تعـذيب
النسـاء في السجون السورية –12
صور
من تـدمـر
إعـداد
الدكتور خالد الاحمد*
الشعب
كله متهم في سوريا ، رجاله
ونساؤه ، أطفاله وشيوخه ، كلهم
متهمون ، يجب أن يسحقوا ، وأن
تملأ بهم السجون والمعتقلات ،
ويذبحوا ويتسلى بهم الساديون ،
أزلام النظام الأسـدي ، الذين
نفخ فيهم أسـد الحقـد الطائفـي
، وسـخرهم لذبـح المواطنين
رجالاً ونسـاء ، من جميع
الفـئات ، والأعمـار والأجناس
...
قدم
لنـا الأخ محمد سليم حمـاد (
يحفظه الله ، وجعل ذلك في صفحات
أعماله الصالحة يوم القيامة ) ،
قدم لنا كتاب ( تدمر ، شاهد
ومشهود ) بين فيها صفحة من صفحات
التعذيب الذي
صبـه أزلام النظام الأسدي
على رجال سوريا الأحرار ، على
خيرة أبناء الشعب السوري .
وتـذكر
لنا هذه المـرة ( هبـة الدبـاغ )
يحفظها الله في كتابها ( خمس
دقائق فقط : تسع سنوات في سجون
الأسد ) ، هبـة الدباغ ، الوحيدة
التي بقيت من أسرتها الحموية ،
التي أبادوها بكاملها في عام
(1982) ، ونجت هي لأنها فس السجن ،
وشقيقها ( صفوان ) لأنه خارج
سوريا .... وقتل أزلام الأسد
حوالي ( عشرة ) من أفراد أسرتها ،
من الأب إلى الأم ، إلى الأطفال
الصغار ، والبنات الصغيرات ، في
مجزرة حماة الكبرى (1982) التي
عجـز المغول والتتار
والصليبيون والفرنسيون على أن
يفعلوا مثلها ... فلنسمع ماتقوله
هبـة الدبـاغ ( واسأل الله أن
يجعله في صحائف أعمالها يوم
القيامة ) ... فقد قدمت وثائق
نادرة وحقيقية ضـد نظام القتلة
الأسـدي ...
تقـول
هبـة الدبـاغ :
التهـاب
في الاعصـاب
حضرت
أم حسان وابنتاها ومع هؤلاء
حضرت أيضا رغداء س . ومنى ب . وأما
مجموع النساء في تدمركما روين
فكان قد وصل أيامهن إلى إحدى
عشرة : الخمس اللاتي وصلن قطنا
وست أخريات هن : عائشة أ . ونهلة ز
. وعائدة ك . وسلسبيلة أ . وليلى ب
. وأع طوني . . وأما عائدة وعائشة
فقد نقلوهما بعدها إلى سحن حلب
لنعود قنلتقيهما في مراحل سجننا
الأخيرة ، فيما نقلوا سلسبيلة
مع مجموعة أم حسان إلى سجن حمص
في البداية ، ولكنهم نسوها هناك
كما تبين لاحقاً ، ولم يفطنوا
لغيابها إلا بعد سنين ! وأفرجوا
عن ليلى ونهلة وأم طوني من تدمر
مباشرة نتيجة واسطة وتدخلات
ثقيلة للأولى ، وبعدما اشتد
المرض بالثانية حتى قاربت
الهلاك وأحسنت الثالثة التعامل
معهم فتخرجت من السجن مخبرة
محترفة كانت رغداء ومنى صديقتين
حميمتين كلاهما من حماة أما
رغداء فكانت قابلة وأما منى
فخريجة كلية الشريعة ومدرسة
تربية إسلامية . وكانت منى
وزوجها قد شاركا في تأمين مأوى
لمجموعة من الملاحقين تم
اكتشافه بعد أحداث حماة فهرب
زوجها والشباب جميعاً واعتقلت
المسكينة ، وهناك في الأمن
السياسي بحماة عذبوها كثيراً
لتعترف أنها منظمة وتدلهم على
مكان زوجها ومن كان معهم في
القاعدة ، ونتيجة التعذيب
بالكهرباء أصيبت المسكينة
بالتهاب في أعصاب أرجلها فلم
تعد تستطيع حتى النوم إذا لم
تسلط المروحة عليهما من شدة
الألم . . وبعد العذاب والتحقيق
أرسلوها إلى تدمر . . وأرسلوا
معها رغداء التي اعتقلت في نفس
الفترة من مكان عملها كقابلة في
المستشفى لكن رغداء لم تتكلم عن
تعذيبها أو الظروف التي مرت بها
وكانت من النوع الكتوم والهادئ
تحتسب ما أصابها عند الله .
