التعذيــب
- 11
الدكتور
خالد الاحمد*
مقـدمـة
:
يقول
فلاسفة التاريخ : الهدف من دراسة
التاريخ ليس اجترار الآلام ،
ونبش الماضي بروائحه المتعفنة
واسترجاع الصـور المبكيـة ،
وإنما هو أخذ العبرة من الماضي ،
الماضي الذي كلف سوريا عشرات
الآلاف من خيرة أبنائها ، كي
لايضيع الماضي سـدى ، فنستفيد
منه في الحاضر ، وعندما أتحدث عن
المذابح الجماعية التي مارسها
نظام حافظ الأسـد في سوريا ، أو
أنواع التعذيب وأساليبه
الوحشية ؛ لا أقصد منها سوى أن
نعتبر من الماضي المؤلم ، وأن
نتخذ كافة الاجراءات
والاحتياطات كي لايعود هذا
الماضي ، ونجتث الأسباب المؤدية
لهذا الماضي المروع من جذورها ،
وأهم تلك الجذور الحكم الفردي
الديكتاتوري ، الذي استخدم
الجيش ( جيش الشعب ) كما قالوا
عنه ، استخدم جيش الشعب ليقتل
الشعب بدلاً من أن يحميه. وينهب
أموالـه وأثاث منازلـه بدلاً من
المحافظة عليها .
ويتابع
الأخ محمد سليم حماد عرض مشاهد
من التعذيب التي صبت عليه وعلى
إخوانه في سجن تدمـر ، في دولة
النظام الاستبدادي الأسدي ، هذا
النظام الذي قتل قرابة مائة ألف
مواطن من خيرة المواطنين ، وسجن
عشرات الألوف ، وشرد خارج سوريا
مئات الألوف أيضاً ...
مصيـدة
الطلـيعـة !
ومضت
الأيام ظاهرها الإنفراج
وحقيقتها لؤم صرف وجشع وخسة
تعصرنا من كل جنب عصراً .
وخلال ذلك لم تتوقف دفعات
القادمين الجدد إلى المهاجع
مثلما لم تتوقف عمليات الإعدام .
وكلما أخذوا من السجناء مجموعة
للإعدام أحضروا مجموعة من
المعتقلين الجدد بدلاً عنهم .
لكن الحدث الجديد الذي زاد
الطين بلة والعذاب عذاباً وقتها
كان نجاح النظام في استدراج
مجوعات من تنظيم الطليعة [ هؤلاء
هم الشباب المسلم الذي انشق عن
تنظيم الإخوان ، وحمل السلاح ضد
النظام السوري ، دفاعاً عن دينه
ودمـه وعرضـه ، بعد أن أجبرهم
النظام على ذلك ] . إلى سورية
واعتقالهم جميعاً في خطة محكمة
أوقعت عدنان عقلة نفسه بين أيدي
المخابرات .
وكان
استقبال شباب الطليعة غاية في
الوحشية والفظاعة . وفي
البداية تم عزلهم في مهجع خاص
بهم صبوا عليهم فيه ما لا يوصف
من العذاب .. حتى سلخوا جلودهم
وهشموا أطرافهم وتركوهم من غير
علاج يعانون أشد المعاناة ..
إلى أن تعفنت أرجلهم المتقيحة
وتفتحت جروحهم المتعفنة وسرت
فيهم الغانغرينا فقضت على عدد
غير قليل منهم . وبعد مدة
وزعوا من بقي من هؤلاء الإخوة
على بقية المهاجع ، كان منهم
أخ من حلب التقيته اسمه أيمن
عنجريني تم إعدامه فيما بعد .
وآخر لم ألتقه ولكنني سمعت عنه
وبلغني أنه أعدم بعدها وهو طاهر
العلو من قرى حلب . ومن هؤلاء
سمعنا بما جرى .. وبلغتنا
أخبار الأحداث بالترتيب ..
