فذلكــات
بعثيــة
د.
هشـام الشـامي
عندما كنت طالباً
في الثانوية العامة في سبعينات
القرن الماضي ، استدعاني الموجه
إلى مكتبه مع عشرة من زملائي
الطلاب ، يجمع بيننا أننا كنا
الأوائل على المدرسة ، و بعد أن
أغلق باب مكتبه ، بدأ بإلقاء
خطبة عصماء ، بيّن فيها أنه
يفتخر بوجود أمثالنا في مدرسته
و أننا مثال التفوق و الالتزام و
الأدب ، و بعد أن سألنا عن عمل
والد كل واحد منا ، عاد لمتابعة
خطبته البليغة ، و بين لنا أننا
أبناء الطبقة الكادحة ، أبناء
العمال و الموظفين و صغار
الكسبة ، و نحن أحق بأن نكون
طليعة المنتسبين لشبيبة الثورة
، و بيّن استغرابه لعدم
التحاقنا بحزب البعث العظيم ،
حزب العمال و الفلاحين و
الكادحين ، الحزب الذي أعاد
الحقوق لهذه الطبقات المسحوقة ،
و أنهى احتكار الإقطاعيين و
الرأسماليين و التجار الطامعين
.
لقد كانت
خطبة مؤثرة فعلاً ، جعلتنا
نجلس صامتين خاشعين مصغين
مستغربين مفاجئين من هذا
الاجتماع الأول من نوعه ، و بعد
حوالي نصف ساعة من الجمل
الحماسية و الكلمات المثيرة ، و
كيل المديح للحزب و الثورة و
قائد المسيرة ، وجه إلينا
السؤال التالي :
- ما الذي يمنعكم من
الالتحاق بهذا الحزب العظيم ؟.
تسمرنا للحظات في
أماكننا و كأن على رؤوسنا الطير
، ثم تجرأ أحدنا و أجاب متسائلاً
بانفعال و توتر : - من هم الطلاب
المنتسبون لشبيبة الثورة من
زملائنا ؟
فأجابه الموجه
الحزبي : - إنهم ثلاثة طلاب فقط و
ذكر أسماءهم ؟
فتابع زميلنا
الجريء قائلاً : - أتريدنا أن
نكون مع هؤلاء الطلاب الكسالى
سيئي السمعة ، عديمي الضمير و
الأخلاق و الانتهازيين
؟
فاجأنا جواب زميلنا
و شجاعته ، و حسبنا أن أستاذنا
سيوبخه على هذه الإجابة
المباشرة ، لكن الموجه حافظ على
هدوءه ، و رد عليه بكل أدب و
احترام : - يا بني ، لو كنتم أنتم
المنتسبون إلى الحزب ، لما
تركتم لأولئك الفاسدين أي دور ؛
و على كل ادخلوا أنتم في الشبيبة
، و سأفصل هؤلاء الثلاثة إن شئتم
.
استمر الأستاذ في
مفاجأتنا ، و تأثرت بكلامه
تأثراً شديداً ، و خصوصاً عندما
بين لنا نزاهته ، و شرح لنا
نضاله الطويل في صفوف الحزب ، و
دفاعه عن الجماهير الكادحة و
المسحوقة ، و تابع قائلاً : أنتم
تعلمون أنني بعد انتهاء دوامي
في المدرسة ، أعمل في محل صغير ،
و هو عبارة عن غرفة من بيتي
الصغير ، فتحتها على الحي ، و
أبيع بها بعض الحاجات المنزلية
، لكي أستطيع أن أضاعف دخلي ، و
أدرّس أولادي ، ليعيشوا بالحلال
من جهدي و عرق جبيني .
لقد كانت كلماته
تقتحم قلبي بسلاستها و رقتها ، و
كنت أنتظر أن يسبقني أحد زملائي
بالموافقة لكي أوافق معه ، و لا
أريد أن أكون أول الخارجين عن
الصف العام ، و عندما لم يرد أحد
بالإيجاب ، استمر في أدبه الجمّ
، و أخلاقه الرفيعة و لم يضغط
علينا أكثر من ذلك ، و قطع صمتنا
قائلاً : - على كل حال ، سأترككم
الآن ، و أرجوا أن تفكروا في
كلامي جيداً ، و انتظر منكم
الإجابة قريباً ؛ تفضلوا إلى
صفوفكم من فضلكم .
خرجت مع زملائي ، و
أنا أفكر في كلامه الجميل ، و
منطقه السليم ، و عاهدت نفسي أن
أدرس الموضوع بجدية ، و أرد عليه
بالإيجاب ، و لو كنت وحيداً.