سـجينة
طـي النسـيان !
هؤلاء
كن الخمس الذين حضرن من تدمر
والتقيناهن في قطنا ، وأما الست
الأخريات فقد التقينا ثلاثاً
منهن في مراحل سجننا الأخيرة هن
: عائدة ك . وعائشة أ . وسلسبيلة أ
. وسمعنا قصص الأخريات الباقيات
ولكننا لم نرهن . كانت عائدة
مهندسة عاملة من حلب أتى الطلب
عليها في بدايات الأحداث ولكنها
نجت ، ولأ نها وحيدة أهلها وخشية
عليها أحضرها والدها الى بيتنا
في دمشق لتسكن مع صديقات لها
بيننا ، ثم لم تلبث أن اطمأنت
فعادت إلى حلب وبقيت بسلام هناك
إلى أن اشتدت الأحداث فعادوا
واعتقلوها بوشاية من سامح كيالي
أيضاً . . ولقد بلغنا أنها عذبت
عذاباً شديداً في فرع المخابرات
ولاقت كأكثر اللاتي لاقين على
أيدي عمر حميدة ومصطفى التاجر
ولكنها كانت تؤثر الكتمان ولا
تتحدث بشيء ولم يكن لقاؤنا إلا
في الأسابيع الأخيرة من سجننا
حينما جمعنا في سجن التحقيق
العسكري بدمشق قبل أن يتم
الإفراج عنا . كذلك كان لقائي مع
عائشة أ . في نفس الفترة وفي نفس
المكان . وعائشة معلمة مدرسة من
حلب اعتقلت في نفس الفترة مع
عائدة ولكنني لم أعرف السبب ولا
التفاصيل . وأما سلسبيلة أ . فهي
سيدة مربية من حمص كانت في
الستينات من عمرها اعتقلت
لعلاقة أخيها بالإخوان
واعتقلوا معها ابنها وكان عمره
حوالي 16 سنة وقتذاك . . وعلمت
أنها تعذبت أيضاً ولكني لا أعرف
التفاصيل لأني لم أجلس معها إلا
الأسابيع الأخيرة . وكانوا قد
نسوها في سجن حمص بعد أن نقلوها
مع الأخريات من تدمر ، وعندما
قرروا الإفراج عنا ورد اسمها في
القائمة ولكنهم لم يعودوا
يعرفوا في أي فرع هي وفي آخر
الأمر جاء مدير سجن التحقيق
العسكري إلينا وسألنا : - هل
تعرفون هذا الإسم وأين هي ؟
فقالت له البنات : نعم ، كانت في
سجن حمص وربما لا تزال هناك .
وبالفعـل ذهبوا فوجـدوها
باقيـة هنـاك في الزنزانـة
وحـدها ! وبعد الإفراج عنها
وجدتهم قد صادروا لها البيت ،
ولم يسمحوا لها حتى الآن
بالخروج من سوريا رغم أن زوجها
وأولادها يقيمون في السعودية ،
وأما أخوها الذي اعتقل معها فلا
يعلمون عنه شيئاً إلى الآن !
علـى
لــوح الخشــب !