بدءاً بالشَرَك الذي أوقعهم فيه
النظام عبر عميل مدسوس في صفوف
التنظيم اسمه محمد جاهد دندش ،
[الذي لقب بأبي عبد الله الجسري
، وهو ضابط مخابرات عسكرية ،
ادعى أنه تاجر زيت يتردد على
عمان لهذا الغرض ، وادعى أنه من
أنصار الطليعة ، وأنه هيأ قواعد
للطليعة مع الحدود التركية ،
ونجح في خطته وأدخل عناصر
الطليعة إلى سوريا ، ليتم
اعتقالهم ] وانتهاء بوحشية
التعذيب الذي لاقوه قبل أن
ينقلوا إلى مهاجعنا .
وملخص
ما حدث مع تنظيم الطليعة الذي
توزع أكثر أعضائه بين الأردن
العراق بعد أحداث حماة أن
قيادته قررت العودة إلى الداخل
لمعاودة بناء قواعدها وبدء
مواجهة جديدة مع النظام .
فالتقط جاهد دندش هذا الخيط
وأوحى للطليعة أنه قد أمن لهم
الطريق الآمنة والأدلاء
الخبراء لإيصال العناصر إلى حلب .
وبدء نزول الشباب عن طريق
الحدود التركية السورية مجموعة
بعد أخرى يتقدمهم عدنان نفسه .
كان جاهد والمخابرات السورية
يستقبلونهم أولاً بأول دفعة
وراء دفعة ويرسلوا إلى قيادة
الطليعة في الخارج الإشارة
المتفق عليها فيما بين النازلين
والقيادة إشعاراً بسلامة
الوصول . حتى اكتمل نزول
قرابة السبعين أخاً سقطوا
جميعاً بين أيدي النظام لا حول
لهم ولا قوة .
ولم
نعلم عن مصير عدنان عقلة نفسه
شيئاً مؤكداً ، إلا أن بقية
الإخوة تنقلوا من فرع العدوي
إلى التحقيق العسكري فتدمر .
تصـفيـات
جـماعيــة
وما
لا ينسى من أيام عام 1984 المريرة
أننا شهدنا فيها أحد أكبر
عمليات الإعدام الجماعي إن لم
تكن أكبرها على الإطلاق .
فبعد انقطاع تنفيذ الأحكام عدة
أشهر في تلك الفترة فوجئنا
بالمشانق تنصب ذات يوم في
الساحة السادسة بأعداد كبيرة ،وراح
الزبانية يخرجون من الإخوة
المعتقلين فوجاً إثر فوج إلى
حتفهم . يومها قدّر الإخوة
الذين تمكنوا من مشاهدة جانب
مما يجري من خلال شق في الباب
عدد الذين أعدموا بمائتين من
غير مبالغة ، كان من بينهم
كما بلغنا الأخ يوسف عبيد من
دمشق . ومع تسرب الأخبار فيما
بعد قدرنا أن تلك الإعدامات
ترافقت مع حالة النزاع التي
حصلت بين رأسي النظام حافظ
الأسد وأخيه رفعت ، والتي
شهدت حشودات عسكرية حقيقية
بينهما . وفسرنا ما حدث بأن
رفعت كان يهيؤ نفسه لاستلام
الحكم بعد المرض الذي ألم بأخيه ،
ولذلك أراد أن يصفي أكبر قدر
ممكن من السجناء وينهي كل خطر
مستقبلي محتمل .
المـديــر
الجـديـد !
ولكن
الأخ الأكبر تعافى بقدرة قادر ،
وعاد يمارس سطوته على البلاد
والعباد ، وهاله أن يجد النخر
دبَّ في أركان النظام وبين
رؤوسه المقربين ، فبدأ -
مثلما تسرّب بعد ذاك - حملة
تطهير وإعادة توزيع للأدوار .
