إلى
كيلو و البني و الآخرين
أنتم
الأحرار حقاً و نحن المسجونون
د.
هشام الشامي
دأب النظام الأمني
في شامستان – و على مدى عقود
طويلة من الإجرام و القتل و
التنكيل و السجن و مصادرة
الحريات و منع الأحزاب و
المنتديات و التجمعات ، و إلغاء
حرية الرأي و التعبير ، و تدمير
المدن و ارتكاب المجازر و
المحرمات - على ترسيخ و تكريس
فكرة قبول المجتمع السوري
بسياسة الأمر الواقع ، و إرهاب
المجتمع و تحويله إلى مجموعة من
الرعاع لا هدف لها سوى المحافظة
على حياتها ، و الركض خلف لقمة
العيش و رزق العيال ، و عدم
التفكير بأمور السياسة و الأمور
العامة ، التي أصبحت حراماً على
المواطنين ، و حصراً على مجموعة
من الأشرار الظلام الفاسدين ،
الذين لا هم لهم إلا استمرارهم
في السلطة ، و استمرار
امتيازاتهم
و نهبهم المنظم و الجشع
لثروات و ممتلكات الوطن و
المواطنين ، و إن كان ذلك على
حساب الوطن و ثوابته ؛ و من أجل
تحقيق أهدافهم الدنيئة ، كانوا
لا يتوانون عن تقديم التنازلات
تلو التنازلات لأعداء الوطن
الذي لا يلام على استمرار
احتلاله للأرض و انتهاكه للحقوق
المغتصبة ، و ذلك على مبدأ
الشاعر الذي قال :
( لا يلام الذئب في عدوانه **
إن يكُ الراعي عدو الغنم ) ، و
بالمقابل كانوا غير مستعدين أن
يستمعوا ( عدا أن يقبلوا ) لأي
رأي معارض ، أو حتى تساءل محق عن
تصرفاتهم من أي مواطن حر أبي ،
يرفض أن يرى الظلم و يسكت عنه ،
فزجوا بكل الأحرار و المناضلين
من أبناء سوريا في السجون و
المعتقلات ، و تكاثرت أعداد
فروع الأمن و المخابرات ، و
انتشرت كالفطر على مساحة الوطن
، و أصبحت أعداد رجال الأمن
المتفرغين لمتابعة المواطن و
إحصاء أنفاسه ( و المفروض أنهم
الذين يسهرون على أمنه و
استقراره و حمايته من المعتدين
المتربصين ) تحسب بمئات الآلاف ،
و لهم من الإمكانيات و الأسلحة و
العتاد و الأهم من ذلك كله من
الصلاحيات ما يفوق السلطات
القضائية و التنفيذية و
السياسية مجتمعة ، بحيث أضحوا
بحق رجال الخوف و الإرهاب
المنظم ،
فأصبح المواطن السوري ( من أصغر
مواطن إلى أكبر مسؤول غير أمني )
يخاف من الكلام بالشأن العام
حتى مع زوجته و أخيه و أقرب
المقربين إليه ، إن لم نقل مع
نفسه التي بين جنبيه.
و من أجل أن يحقق
النظام الاستثنائي في تاريخ
سوريا ، رؤيته الاستثنائية ، سن
قوانين استثنائية ، لا تمت إلى
الإنسانية و العدالة و المساواة
بأية صلة ، فكانت قوانين
الطوارئ و الأحكام العرفية
المسلطة على رقاب شعبنا منذ
أكثر من ثلاث و أربعين عاماً (
فقط ) و كان قانون العار و
الجريمة المنظمة ذي الرقم
المشؤوم 49 منذ عام 1980م ، و ما
سبقهما و تلاهما من قوانين
استئصالية ، جعلت من فئة محددة
بدقة من المجتمع ( الفئة
المتسلطة و المستفيدة ) هي فقط
صاحبة الحق في الحكم ، و التشريع
و الإعلام و التنظيم و البت في
كافة شؤون المجتمع و التكلم
باسمه ، و لا يحق لغيرها أي تدخل
أو مناقشة أو تساؤل أو معارضة ،
حتى أصبح أي تساءل في الشأن
العام خيانة للوطن تستحق محكمة
ميدانية عسكرية تستأصل الفكرة
من مهدها ، قبل أن تمتد و تنتشر ،
و يصعب وضع حد لها من كثرة
التساؤلات و الاستفسارات التي
تغلي داخل صدور المواطنين ، عما
فعلت هذه السلطة بعد كل هذه
العقود ؟، و ماذا قدمت للوطن من
خدمات ؟، و أين هي الشعارات
البراقة التي رفعتها ، و ماذا
حققت منها حتى الآن ؟ .