كانت
نهلة ز . إحدى النساء الثلاث
اللاتي أفرج عنهن من تدمر
مباشرة مهندسة كهرباء من زميلات
عائدة ، وكان زوجها قد فتح بيته
مأوى لبعض الشباب المطلوبين ،
لكن السلطة علمت بالأمر فداهم
رجال المخابرات البيت وكمنوا
فيه ، وخشية على نفسها من هؤلاء
الوحوش وصيانة لعرضها وشرفها
ركضت فور اقتحامهم البيت وألقت
بنفسها من شرفـة بالطابق الثالث
، فلما سقطت أصيبت بكسور عديدة
لكنها ظلت على قيد الحياة ، وظن
الناس أن سيارة صدمتها فركضوا
وخبروا الشرطة المدنية
لإسعافها ، فلما حضروا وسألوها
عم حدث وجدت نفسها تخبرهم بأن
الإخوان أتوا إلى البيت وأصروا
على الدخول وحبسوني فرميت نفسي
، فجاءت دورية مخابرات أخرى
وحصل اشتباك بينهم وبين العناصر
الكامنة في البيت وكل يظن
الأخرين من الإخوان ، فلما
اكتشفوا الأمر كانت إصابات
عديدة قد وقعت بينهم فحقدوا
عليها أكثر ، وتركوها طوال فترة
اعتقالها بدون علاج ممددة على
لوح خشبي لا تستطيع التحرك عنه
بسبب كسر رئيسي أصاب حوضها ، حتى
كاد عظمها المهشم أن يصاب
بالتسوس . . وزاد من معاناتها
المسكينة حينما اكتشفت في تدمر
أنها كانت حاملا في شهورها
الثلاثة الأولى تقريباً ، لكنها
وبسبب حالتها المفجعة أصيبت
بنزيف مستمر انتهى بها إلى
الإجهاض ، وازدادت حالتها في
التردي يوماً بعد يوم حتى
اضطروا بعد سبعة أو ثمانية أشهر
إلى الإفراج عنها تخلصاً من
مسئوليتها !وأما خامسة الخمسة
وآخر السجينات العشر فكانت
امرأة مسيحية من حمص تسمى أم
طوني ، باعت جوازات سفر لبعض
الملاحقين مقابل المال ثم اكتشف
أمرها فاعتقلت ، لكنها تحولت -
كما قلت - إلى صف المخابرات
وصارت مخبرة لهم على السجينات
في تدمر ، وتم الإفراج عنها آخر
الأمر بعدما قرروا غربلة
السجناء والسجينات .
إنـىأتـنفـس
تـحت الــماء
!
مر
شهر وبعض الشهر واندمجت
القادمات الجدد في منزلهن
الجديد واندمجنا معهن على الرغم
من تقلص الأشبار القليلة
الممنوحة لنا في المهجعين . . ولم
تلبث وافدات أخر أن أحضرن إلينا
قادمات من أماكن متفرقة . كانت
القادمات ثلاث هذه المرة : سميرة
ت . ونجوى ج . وأم زهير نجاح أ .
وأما أم زهير هذه فأتوا بها من
الأمن السياسي بحماة ومرروها
على أمن الدولة بكفر سوسة ، وأما
نجوى فكانت في سجن المسلمية
بحلب ومرت على نفس الفرع كفر
سوسة ليأتوا بها بعد ذلك إلينا ،
وأتوا بسميرة من أمن الدولة
بحماة مباشرة . كانت القصص
الجديدة للقادمات الجدد فصلاً
آخر من فصول الظلم والوحشية
التي تدار بها شئون البلاد
والعباد في سورية . . وكانت أبسط
الحالات لا تقل أبداً
بمدلولاتها عن أشدها ألماً
وعذاباً وظلماً . فأما سميرة ت .
وكانت في العشرينات من عمرها
وأماً لثلاثة أطفال أحدهم في
شهره الثامن فقد استشهد زوجها
في أحداث حماة دون أن تعرف كيف
بالتحديد ، لكن الرواية التي
بلغتها تقول بأنهم رأوا جثـته
في ساحة العاصي وقد كتب اسمه
عليها محروقا بالنار ! وكان
الزوج صباب بيتون ، وبعد
الأحداث جاءت عليها فسادة أن
لديها قاعدة في البيت ، ولما
داهمت المخابرات البيت وجدوا
غرفة خفية فيه بالفعل كان الزوج
قد بناها دون أن تدري ، ولكنهم
لم يجدوا في هذا المخبأ إلا بعض
الكتب ، لكن ذلك كان سبباً
كافياً لهم ليبدأوا تعذيبها في
البيت نفسه ، فربطوها بملاءة
السرير وعصبوا لها أعينها
وصاروا يضربونها لتعترف من كان
في المخبأ ، وجعل أحدهم يغني لها
ساخراً : إني أتنفس تحت الماء . .
