الدائرة الرسمية إلى الشارع
رأيت ما لا يمكنك تصديقه، وخلت
أن قانون الموت هذا، القانون
49/1980 هو ماء الحياة الذي كان
يبحث عنه الاسكندر الأكبر، حتى
نما من عناهم في
ظله كما لم ينموا قط. وتكاثروا
كنبت في أرض قيعان أصابها وابل
أو طل.
أما إذا عنَّ لك أن تدخل مكتبة
فستجد نفسك محاصراً بهم فعلى
أرفف المكتبات الكبرى في
مدينتنا دمشق، وربما في عالمنا
العربي أيضاً يحضر (الماضي) أو (التاريخ)
بكثير من العبق، وبكثير من
الترف. طبعات أنيقة خلابة
بمضامين تنقلك إلى عالم نجيب
محفوظ في (ثرثرة فوق النيل)،
تزين لك الهروب من ذلك اليومي
ومن فقرك وإحباطك إلى عدل عمر
وعصمة المعتصم!!
عالم ترد فيه امرأة على عمر،
وينتقد فيه عليٌّ قاضيَه لأنه
كناه ولم يكن خصمه اليهودي،
وينادي فيه الرشيد السحابة:
اهطلي حيثما شئت فسيأتيني
خراجك، ويرعد في أفقه صوت
المعتصم يلبي امرأة استغاثت به:
لبيك يا أختاه، وأنت تسمعهن
وتراهن كل يوم ينادين في بغداد
وفي القدس وما من مجيب!! عالم يبيع
فيه العز بن عبدالسلام ملوك مصر
أو مماليكها قبل أن يفرض ضريبة
حربية على رعيته الحقيقية التي
أطلقت عليه لقب سلطان العلماء.
عالم يمد فيه أحد علماء دمشق
أمام موكب إبراهيم باشا رجله
بلا مبالاة.. وحين يحاول إبراهيم
باشا أن يصله (ببدرة) يقول الشيخ
لوكيل الباشا: قل لمولاك من يمد
رجله لا يمد يده. عالم من
التاريخ الحي يتراءى لأصحابه
كأنه طوع أناملهم فيهيمون خلفه
كما أكاد وأنا أتابعهم من بعدي
هذا أن أهيم.
لا أريد بهذه الأسطر، كما قد يفهم
البعض، أن أزيف تجربة الإخوان
المسلمين، ولا أن أعدو على
عالمهم. لقد سمعت الكثير منهم
يعلن أنهم ليسوا حركة ماضوية!!
حسناً ولكن ما أرصده على أرفف
المكتبات في عالمنا، وما أسجله
في هذه الأسطر، هو جزء من
النصيحة التي يعتبرونها حقاً (لهم
وعليهم).
عليهم إذاً أن يهزوا أقلامهم
ليحدثونا، وليحدثوا أتباعهم عن
رؤيتهم للحاضر الأزمة في كل
منحنياتها وللمستقبل المنفرج
في كل آفاقه.
/الماضوية/ في التكوين الثقافي
والابستيمولوجي للإخوان
المسلمين لا يعالجها بيان
سياسي، ولا برنامج حزبي، ربما
يصنعه مثقف متسيس بعناية. وإنما
يعالجها توجه عام، وزخم في
الإنتاج. يعالجها حضور العصر،
وتواري التاريخ إلى مكانته
الطبيعية، من حقك أن تذكر مآثر
أبيك إذا سمرت في ليالي الشتاء
الطويل أما أن تنشغل بتعداد
آبائك إلى أبيك الأول آدم فأنت
في ضياع.
والإخوان المسلمون ضائعون أو
مضيَّعون بين تاريخ أوغلوا فيه
حتى عجزوا عن الخروج منه
فأرادوه انموذجاً وليس شاهداً.
وهنا تكمن الخطورة. الخطورة في
ألفاظ تجري على ألسنتهم دون أن
يلقوا لها بالاً /العودة.. الردة
إلى الدين/. يبدو أنني قد أطلت،
وما أظنني أطلت، لأنه موطن فتح
لي باب الكلام فيه وربما لا أعود
إليه.
