من
نال مِن "هيبة"؟!
رزان
زيتونة
قال الوزير محسن بلال محقا : "سورية
كانت وما زالت ترعى حقوق
مواطنيها وتحافظ عليها، ويتجلى
ذلك في الإخاء بين جميع أبنائها
والذي يشكل أنموذجاً يحتذى به".
في الطريق إلى سجن عدرا المركزي،
كنت في حالة مزرية من نفاذ الصبر.
حاولت إلهاء نفسي بتخيل لحظات
اللقاء، واستعادة ابتسامات من
سألتقيهم، وكأنني مراهقة في
موعدها الغرامي الأول. فبعض
المعتقلين، هم من أغلى
الأصدقاء، بيننا وبينهم خبز
وملح وهراوات شرطة مكافحة الشغب
أثناء الاعتصامات.. ولحظات
كثيرة لا تنسى.
لم نصل إلى الغرفة السحرية التي
ستجمعنا بالأحبة، إلا وقد أنهكت
تماما، وأنا أحاول أن أواري
توتري ونفاذ صبري.. إلى أن دخل
الحبيب الأول، وتوالى دخول
الأحبة واحدا إثر آخر حتى اكتمل
عددهم بأربعة عشر "ابنا"
معتقلا، مقابل ثمانية محامين
"أبناء"، يتبادلون العناق
والسلام والكلام.
لم يذهب بلحظات الفرح هذه،
المفارقات كلها التي أبقتني في
حالة دهشة بقية اليوم بطوله.
حبيب، أحد المحامين الزائرين،
كان قبل أشهر فقط أحد
الذين يتلقون
الزيارات في هذا السجن. أنور
ومحمود، المحاميين المعتقلين
حاليا، كانا قبل أيام من اللذين
يأتون زائرين إلى السجن نفسه.
ميشيل كيلو والآخرين في زي
السجن المخطط بألوان العتمة.
علي العبد الله كعادته لا يتكلم
إلا قليلا. ولا عجب، خاصة بوجود
ولده محمد الذي لا يكف عن الكلام
والحركة كقوس قزح مشاغب.. هذا
الأمل المتهم بإثارة الشغب..
و ذلك السجين
المسن الذي تلقفته الأيدي
بالأحضان والوجوه بالقبلات،
قبل أن يدرك الجميع بأنه سجين
جنائي أُحضر خطأ نتيجة تشابه
أسماء، وخرج مكسور الخاطر مع
دعواتنا له بتلقي زيارة قريبة
من أحبته.
كانوا عدة أجيال تتبادل المقاعد
حول الطاولة المستطيلة ليتسنى
لها الحديث مع بعضها البعض. بدءا
من فتى العشرينيات وانتهاء
برجال عقد الستينيات. كتاب،
محامون، أطباء ، مترجم ، ممرض،
طالب، سياسيون ونشطاء حقوقيون.
ودولة تقبع خلفهم تتربص بهم
بغضب، هؤلاء الذين نالوا من
هيبتها!
تبددت غيمة الحميمية التي كانت
تظللنا، عقب دخول مدير السجن
"غرفتنا" واحتدام الجدل
بينه وبين روادها حول ظروف
السجن وحقوق السجناء. لحظتها
بدأت تتراءى لي هيبة الدولة،
بشخص رجل كهل ضعيف البنية أشعث
الشعر يرتدي بذلة كبيرة متهدلة
وربطة عنق مائلة. كانت "هيبة"
تشبه أحدا ما لم أستطع تمييزه..
لكن كانت لا ريب تشعر بالانكسار.
سرقني من خيالاتي انتهاء الزيارة
بغير الحميمية التي بدأت بها.
ابتعدت مع زملائي وأنا أنظر
خلفي لكي أسترق آخر النظرات إلى
الأحبة. لكنها كانت هناك في إحدى
زوايا الممر الطويل، متعبة تدخن
بملل.
في الطريق إلى بوابة السجن،
ألقيت التحية بقلبي على د.عارف
دليلة في زنزانته، وقد قالوا لي
بأنها في الجهة الأخرى من
المكان الذي نتواجد فيه.وكذلك
فعلت مع غياث حباب، الذي ينتظر
حكمه في الأيام القليلة القادمة.
لم تكن لدي
رغبة في الحديث إلى أحد في طريق
العودة. وددت فقط أن أستحضر تلك
اللحظات الدافئة بين جدران
المعتقل. حيث الإخاء يجمع
الأبناء، صفوة الأبناء تحت سقف
سجن واحد. وحيث الحقوق تفيض
كالينابيع في سجن واحد. وحيث
يحلم التعساء في الدول المتخلفة
بلحظات فضية كالتي حظينا بها
جميعا بين جدران سجن واحد. أربعة
عشر معتقلا وقَعوا إعلان حرية
مع آلاف سواهم في ماضيها
وحاضرها.. بالطبع قد نيل منها
تلك الهيبة.. لكنها لا تزال تجر
خيبتها وراءها من سجن لآخر، ومن
قضاء استثنائي إلى محاكم عادية،
تحاول عبثا الإدلاء بشهادتها
فيمن نال منها حقيقة .
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|