إني أغرق ! بعدها أخذوها إلى
الأمن السياسي وأكملوا لها
التحقيق والتعذيب ولكن شيئاً لم
يثبت عليها ، ورغم ذلك بقيت
سجينة معنا حتى النهاية ! وأما
أم زهير نجاح أ . فهي سيدة جاوزت
الخمسين من عمرها كانت قد مضت
بزوجها المريض بالقلب إلى عمان
لإجراء عملية جراحية له هناك
،وتمت العملية بالفعل ولكن
الرجل الذي جاوز الخامسة
والستين لم يحتمل المضاعفات
فتوفي بعدها بأيام ، ودفنته أم
زهير هناك ورجعت إلى سوريا . .
ولكن المخبرين الذين نشطوا بعد
أحداث حماة أشاعوا أنها أتت
بنقود معها وأوصلت رسائل في
ذهابها ، فاعتقلها الأمن
السياسي في حماة قبل أن تنقل إلى
قطنا . ولم يكن لأم زهير أية
علاقة بما قالوا ، ولكنهم كانوا
حاقدين على عائلتهم كثيراً . .
ففي بداية الأحداث وعندما كانوا
ينتقمون من آباء الملاحقين
والأغنياء والأطباء ووجهاء
البلد أخرجوا إخوانها الثلاثة
مع الدكتور طاهر حداد وممرضه
رشيد قطرنجي ودفعة من الرجال
الآخرين وأتوا بهم تحت الشتائم
والكرابيج إلى سوق الطويل ،
وهناك ومن غير تفسير أمروهم أن
يعودوا من حيث أتوا لأن الأمر
انتهى ، فصدق المساكين وأداروا
ظهورهم راجعين ، فما أن
استداروا حتى فتح رجال الأمن
نار الرشاشات عليهم فسقطوا قتلى
جميعاً إلا واحداً من الإخوة
الثلاثة أصيب بقدمه وسقط على
الأرض وسقط القتلى الآخرون فوقه
، فلما غادر القتلة المكان وقد
ظنوه ضمن الهالكين تحامل على
نفسه وزحف إلى بيته فأسعفوه
هناك ثم غادر البلاد بعدها إلى
غير رجعـة .
طعـامهم
التسـبيح والتهلـيل !
واذا
كانت مآسي السجينات مرة الطعم
كلها فإن منهن من ذاقت ما يفوق
مرارة العلقم بعض الأحيان !
وتشتد الكروب ببعضهن حتى لا تجد
لها من دون الله كاشفة ! ومن
هؤلاء كانت قصة هالة التي
عافاها المولى سبحانه أخر الأمر
. . وكانت قصة نجوى ج . التي
ارتكست في تداعيات نفسية مؤلمة
لم تنج المسكينة منها حتى آخر
يوم ! كانت نجوى طالبة متفوقة في
سنتها الثانية بكلية الطب
البشري بحلب ، وكانت مخطوبة
لأحد الشباب الذين لوحقوا من
بعد ضمن ألوف من خيرة الشباب
مثله ، فلما اختفى ذهبت إلى
الأردن تبحث عنه فيما يبدو
يرافقها أبوها بعد إلحاح ورجاء
منها . . وفي طريق عودتهما ألقي
القبض عليهما بتهمة العمل
كمراسلين للإخوان بين الداخل
والخارج ! فوجدت الأم نفسها من
غير معيل ولا نصير مرة واحدة ،
ولم تجد ما تنفق به على أطفالها
الثلاث البقية فأخرجتهم من
المدارس وأرسلت أكبرهم وكان في
الصف السادس أو السابع ليشتغل
بمصنع للشوكولاته ويقيت
العائلة . . ثم لم تلبث الأم وأن
أصيبت من وقع المأساة بنزيف
اضطر الأطباء أن يستأصلوا لها
الرحم ، فلما بلغ ذلك نجوى
ولأنها من النوع الحساس جدا فقد
أخذت تعيش هم أمها وإخوتها في
الخارج وهم أبيها الذي غيبه
السجن ولا تعلم عن مصيره شيئاً .