كما ساعدت الظروف
الدولية ، و الحرب الباردة ، و
اللعب على الحبال التي أتقنها
ميكافيلي سوريا / الأسد الأب ، و
تقديمه لكل التنازلات المطلوبة
و خضوعه لكل
الاملاءات المفروضة من
أعداء الوطن ، في التغطية على
جرائم النظام ، و السكوت عنها ،
رغم فظاعتها و تجاوزها كل
المحرمات الإنسانية .
وبعد أن غيب النظام
الأحرار بالموت و السجون ، و
أرهب المجتمع بالتدمير و
المجازر ، و فرض ثقافة الصمت و
الخوف التي أصبحت الثقافة
السائدة في المجتمع السوري و
خاصة بعد أحداث نهاية السبعينات
و بداية الثمانينات ، و
بالتحديد بعد مجزرة حماة الكبرى
في شباط 1982م و نقول الكبرى لأنها
سبقتها مجازر أصغر في حماة
نفسها و في حلب و جسر الشغور و
سرمدا و مجزرة تدمر بحق
المسجونين السياسيين ، كما
تبعها مجازر أخرى أصغر في جبل
الزاوية و غيره من مناطق سوريا ،
كما كانت المجزرة مستمرة و على
مدى عقدين من الزمان ، في حفلات
الإعدام الأسبوعية داخل سجن
تدمر ؛ بعد كل ذلك شعر النظام
أنه أرهب الناس و المجتمع إلى
أبد الآبدين ؛ و أطمأن أن سياسته
الإجرامية قد آتت أكلها.
ثم جاءت تحولات
العقد الأخير من القرن الماضي ،
و انهيار جدار برلين ، و ما تلاه
من سقوط الديكتاتوريات
الاشتراكية و تفكك الاتحاد
السوفيتي ، و انتهاء الحرب
الباردة ، و تحول السياسة
العالمية نحو القطب الوحيد
الأمريكي ، فعوضاً أن يتعظ
الأسد و يعود إلى شعبه ، حوّل
الأسد الأب - الذي لا هم له إلا
المحافظة على ملكه - بوصلته
المذبذبة ، ليدخل الحرب مع عدوه
التقليدي الأمريكي في معركة
تحرير الكويت ، ثم تابع انحراف
سياساته التقليدية ، و تنازل عن
قضاياه المركزية التي كان يتاجر
بها ليل نهار ، و دخل عملية
السلام مع الصهاينة في مدريد ، و
في نفس الوقت كان يحضّر على
المستوى الداخلي للمملكة
الأسدية الأبدية التي أصبحت
الشغل الشاغل له و لنظامه ، كل
ذلك دعاه لبدأ حملة إطلاق سراح
غيض من تبقى من فيض السجناء
السياسيين على دفعات صغيرة
بدءاً من نهاية عام 1991م .
و استمرت الأمور
على ما هي عليه
حتى وفاة الأسد الأب في
حزيران من عام 2000م ، و تتابعت
فصول المسرحية ، التي ألفها و
أنتجها الأسد الأب ، و شاركه في
إخراجها شلة العصابة المستفيدة
من استمرار مسلسل سلب ما بقي من
خيرات الوطن حتى الثمالة .
و بدأ الأسد الثاني
بنفس الوعود التي خدرنا بها
الأسد البائد في بداية عهده
الطويل ، من إصلاح و مساواة و
عدالة و محاربة فساد ، و تحقيق
المصالحة الوطنية ، و إنهاك كل
قوى التسلط و الظلم و الاحتكار
التي احتكرت المجتمع لتحقيق
مصالحها و أطماعها التي لا
تنتهي .