المسلمون الأوائل عبروا عن حالة
الانخلاع من الإسلام التي تبعت
وفاة الرسول (بالردة) فكأن
المنخلع يقوم بخطوة إلى الوراء.
وكذلك استأنس بكل ما ورد في
الكتاب العزيز من معان الارتداد.
إنما ورد في ميدان الذم والهجر
والتنديد فكيف يتأتي لداعية
مسلم أن ينادي كل يوم (اللهم
ردنا إلى دينك..) دون أن يترك في
مخيلتي فكرة العودة إلى الوراء؟!
لماذا هم دائماً يتخيلون أن
الدين وراءهم وليس أمامهم؟! إذا
كان الدين نص ثابت متجدد كما
يرددون فلماذا يتخيلونه
إنساناً وبيئة؟! أي سلف مضى
وزمان خلا ومكان عدت عليه
السنون؟! وإذا كان الدين نور
ينير للإنسان سبيله في هذه
الحياة أفليس من الواجب أن يسعى
نوره بين يديه (يوم ترى المؤمنين
والمؤمنات يسعى نورهم بين
أيديهم وبأيمانهم..) بينما يكون
الجواب للآخرين (ارجعوا وراءكم
فالتمسوا نوراً..).
نلحظ في حديث القرآن عن (الآباء..)
بمعنى السلف، وعن الوالدين
المباشرين مع الوصاة بالبر بهما
والإحسان إليهما، تحذيراً
مباشراً من طاعتهما فيما يبعد
عن الله أو يخل بنواميس الحياة (وإن
جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به
علم فلا تطعهما..) دائماً في
السياق القرآني يكون الماضون
موضع ضلالة ويكون (المحدثون)
الذين يجب أن يتحالفوا مع نداء
عقولهم موضع ترحيب. حالة واحدة
مرت في القرآن، على غير استقصاء
مني ـ فلست بصاحبة اختصاص ـ لفتت
نظري إلى الولد المنشق الآبق (..
وهما يستغيثان الله ويلك آمن..).
يؤيد السياق حالة سيدنا إبراهيم
مع أبيه أزر، ويخرج عليه حالة
سيدنا نوح مع ولده الذي قيل له (..
إنه عمل غير صالح..) وفي غير هذا
ظل السياق القرآني دائماً في
إطار التنديد بالتقليد للماضين
لأنهم ماضون فقط. وهي حالة
انثربولوجية بدأت مع الطوطميات
المتوارثة.
قلت إن الإخوان المسلمين جزء
فاعل حقيقة في المجتمع، ويتكئون
على إرث ضخم بإمكانهم أن يحولوه
إلى شرنقة، ولو من حرير،
فيختنقوا ونختنق معهم،
وبإمكانهم أن يحولوه إلى قاعدة
تكون الجزء الغائص من السفينة
التي نتطلع إليها، وأنا أريد أن
نساعدهم جميعاً على ذلك. لأنهم
مع أنهم فاعلون اليوم على
الحقيقة، وتلك إحدى دلالات
الكلمة. فهم أيضاً فاعلون (بالقوة)
حسب المصطلح الأرسطي وتلك هي
دلالتها الثانية. والفعل بالقوة
يشير إلى ما يمكن أن يفعلوه بنا
أو بأنفسهم غداً. وهل كانت
انتخابات مصر وفلسطين إلا
معياراً لقوتهم. وهل يتجاهل هذا
المعيار إلا المكابرون؟!
وخياراتنا أمام واقع كهذا
محدودة، فنحن إما أن نمعن في
سعينا إلى تجريدهم من قوتهم
ومحاصرتهم واستئصالهم، وهذا ما
لم نقدر عليه منذ نصف قرن، جربه
عبدالناصر في مصر، وجربه حافظ
الأسد في سورية، وجربه الغرب كل
الغرب والشرق كل الشرق في
المنطقة أجمع ولم ينجح ولن ينجح
هذا من جهة، ومن جهة أخرى ففي
هذا هدر لجهدنا وجهدهم الذي
نأمل أن يكون موحداً!! ونحن بين
هذا الخيار وبين أن نكون إلى
جانبهم، ليس في مقام الوصي
خرىأخوالمرشد وإنما في مقام
المحاور المتعاون. وهم قد فتحوا
الأبواب ظاهراً في هذه المرحلة
بالذات فماذا يمنعنا من الولوج؟!