. وأخذ يتكرس في نفسها الإحساس
بأن ذلك كله قد حدث بسببها ،
فسقطت بذلك في عقدة الذنب وصارت
لا تكف عن ملامة نفسها بشكل قاس
ومستمر . . وأخذت الحالة تتطور من
سيء إلى أسوأ وهي تعيش أبشع
الظروف في أقبية السجون وبين
وحوش من المحققين والجلادين لا
تعرف قلوبهم إنسانية ولا رحمة . .
وكانت عندما أتوا بها من حلب إلى
قطنا أول الأمر في بدايات المرض
، فكنا نلحظها دائمة الشرود
غريبة التصرفات ، ثم اشتدت
حالتها بعد انتقالنا إلى دوما
فصارت الحالة صعبة وبشعة جداً
حتى جعلتنا نعيش كلنا على
أعصابنا . كان فراش نجوى إلى
جانبي بعد ماجدة ، وفي البداية
كانت إذا أحست باقتراب المرض
منها تقول لنا : - يا بنات . . يا
هبة . . انظري . . لا تتركي أمامي
لا إبرة ولا مقصاً ولا سكين ولا
شوكة ولا ملعقة ولا أية قطعة
حديد . . وشيئاً فشيئاً يأخذ
مرضها في الإزدياد فلا تعود
تنام وتظل تتمشى في المهجع بين
الفرشات ليل نهار . . وكأن المرض
كان يأتيها على دين ، فتراها
تبالغ في تحجبها وتأتي فتسألني
أن أطيل لها كل أكمام ملابسها
رغم أنها طويلة أكثر من اللازم .
. وكان أهلها يأتون لها بصابون
غار فلا نراها إلا عاكفة عليه
تحفر فيه وتحفر وتظل تحفر حتى
تبلغ الطرف الآخر منه فتقول لي :
- انظري . . أي شيء يعمله الإنسان
يوحي إلى لفظ الجلالة ! انظري . .
هذه لا إله إلا الله . . هذه لا
أدري ماذا ! وكانت إذا حان وقت
النوم مضت معنا إلى فراشها الذي
كان التالي بجانبي بعد ماجدة ،
لكنها تظل يقظة جاحظة العينين ،
حتى إذا انتصف الليل انتفضت من
مكانها بلا مقدمات فتخطت ماجدة
لتأتي فتلكزني من رجلي لتوقظني
وتقول لي : - تعالي أحييها معي.
ورغم أن المفاجأة تكون قد
أرعبتني بحق إلا أنني كنت أمضي
معها وأسايرها . . وأحياناً كانت
تجلسني في فراشها وتلتصق بي
وتقول لي : - تعالي نذكر الله
الليلة . . لكنها كانت تمضي
أياماً على هذه الحالة لا تأكل
ولا تشرب ، فأسألها : - ألم تجوعي
؟ فتجيبني : طعامهم التسبيح
والتهليل ! فأجلس بجانبها نسبح
وأنا على أعصابي . . فإذا أصبحت
قامت توزع ما تملك من ملابس
وأغراض حتى لا يبقى لديها إلا
الثياب التي عليها . . وغالباً ما
تعطي ذلك لسجينة أخرى من
القضائيات مريضة مثلها كانت
هاربة من مستشفى الأمراض
العقلية ! ورغم أن نجوى كانت تخف
في البداية وتعود فتنتكس إلا أن
الإنتكاس استمر معها لاحقاً ،
وساءت أمورها أكثر فأكثر واشتدت
تصرفاتها غرابة وايلاماً ،
واشتد انعكاس ذلك على من حولها
وبالأخص جارتيها في السرير
ماجدة وأنا ! حتى أننا صرنا من
كثرة ما عانينا معها نستيقظ في
الليل بدون إرادتنا ونجهش
بالبكاء . . أو تزدحم الكوابيس
على ماجدة فلا نراها إلا وهي
تصيح وتستغيث وهي في عز النوم !