وفي هذا السياق طالت التغييرات
إدارة سجن تدمر ، ووجدنا
الشرطة العسكريين يطلبون رؤساء
المهاجع لاجتماع مشترك في شهر
تشرين الأول من عام 1984 . وذهب
رئيس مهجعنا فيمن ذهب ، فلما
عاد بعد قليل ونحن متلهفون
لسماع الأخبار أخبرنا أن مدير
السجن قد تغير ، ورحل معه
مساعد الإنضباط وسمسار الضحايا
محمد الخازم . وأن المدير
الجديد هو مساعده ونائبه النقيب
زكريا العش . وأنه اجتمع بهم
وهم مغمضو العيون وحذرهم من أن
التراخي الذي ساد في الفترة
الماضية قد انتهى .. وعاد
النظام الآن وعاد الإنضباط .
ورجع نظام إقفال العيون أمام
الشرطة .. والويل كل الويل
للمخالفين!
ولم
تمض برهة من الوقت ونحن لم نكد
ننتهي من أسئلتنا وتساؤلاتنا
بعد حتى حضر الشرطة لأخذ التفقد .
فصاحوا فينا فور دخولهم أن نغمض
أعيننا ونقف بوضع الإستعداد .
وما لبثوا أن ساقونا إلى خارج
المهجع وانقضوا علينا ضرباً
وصفعاً وجلداً حتى سلخوا جلودنا .
وبدأنا من يومها مرحلة جديدة من
الشدة والعذاب . وعاد التفقد
الصارم والتنفس المقيت والقتل
والتعذيب والإهانات . وكان
الإعفاء الوحيد للمسلولين من
الحمام رحمة تقينا عذاب تلك
الساعة ، لكنهم سرعان ما
عوضوها بمضاعفة العذاب علينا في
التنفس !
وتوقف
بث الإذاعة عنا من حينها .
وصدر الأمر من ذلك الوقت بتكميم
أفواه الخارجين للإعدام فلم يعد
يسمع لواحدهم قبل أن يطوق عنقه
حبل المشنقة صوت ولا تكبير .
وعاد البطش أشد علينا من السابق .
ثم لم يلبث أن اشتد أكثر وتضاعف
بحضور المدير الجديد اللواء
غازي الجهني لاستلام منصبه بعد
قرابة شهرين . فارتفعت وتيرة
البطش إلى أقصى درجاتها .
وعاد الشرطة إلى ممارسة التعذيب
الوحشي من جديد . حتى أنهم
أخرجونا في أحد الأيام للتنفس
مغمضي العينين كالعادة تلاحقنا
السياط والعصي والكرابيج .
فكان قدر أخ من حلب اسمه عبد
الباسط دشق أن تصيبه ضربة من
هؤلاء الزبانية على عينه مباشرة
فتفقأها . فعاد المسكين عندما
عدنا تغطي الدماء وجهه ، وهو
لا يكف عن التقيؤ من شدة ألمه .
وعندما دق مسؤول مهجعنا الصحي
وقتها الأخ علي عباس من ادلب
ليخبر الشرطة بحال الأخ ، لم
يجرؤ أن يقول لهم أن أحداً منهم
أنفسهم فقأ عينه ، بل اعتذر
وسألهم العفو وهو يقول لهم بأن
أحداً من مهجعه سقط في الحمام
ففقئت عينه !
لكن
أحداً لم يبال ، ولم تسفر
المحاولات المتكررة عن شيء .
وحينما تكرم طبيب السجن وحضر
لمعرفة سبب شكواه بعد يومين أو
ثلاثة لم يزد عن أن أعطاه بضع
حبوب مسكنة ومضى . وظل
المسكين يعاني عذاباً لا يوصف
شهوراً عديدة من غير أن يهتم به
من هؤلاء الزبانية أحد .
تـأديــب
!