امتناع (فتح) عن المشاركة في
حكومة فلسطين التي شكلتها حماس
كان موقفاً حزبياً مقيتاً ولم
يكن موقفاً فلسطينياً. وسياسات
الحجر والمحاصرة والاستئصال
والاجتثاث التي أصر عليها بشار
الأسد، رغم انتفاء دواعيها،
مرفوضة أيضاً بغض النظر عن
المقصود بها. لا أدري لماذا
يتردد الكثير من بني قومي في
التنديد بالمحرقة النازية أو
بإدانتها، وأنا أكيدة أنهم لا
يمتلكون في الدفاع عن موقفهم
هذا مرجعية دينية أو إنسانية.
وحين أتعاطف مع ضحايا النازية،
وأدين هتلر، وأصم أذني عن كل
ذرائعه، لا أدري كيف لا يمكنني
أن أتعاطف مع ضحايا العنف
الأعمى في بلدي؟! كيف لا أدين كل
عمليات القتل على اختلاف الجهة
والباعث والأداة؟! دون أن أوازي
على الحقيقة بين مسؤولية (الدولة)
ومسؤولية الفرد أو المنظمة.
ودون أن أقبل بالطبع أن جريمة
يقوم بها فرد أو أفراد يمكن أن
يدفع ثمنها شعب بأكمله أو حزب
بكل مكوناته!! لا معادلة من
الناحية القانونية والحقوقية
بين مسؤولية الفرد ومسؤولية
الدولة وهذا الذي يتجاوزه
الكثير من المهرجين. إن
الأرقام التي تناهت إليها
عمليات الانتقام القبلية التي
ارتكبت باسم الدولة وأدواتها
تجعل معايير الجرم ومنعكساته
والموقف منه محتاجاً إلى الكثير
الكثير من التأمل. وحين تتأمل لا
بد أن تقول أن ثمة عملاً محدوداً
كان ذريعة لجائحة أحرقت الأخضر
واليابس. وأن عدوان الفرد قد حول
الدولة إلى عدو لأبنائها فقتلت
من وجب عليها أن تحميه..
إن القتل الأول كان ذريعة لقتل
شعب سورية أجمع، وإخراجه من
الحياة إلى حافاتها، وتحويله من
شعب حيّ ومؤثر إلى شعب خائف
متردد يجمجم ويحمحم كما حمحم
وشكا جواد عنترة.
حين تسامعت أن الإخوان المسلمين
يطلقون حملة إنسانية لإسقاط
القانون 49/1980 سارعت للتوقيع
عليها تأشيراً على أن الإخوان
قد بدؤوا فعلاً يطرقون الباب
الصحيح. ولأنني أعتقد أن تصحيح
مسار فريق فاعل ومؤثر أهم بكثير
من قيمة الخطوة وحقيقتها.
الحملة الإنسانية التي يطلقها
الإخوان المسلمون هي تحية من
عيار جديد للأمة وللشعب في
سورية ومن حقهم أن يتلقوا جواب
التحية ليشعروا بالجدوى
والصدقية. ولو كنت مكان
الكثيرين في هذا العالم بدأ من
الأمين العام للأمم المتحدة أو
للجامعة العربية أو لمنظمة
المؤتمر الإسلامي بل لو كنت
مكان بشار الأسد نفسه لوقعت على
الحملة عينها بالمفهوم عينه.
قلت في تعليقي على حملة الإخوان
المسلمين (العيال كبرت) ولكن
يبدو أن بعض الناس لم يكبروا بعد.
وعلى الإخوان المسلمين أن
يتمسكوا بنهجهم الجديد وإن تخلى
الناس عنهم إلى حين.
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|