ولقد انعكست حالة نجوى أيضاً
على والدتها المسكينة من بعد
وزادت في الضغوط عليها فكأنما
أصاب الأخرى شيء . . فصارت - حتى
بعد أن أفرج عن نجوى وأبيها -
كأنما تفقد ذاكرتها أو جزءاً من
وعيها فتهيم على وجهها في
الطرقات ، أو تمضي فتزور أحداً
من أقربائها ومعارفها وتمضي
عندهم الأيام دون أن تخبر من
عائلتها أحداً ، بينما يبحث
المساكين عنها في المستشفيات
ومراكز الشرطة دون نتيجة !
وعندما تقرر الإفراج عنا في
النهاية كانت نجوى مع آخر دفعة
تخرج من بيننا وكأنهم أرادوا أن
يفقدوها آخر ما تبقى لها من عقل .
. وكانت مسكينة الوحيدة التي
أطلقوها في دمشق ورفضوا أن
يأخذوها إلى مدينتها كما فعلوا
مع باقي السجينات جميعاً! هؤلاء
كن كل السجينات اللاتي قضين
سنوات من العذاب والمعاناة معنا
، وكان هناك غيرهن يحضرونهن
لفترات ثم يطلق سراحهن . . ومن
هؤلاء كانت مجموعة نسوة من قرية
قرب حماة هن أم وكناتها الثلاث
وأولاد صغار معهن . . كان زوج
إحداهن قد لوحق كما يبدو فأراد
تهريبهن خارج سوريا لكن دوريات
الحدود اعتقلت المجموعه كلها ،
وفيما لم تعد تصل عن الولد أية
معلومات فقد أمضت النسوة
والأولاد في قرابة العام معنا
في مهجعنا كنا نجلس خلالها فوق
بعضنا البعض من الإزدحام . . ثم
أفرج عنهم . في مرة أخرى - وكانت
المرة الوحيدة التي يشركون فيها
سجينة قضائية معنا - أتوا بأخت
جورجينا رزق (ملكة جمال لبنان
وقتذاك ) متهمة بقتل زوجها ،
وكانوا كأنما يخشون أن يتسلل
أحد من أقارب زوجها المتنفذين (
من ال الجندي ) فيقتلها ، فشددوا
الحراسة على السجن ووضعوها في
مهجعنا ، وبقيت تشاركنا المكان
قرابة السنة ثم خرجت براءة . .
وكانت كلما نزلت إلى المحكمة
تستعير ثياباً سوداء منا وتغطي
رأسها متظاهرة بالحزن على زوجها
. . أما تعاملها معنا فكان جيدا
مثلما كان تعاملنا نحن معها ،
وكان طبيعياً بحكم حياتها معنا
أن تظهر تعاطفاً وتفهماً حتى
أفرج عنها وانقطعت أخبارها .
لجنـة
التـأهيـل والاسـتغلال
كانت
حياة السجينات القضائيات تسير
إلى جانب حياتنا نشاركهن
ويشاركننا المكان والظرف وجزءا
من المعاناة ، لكنهم كانوا على
الدوام أقل منا تقييداً وأكثر
انفراجاً . . وغالبا ما كن وكان
الآخرون ينظرون إلينا نظرة
احترام لأننا هنا من أجل رأينا
لا من أجل أي جريمة ارتكبناها . .
لكن المسؤولين كانوا بحكم موقف
النظام منا يقسون علينا ولا
يستجيبون لطلباتنا . . ولا
يقصرون لاقتناص أي فرصة
لاستغلالنا .. وفي هذا السياق
كانت تجربتنا مع لجنة إدارة
السجون التي تشرف افتراضاً على
حال المسجونين القضائيين
وتحاول إعادة تأهيلهم ليعودوا
مواطنين صالحين . . لكننا ولما
رفعنا طلبا عام 84 للسماح لنا
بتقديم امتحاناتنا الدراسية
تدخلوا ووعدونا بدراسة الأمر
ورفع كتاب للمسؤولين ، وقالوا
لنا ادرسوا ريثما يأتي الجواب . .