وعلى
الرغم من هذا البطش أو ربما
بسببه قام واحد من المعتقلين
اليافعين من ادلب من بيت سيد
عيسى نزيل مهجع الأحداث 36
بالتصدي ذات يوم لواحد من
الشرطة آذاه كما يبدو في الباحة
أثناء التنفس فهجم عليه الشاب
وضربه . ورغم أن الحادثة كانت
عفوية لا تعدو أن تكون ردة فعل
انفعالية وحسب ، وعلى الرغم
من أن الشرطي رد عليه وقتها
وأشبعه ضرباً ، إلا أن الأمر
أخذ بعداً كبيراً . فأدخلوا
السجناء إلى المهاجع كلهم ،
وحضر مساعد السجن الجديد محمد
نعمة بنفسه يحقق في الأمر .
وأخرجوا الأخ المسكين فأجلسوه
في الدولاب وانهالوا عليه ضرباً
وجلداً حتى كادوا يزهقون روحه .
وبعدما انتهوا أخرجونا نحن
سجناء الباحة السابعة كلنا
وضربونا ضرباً مبرحاً حتى
يؤدبوننا ويقتلون فينا أي مشاعر
محتملة بالتمرد . ولذلك لم
يكن الإخوة يردون على أذى
الشرطة واعتداءات جلادينا
لسببين : فهم يعلمون أولاً أن
النتيجة محدودة إن لم تكن
منعدمة ، فيما سيكون الخطر
متحققاً وغير محدود ، وربما
أفضى بالشخص إلى الهلاك .
ولخشيتهم ثانياً أن تتسبب أعمال
كهذه في إيقاع الأذى ببقية
السجناء من غير سبب ولا حاجة .
وكان الشعور السائد أننا وقعنا
بأيدي الظلمة بقدر الله ،
وأننا إذا احتسبنا وصبرنا فهو
خير لنا من أن نتسبب لنا ولمن
حولنا بمزيد من المفسدة والأذى .
آيـة
الله في أبي عـوض !
غير
أن الرأي لدى بعض الإخوة كان
مختلفاً بعض الشيء كما يبدو .
والصبر على هذه الأهوال وقد فاض
الكيل انتهى بهم إلى قرار
الإنتقام من أجير الإدارة
وكلبها الخسيس أبي عوض . الذي
بلغ تطاوله مدى لا يسكت عنه ..
وتجاوزت وقاحته حدود العفة
والأخلاق . فاتفق عدد من شباب
المهجع 26 على تأديبه ونفذوا ما
اتفقوا عليه . فاجتمعوا
وانهالوا عليه ضرباً لم يكن له
أن يرده . فلما قلب أبو عوض
الأمور وفكر وقدر .. وجد نفسه
قد انكشف وتحطمت هيبته الواهية .
ورآها كأنما فرصة ترفع منزلته
لدى المدير الجديد . فطلب
مقابلة الرقيب فجأة وأخبره بأن
لديه أخباراً مهمة يريد أن
يوصلها للإدارة . ولما سأله
عن نوع هذه الأخبار قال له أبو
عوض إنه اكتشف وجود تنظيم
للإخوان داخل المهجع . فكانت
هذه العبارة أكثر من كافية
لتستنفر الرقيب والمدير وكل
الزبانية على هذه الحفنة من
السجناء المساكين .
واقتحم
الشرطة المهجع على الفور
ينتظرون الإشارة ليفتكوا
بالمساجين . فلما رأى الإخوة
الأمر بهذه الخطورة قرروا أن
يقفوا صفاً واحداً في وجه
افتراءات أبي عوض وتسلطه .
وجعلوا يخبرون الرقيب بكل
مخالفاته وسرقاته والرشاوى
التي أخذها والإنحرافات التي
أحدثها . وأكدوا له أن
اتهامات أبي عوض محض اختلاق .
وأنهم أمامه جميعاً مستعدون
لتحمل أشد أنواع العقوبات إذا
ثبت من تلك الإتهامات شيء .