و بعد انتهاء اليوم
الدراسي ، انصرف الطلاب ، و
توجهت إلى حائط المدرسة قرب باب
الخروج ، حيث كنت أضع مع بعض
الزملاء دراجاتنا الهوائية ، و
كنت أقطع على دراجتي كل يوم
حوالي ست كيلومترات ذهاباً و
مثلها إياباً من و إلى منزل
الأهل في الحي البعيد .
و لكنني لم أجد
دراجتي ، فسألت عنها الآذن فرد :
أنه لم يرها ، فتوجهت إلى الموجه
ذاته ، و قلت له بانفعال : لم أجد
دراجتي يا أستاذ ، لقد سرقت
!! .
فهدّأ من روعي ، و
قال هل سألت الآذن أبا جاسم عنها
؟ ، فقلت : نعم ، لكنه يقول أنه لم
يرها . فأمسك بيدي كأب حنون ، و
ذهب بي إلى غرفة المدير ، و بعد
أن أستأذن بالدخول ، دخلنا عليه
، و وجه كلامه للمدير : هذا
الطالب هشام من أفضل و أنشط
الطلاب في المدرسة ، و يأتي إلى
المدرسة من حي بعيد حرصاً على
استمراره في مدرسة المتفوقين ،
و قد سُرقت دراجته هذا اليوم .
فأجاب المدير : ما
الذي يحصل يا أستاذ ، هذه خامس
دراجة تسرق من المدرسة هذا
الأسبوع ، يجب أن تشددوا
الرقابة ، و تأتوني بالسارق في
أقرب وقت لأقطع يده .
فخرجنا من غرفة
المدير ، و كان الموجه ما زال
يمسك بيدي بحنان ، و قال لي :
استعن بالله ، و أمشي إلى بيتك
راجلاً هذا اليوم ، و إن شاء
الله سنمسك بالسارق ، و نعيد لك
دراجتك .
و ذهبت إلى بيتي و
الحسرة تخنقني
، و عندما رأتني أمي كئيباً
تنحصر الدمعة بين جفنَيّ ،
سألتني عن سبب ذلك فشرحت لها ما
حصل لدراجتي ، فحزنت لحالي ، و
رقت لحزني . و عندما عاد والدي من
عمله ، شرحتْ له حزني على دراجتي
، و قالت له : بيدي خاتم ذهب ، بعه
و اشتري له دراجة . فقال لي والدي
متأثراً : لا تحزن يا بني ، سوف
أشتري لك دراجة مستعملة من سوق
الجمعة إن شاء الله .
و انتظرت يوم
الجمعة ، و فعلاً رافقني والدي
إلى السوق الشعبي ، و بدأنا نبحث
عن غايتنا ، و بينما كنت أبحث عن
دراجة جيدة ، رأيت دراجتي التي
كانت قطعة مني ، و كنت أعرفها
كما أعرف نفسي ، و أصرف كل
مصروفي في تزيينها و الاعتناء
بها ؛ فصرخت : بابا ، انظر ، هذه
دراجتي هناك . و عندما رآها أبي
عرفها ، فأسرع و أمسك بمن يجرها
، و صرخ به : لمن هذه الدراجة ؟
فأجاب : أنها لي اشتريتها بالأمس
. فسأله أبي : ممن اشتريتها ؟ .
فأجاب : من صاحب البقالية قرب
ثانوية الثورة في حي البعث .
فقال والدي : هي مدرسة ابني ، و
هذه دراجته ، تفضل معنا إلى هناك
.
و ذهبنا ثلاثتنا
إلى البقالية ، و إذ نحن أمام
نفس محل الموجه البعثي المشرف
علينا ، و عندما رآنا أحمر وجهه
، و وقف مرتبكاً . فسأل والدي
الشاب الذي معنا : ممن اشتريت
هذه الدراجة ؟. فأشار إلى موجهنا
و هو يقول : من هذا الرجل .
فبدأ أستاذنا
بالصراخ و كأنه غير الموجه الذي
عرفت : لماذا تبتليني ؟ من سلّطك
علي ؟ أنا لا أعرفك ، لم أرك في
حياتي ، لا بد أن أحداً يريد أن
ينال من سمعتي و مكانتي ، لا شك
أنه مؤامرة مدروسة ، أنا رفيق
بعثي شريف كادح مناضل...، سوف
أسجنكم جميعاً ، سأتصل
بالمخابرات لتأخذكم إلى ما خلف
الشمس ...
و بينما موجهنا
يصرخ و يزمجر و يرعد و يزبد و
يهدد ، و تمسك يده المرتجفة
بسماعة الهاتف ، إذ دخل زميلي في
المدرسة ، و معه والده ، و رجل
يدفع دراجة أخرى وهو يقول : لقد
اشتريتها من هذا الرجل . و كان
يشير بأصابع الاتهام إلى الموجه
البعثي نفسه !!!.
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|