فجلسنا ندرس ونستعد للإمتحان
حتى عاد الجواب في النهاية مع
عدم الموافقة . . وكنوع من
التسرية اقترح علينا مسؤول
اللجنة (أبو سامر) أن يأتوا لنا
بشغل نشتغله مقابل أجر فوافقنا
، فأتوا لنا بكميات من الخرز
جلسنا نضمه إلى بعضه في عمل مرهق
بالفعل ، حتى إذا أنهيناه آخر
الأمر وقد بلغ الجهد منا مبلغا
أخذوه دون أن يعطونا من الأجر
شيئاً ! ولما خشينا في الوقت
نفسه أن يستخدموا هذه الأشغال
في أشياء لا تجوز كأثواب للرقص
مثلًا فقد توقفنا عن استلام
المزيد . . ولكن جهدنا وأجرنا
ذهبا مع اللجنة هباء !
عـرض
للـزواج !
وتتالت
الأيام في قطنا ونحن أسرى
القضبان والجدران من جهة وأسرى
الحياة الرتيبة والبرنامج
الممل المتكرر من جهة أخرى . .
وعلى الرغم من العزاء الذي كنا
نجده في الزيارات بلقاء الأهل
والأقارب إلا أن المستجدات التي
تلت جعلتني أعيش كرباً جديداً
بسبب بعض الزيارات والزائرين !
كانت أواخر عام 85 حينما حضرت
خالتي لأول مرة تزورني في قطنا
رغم المرات العديدة التي أرسلت
لها السلامات فيها ورجوت حضورها
دون جواب . . فلما رأيتها على طرف
الشبك الآخر لم أتمالك نفسي
وانفجرت في البكاء وكأني أرى
أمي أمامي وأتحسس ألم فقدها
لأول مرة في قلبي . . لكن شعوراً
بالإنقباض بدأ يستولي علي ساعة
بعد ساعة وأنا أستمع إليها
وأتلقى عرضاً منها غاية في
الغرابة ! قالت خالتي إنها لم
تزرني سابقاً لأن أخي كان
يمنعها من ذلك ويحذرها منه . .
ولكنها قررت الحضور الآن لأن
وساطة جدية تجري الأن للإفراج
عني ، وأن الشرط الوحيد لذلك أن
أخرج من السجن متزوجة ! ولما
أبديت تعجبي من هذا الشرط الذي
لا ينسجم مع طبيعة ظرفي ولا
طبيعة الواسطة التي تتحدث عنها
عادت وأكدت أنه الشرط الأول . .
وعلى الرغم مما سمعته من رفضي
لفكرة الزواج أساساً وأنا في
هذه الحال ، ولربط الزواج
بالإفراج عني بكيفية غريبة لا
تفهم . . فقد غادرتني مؤكدة أنها
بانتظار جوابي في أقرب وقت . وفي
اليوم التالي مباشرة فوجئت
بابنها يطلب زيارتي ، فلما خرجت
لمقابلته أخبرني بأنه يخدم
عسكريته الآن وأنه انتقل إلى
قطنا من أجلي فقط . . ومن أجل أن
يكون قريباً مني ! وجعل يتحدث
أحاديث الجهال الفارغة بدون
حياء . . فلم أجد إلا أن أترك
المكان وأعود للمهجع . لكنه لم
يلبث بعد يومين أو ثلاثة وأن عاد
يطلب مقابلتي ، فقلت للسجانة
أمامه : - إذا جاء مرة أخرى فلا
تفتحي له الباب لأني لا أريد
زيارة كهذه . ومن غير مقدمات أو
منطق وجدته يعود وخالتي آخر
الأسبوع وقد أحضرا معهما خاتم
خطبة ! فلم أجد بدا من
تغييرلهجتي معها ومقابلة
تصرفاتها الغريبة هذه بشيء من
الصرامة فسألتها : - ومن قال لك
أنني وافقت ؟ أنا لا أريد لا أن
أخطب ولا أن أخرج . . فما رأيك ؟
قالت : لماذا ؟ ألا يعجبك ابني ؟
قلت لها : لا . . ابنك على العين
والرأس ولكني لا أريده . قالت :
طيب إذا لم توافقي على الخطبة
فاتركي الخاتم عندك . ورمته لي
وذهبت . . فلما ناديت السجان
ليعيده إليها كانت قد غادرت
فتركته معي . وفي اليوم التالي
أتى ابن خالتي وحده من جديد فجعل
يرجوني أن أعطيه ولو قصاصة ورق
يأخذها إلى أخي صفوان خارج
سورية لكي ينال موافقته شخصيا
على الخطبة . . وبدأت أتبين معالم
مؤامرة ترسم بدهاء أثبتت الأيام
حقيقة وجودها ، فاللعبة كلها
كانت تدور برعاية المخابرات
أنفسهم وبالتعاون مع خالتي التي
تأكد لي بعدها أنها وابنها
يتعاملان معهم بشكل مباشر . .