وسبحان
من جعل الشرطة يصدقون السجناء
هذه المرة . لا ندري أهي غيرة
من أبي عوض الذي بات يتمتع
بمزايا ويجمع من الأرباح
والأموال ما لم يتح حتى للشرطة
العسكرية أنفسهم .. أم أن
الأمر أتى انسجاماً مع عهد
المدير الجديد الذي أراد أن
يساوي المساجين كلهم في العذاب
والمعاناة ويفرض هيبته على رموز
العهد البائد ! كل الذي
دريناه وعلمناه أن الرقيب أمر
أبا عوض وقد بُهِت أمام جرأة
الإخوة أن يجمع أغراضه ويخرج .
ومن رئاسة مهجع 26 اقتيد أبو عوض
إلى الحلاق هذه المرة فجز شعره
وشاربيه ، ثم ألقي به في مهجع
31 مجرداً من كل صلاحياته
السابقة .
ودارت
الدائرة على أبي عوض . وجعل
الشرطة منه هدفاً معلّماً
يخرجونه إلى الباحة كل يوم
لينال عذاباً مستقلاً . وصرنا
نسمع صياحه وتوسلاته تصم الآذان ..
وصراخه يملؤ السجن كله . حتى
سلخوا جلده من القتل وحطموه من
التعذيب . وظل ستة أو سبعة
أشهر على هذه الحال يذوق وبال
أمره ويكتوي بسيف أسياده أنفسهم .
وفي أواخر عام 87 نقل أبو عوض إلى
سجن صيدنايا مع مجموعة من
السجناء . فأنجانا الله من
شره ومكره . وأرانا آية باهرة
فيه لا تنسى .
المحـكمــة
!
وانتهى
العام .. ومضت أيام عام 85 على
نفس الوتيرة من العذاب والقهر
والمعاناة .. لتمضي قرابة خمس
سنوات على اعتقالي .. حكم
خلالها من كان من دفعتي بما حكم ،
ونفذت الإعدامات بمن كان نصيبه
حكم الإعدام ولم تتم محاكمتي
أنا بعد . ولقد كان ذلك مصدر
قلق دائم لي . فالمصير الواضح
يظل في النهاية أخف من انتظار
المجهول . والأعمار كلها بقدر
الله أولاً وأخيراً .
وفي
يوم 30/3/1985 وحوالي الساعة
العاشرة فتح الشرطي شراقة الباب
في مهجع السل 35 وتلى أسماء عدد
من السجناء من لائحة بيده
مطلوبين للمحاكمة ، كان من
ضمنهم اسمي أنا واسم أخوين
آخرين من مهجعنا . وخرجنا أنا
والأخ حزين قاسم محاميد من
المعرة وهو ابن دفعتي أيضاً ،
وثالثنا أخ من قرى حلب خريج
المدرسة الشرعية من بيت المصطفى
فيما أذكر . وفي باحة الذاتية
تم تجميعنا قرابة السبعين أو
ثمانين شخصاً مغمضي الأعين
مكبلي الأيدي وأمرونا أن نجلس
القرفصاء وجوهنا للجدار
وظهورنا كالعادة باتجاه الشرطة
الذين لم يكفوا عن ضربنا وركلنا
ولطمنا بالعصي والخيزرانات
والكرابيج .
وبعد
قرابة الساعتين من الضرب والشتم
والتعذيب وصل دوري ونادى
المنادي اسمي فرفعت يدي
بالإجابة . وعلى باب الغرفة
التي تتم فيها المحاكمة أمرني
الرقيب أن أفتح عيني واقتادني
إلى كرسي أمام القاضي وأجلسني
عليه . لكنني بقيت من خوفي
وتحسبي مغمض العينين مطرق الرأس
حسب التعليمات . فناداني هذا
الرجل القابع وراء المكتب باسمي
وقال لي أن أرفع رأسي وأنظر إليه .