و شيئاً فشيئاً
بدأت الأمور تسير نحو الوجهة
الحقيقية المتوقعة التي لا يمكن
لمثل هكذا نظام استبدادي ،
شمولي ، فردي ، طائفي ، قمعي ،
مخابراتي ، إلا أن يسير بها ، و
صدق قول العرب : ما أشبه اليوم
بالبارحة ، و قولهم : الولد على
مرباه ، و قولهم أيضاً : هذه
العصا من تلكم العُصية ، و هل
تلد الحيّة إلا حييّة .0
و مرة أخرى يتصدى
المثقفون الوطنيون الأحرار بكل
جرأة و شجاعة لممارسات الشكل
الشبابي من نظام الأسد البائد ،
و يفضحون زيف شعاراته و
اهتراءها ، و يحذرون من هكذا
نظام لا يُرجى خيره و لا يؤمن
شره .
و كان المحاميان
الأستاذان رياض الترك و هيثم
المالح في مقدمة هؤلاء الرجال
الذين قالوا كلمة الحق بصوت
عالٍ في وجه سلطان جائر .
و تتالت بيانات
المثقفين ، التي تجرأت و اقتحمت
حصون الأسد المنيعة ، و أرسلت
إليه شخصياً ، و التي تدعو إلى
الإصلاح و محاربة الفساد و
الانتقال من الحكم الديكتاتوري
الشمولي إلى الحكم الديمقراطي
التعددي ، و إلغاء كافة
القوانين الاستثنائية .
و كان من الملفت
حقاً أن تكون طليعة هؤلاء
المثقفين الشجعان من أولاءك
الرجال الذين قضوا عقوداً طويلة
في ظلام و ظلمات سجون الأسد
الإرهابية ، و الذي ظن النظام
مخطئاً أنه روضهم و غسل أدمغتهم
بسياطه و عصيه و حديده و أساليبه
الإجرامية التي عاينوها و عاشوا
معها سنين طويلة ، من أمثال
الأساتذة رياض الترك و هيثم
المالح و فاتح جاموس و عبد
الستار قطان و ميشيل كيلو و أنور
البني و ياسين الحاج حامد و كمال
اللبواني و محمود عيسى و خليل
حسين ، و غيرهم كثيرون يجمعهم
أنهم جميعاً دخلوا سجون الأسد
الفظيعة و عانوا فيها سنوات بل
عقود عديدة ، و يميزهم أيضاً
أنهم يمثلون المجتمع السوري بكل
ألوانه الفسيفسائية ، و تنوعاته
الثقافية و العرقية و الطائفية .
فهل أجدّت السجون و
المعتقلات و نفع أسلوب إرهاب
الدولة المنظم
في إسكات كلمة الحق ؟ ، أم
على العكس من ذلك تماماً ؟ أدى
ذلك إلى نضوج الفكر المعارض و
توحد المعارضة و التقائها بكافة
أشكالها و ألوانها و أطيافها
تحت مظلة إنهاء الاستبداد ، و
إقامة سوريا الديموقراطية
بوجهها الحضاري الحقيقي .
تحية حب و احترام و
إجلال و تقدير لكل من فضح نظام
القمع الفصامي
في أسدستان ، و لو بكلمة
واحدة ؛ و على رأسهم أفواج
المعتقلين و المثقفين
الذين وقعوا على بيان دمشق -
بيروت الأخير .
و
هذه دعوة صادقة لكل المخلصين من
أبناء الوطن لتوحيد الجهود و
شحذ الهمم و الالتقاء على الهدف
الأسمى الذي هو إنهاء الاستبداد
المزمن في سورية الحبيبة ، و
خصوصاُ أن الاستبداد لا يميز
بينهم في القمع و الإلغاء.
و لنتذكر قول
الشاعر:
تأبى الرماح إذا
اجتمعن تكسراً ** و إذا افترقن
تكسرت أحاداً ....
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|