وكان الغرض أن يتم إرسالي كطعم
لاصطياد أخي صفوان حينما يأتي
ليصحبني من مكان الإفراج عني في
تركيا . . ولقد أكملوا حبك اللعبة
بإرسال شخص ثالث بعد أسبوع
تقريباً - وكان يومها وقفة عيد
الأضحى - هو ابن احما أخي غسان
واسمه حسني ابراهيم باشا ، وكان
يأتي كذلك لزيارتي أول مرة . .
فتفاجأت جداً خاصة وأنني سمعت
من قبل أنه مخبر للسلطة ، وازددت
تحفظاً واستغراباً وأنا أسمعه
يعرض علي العرض نفسه ويقول : -
نحن نعمل لك واسطة ثقيلة جداً ،
واذا تعاونت معنا فسوف تكونين
رابع أيام العيد في تركيا . قلت
مستغربة : ولماذا مباشرة خارج
سورية؟ لا أريد ذلك . . أريد أن
أبقى في بلدي . فقال لي : هكذا جاء
الشرط . ولما سألته : وماذا سأفعل
بتركيا؟ قال : تذهبي عند أخيك .
وهكذا تبلورت شكوكي أكثر ،
وسرعان ما اتضحت أمامي معالم
المؤامرة . . إذ لم يكد حسني هذا
يمضي وتقفل الأبواب علينا وقد
دنا وقت الغروب ، وبينما كنا
نستعد للإفطار وقد أمضينا اليوم
صياما حتى دخل علينا أحد عناصر
الشرطة الطيبين على غير العادة
وجعل ينظر إلينا ثم يتوقف بنظره
علي . . ثم يعود فيخرج ثانية
يحوقل أمام الباب . فلما رأيناه
لا يتحدث بشيء بادرته الحاجة
بالسؤال : -ماذا هناك أبوي ؟ قل
لي . . هل هناك شيء ؟
فناداها إلى خارج المهجع
وقال لها بتأثر واضح : - هناك
دورية من أمن الدولة أتت تريد أن
تأخذ هبة . . فقالت له وقد اتجهت
نحوي بالكلام : قل لنا ذلك خيو . .
هبة الحمد لله إيمانها جيد ولن
تخاف . . ودخلت الحاجة تقول لي :
قومي أبوي وجهزي نفسك . . ضبوا
لها يا بنات بدل وجهزوا لها
فرشاة أسنان وسجادة صلاة . . قلت
لها : لماذا ؟هل هناك شيء ؟ قالت
تريد أن تخفف عني : إي معليش لا
تخافي . . المخابرات أتوا
ليأخذوك . . ونحن تعودنا على هذا
الشيء . أحسست لحظتها أن قلبي
يقفز قفزا كالكرة . . وجعلت كل
الظنون السوداء تدهمني معا . .
ووجدتني لا أدري كيف أحمل حقيبة
صغيرة أعدتها البنات لي وأتبع
الشرطي الذي انهمر في البكاء
فزادني رعبا وتخوفا ، ووجدتني
في مكتب مدير السجن ينتظرني رجل
بثيابه المدنية عرفت بعدها أنه
المقدم عمر
مدير سجن التحقيق العسكري ،
لكنه لم يزد عن أن سالنى : - حضرتك
هبة؟ قلت
له : نعم . قال : ستتفضلي معنا .
ساكته : هل هناك شيء ؟ قال : لا . .
مشوار صغير ! قلت له وقد أسقط في
يدي : أنا أعرف مشاويركم . . خمس
دقائق كهذه التي صارت خمس سنوات
إلى اليوم !
كاتب
سوري في المنفى
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|