فعلت
ما قال صاحب الصوت .. ونظرت
فرأيت رجلاً قصير القامة أصفر
الوجه لئيم النظرات .. يتدلى
حول شفتيه شاربان رفيعان
يخضبهما الشيب فكأنهما شاربا
فأر عجوز . يتوسط شخصين آخرين
عن يمينه وشماله .. قدرت أنه
سليمان الخطيب الذي طالما تحدث
الإخوة عنه وقصوا من قصص لؤمه
وخَبَله الكثير !
من
نظمك ولا ؟
هكذا
ابتدرني سليمان الخطيب بالسؤال .
قلت
: سيدي أنا مش منظم .
قال
: شو اسمك إنت ؟
محمد
سليم حماد سيدي .
قال
وهو يمعن النظر في إضبارتي : انت
أردني ولا !
نعم
سيدي .
ما
بكفينا هالعرصات اللي عنا ولا ..
انت جاي كمان هون تقاتل معهن ؟
قلت
له : سيدي أنا ما قاتلت ولا عملت
شيء .
وعاد
يقرأ في الإضبارة للحظات ثم
سألني :
شو
علاقتك مع سالم الحامد ؟
قلت
وقد تبين لي أنه لم يطلع على
الملف من قبل : كنت أعرفه من
الجامعة .
ومن
غير أن يزيد أو ينقص عقد سليمان
الخطيب حاجبيه وقطب جبينه ثم
التفت نحوي وصاح :
نحنا
عم نحكم الناس هون بالإعدام ..
وإنت لازم نشنقك من بيضاتك !
واتجه
بنظره إلى الرقيب وقال له وقد
قضي الأمر : خذه .
وكانت
تلك نهاية محاكمتي . ومضيت
عائداً إلى الرقيب لا أكاد أحس
لشيء من حولي بطعم أو معنى .
فلما أعادني بدوره للشرطي أمرني
ذاك ومن غير مقدمات أن أفتح يدي .
فلما فعلت هوى بالكرباج عليهما
ثم أمرني أن أجلس مكاني .
وتتابع
دخول الإخوة إلى المحاكمة
وخروجهم منها . حتى إذا انتهت
الدفعة عادوا بنا كل إلى مهجعه .
وأقبلت على الأخوين الذين خرجا
من المهجع معي أسألهما عن الحكم
فأخبراني أنه الإعدام أيضاً .
لكن ذلك لم يكن بعد هذا الذي
رأيناه طوال السنوات الخمس
الماضيات يعني لنا الكثير .
فالموت في هذا المكان متوقع في
كل لحظة .. وهو إذا حدث خاتمة
الأحزان وباب الفرج . ووالله
ما رأيت أحداً ممن خرج إلى
الإعدام كل هاتيك السنوات التي
قضيتها هناك اختلجت له شعرة ..
الكل كان إذا دنت ساعته مقبلاً
غير مدبر . وإذا طلبوه بادر
بنفسه يستبق إلى الباب رغبة منه
بالشهادة ولقاء الله .
هذه
صور من الحريـة التي نادى بها
حزب البعث العربي الاشتراكي ،
والتي أراد أن يعممها في الوطن
العربي كله ، فسلط الله قيادته
القطرية على قيادته القومية ،
وأنهت دور حزب البعث منذ منتصف
السبعينات أو قبل ذلك بقليل ...
وبقي النظام الاستبدادي يحكم
سوريا بالحديد والنار باسم حزب
البعث ... يجمع وينهب خيرات سوريا
ولبنان ، ويسود صفحة حزب البعث
في العالم أجمع ... فأين أنتم
أيها البعثيون الشرفاء الذين
تغارون على حرمـة حزب البعث
العربي الاشتراكي !!!؟ أين أنتم
!!! ماذا تنتظرون !! التحقوا
بالمعارضة السورية الداخلية
والخارجية ، لنقف جميعاً من أجل
إعادة الوحدة الحقيقة والحرية
الصحيحة والاشتراكية العادلة
لسوريا المغتصبة من قبل هذه (
المافيا ) ...
*كاتب
سوري في المنفى
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|