ـ |
ـ |
|
|
|||||||||||||||
مصطلحات
سياسية (1) الثيوقراطية
الدكتور
خالد الأحمـد* تمهيد : يخاف بعض
الناس من الحركة الإسلامية ،
ويعتقد أنها عندما تحكم سوف
يكون حكمها ثيوقراطياً ، والحكم
الثيوقراطي أحد أنواع الحكم
الاستبدادي ، بل أشدها
استبداداً ، وأتسرع فأقول
الحركة الإسلامية تريد حكماً
مدنياً ، وهذا حقيقة الحكم في
الإسلام ، حكم مدني يوضحه خطبة
أبي بكر الصديق الخليفة الأول
رضي الله عنه : أيها الناس قد
وليت عليكم ولست بخيركم ، فإن
أصبت فأطيعوني ، وإن عصيت
فقوموني ، أطيعوني ما أطعت الله
فيكم ، فإن عصيت فلاطاعة لي
عليكم ... فما هو الحكم
الثيوقراطي
: تعريف
الثيوقراطية : الأصل اللغوي
للمصطلح مشتق من الكلمة
اليونانية Theokratia وتعني "حكم الله" ولكن في استعماله
الشائع ، فإن المصطلح يقصد به
"حكم رجال الدين". ونظام الحكم
الثيوقراطي هو نظام الحكم الذي
يعتبر أن الله هو السلطة
السياسية العليا وأن القوانين
الإلهية هي القوانين المدنية
الواجبة التطبيق وأن رجال الدين
بوصفهم الخبراء بتلك القوانين
الإلهية فإنه تتمثل فيهم سلطة
الله والتي يكون لزاماً عليهم
تجسيدها من خلال فرض وتطبيق
قوانينه السماوية ، وأول من
استخدم مصطلح "ثيوقراطية"
بهذا المعنى المؤرخ اليهودي
جوزيف وإن كان قد قصد به ، على
وجه التحديد ، المفهوم اليهودي
للحكومة كما هو وارد في التوراة
حيث تؤكد أن القوانين الإلهية
هي مصدر الالتزامات الدينية
والمدنية على حد سواء . وهناك نماذج
تاريخية أخرى لنظم حكم
ثيوقراطية منها فلورنسا تحت حكم
سافونارولا وجنيف تحت حكم كالفن
. ولقد كان لخبرة
أوروبا في عصورها الوسطى
المظلمة حيث امتدت سيطرة
الكنيسة ورجالها إلى كافة نواحي
الحياة السياسية والاقتصادية
والاجتماعية والثقافية في
المجتمعات الأوروبية ، كان لها
أثرها الواضح في توليد رد فعل
عنيف تجاه تدخل رجال الدين في
حياة الأفراد بأي صورة من الصور
، فكان أن ظهرت الحركات القومية
والمذاهب الفردية والنظريات
الديمقراطية كردود فعل
لممارسات رجال الدين المسيحي
المتعدية في أوروبا العصور
الوسطى ، وكان أن ترجم الفكر
السياسي الأوروبي رفضه
لممارسات رجال الكنيسة في
العصور الوسطى إلى رفض للدين
ذاته فظهرت الحركات العلمانية
التي ترمي إلى الفصل التام بين
الدين والسياسة ، مؤكدة أن
الدين مكانه ليس البرلمان ولكن
دور العبادة، وهي الفكرة التي
تقوم عليها المجتمعات السياسية
في أوروبا وأمريكا حتى وقتنا
الحالي . وتشهد المجتمعات
الإسلامية في الوقت الحالي خبرة
عكسية تماماً خاصة في الدول
التي تبنت مفاهيم القومية
وغيرها من الأفكار التي سادت
المجتمعات الغربية نتيجة
لخبرتهم التاريخية السابق
الإشارة إليها ، فمعظم
المجتمعات الإسلامية تشهد حركة
فكرية قوية تحاول تقديم تفسير
لحالة التدهور والتخلف التي
يحياها العالم الإسلامي ، ويؤكد
بعض المفكرين الإسلاميين على أن
السبب الرئيسي للتدهور والتخلف
في كافة مناحي الحياة والذي
تشهده المجتمعات الإسلامية
إنما يرجع إلى استبعاد القوانين
الإسلامية من التسيد على كافة
مناحي الحياة دينية ومدنية معاً
، وهذا جعل فريق من العلمانيين
وأعداء المنهج الإسلامي يقولون
: يدعو هذا التيار الإسلامي إلى
ضرورة العودة إلى تطبيق
القوانين الدينية وإلى ضرورة
إعطاء رجال الدين مكانتهم
الصحيحة في الهيئة الحكومية
تشريعياً وقضائياً بل
وكاستشاريين للقائمين على
السلطة التنفيذية إذا لم يكن
الأخيرون متفقهين في أمور
الشريعة الإسلامية ، وهو ما
يعتبر لب المفهوم الثيوقراطي في
الحكم ، وهذا الكلام غير صحيح
على الإطلاق لأن الثيوقراطية
شكل من أشكال الحكومات
النصرانية الغربية ، يحكم فيها
الدولة قسيس ، أو كاهن أو مجموعة
قساوسة ، ويكون فيها لرجال
الدين سلطة في الأمور المدنية
والدينية ، وقد جاءت كلمة
ثيوقراطية من كلمتين يونانيتين
: الأولى كلمة ثيو ، وتعني إله ،
والثانية كلمة قراط وتعني الحكم. وقد اعتقد كثير من
القدماء أن إلههم ، أو آلهتهم قد
سلموا القوانين إلى حكوماتهم (نظرية
التفويض الإلهي عند الغربيين
النصارى) فقد كان يُعتقد أن
مدونة (قوانين) حمورابي قد نزلت
وحياً من السماء ، وقد سميت
الحكومة التطهيرية في
ماساشوسيتس بالولايات المتحدة
ثيوقراطية . وقد استمرت
لسنوات كثيرة على أساس الطاعة
للقانون الإلهي كما يفسره رجال
الدين النصارى ، والحكومة أو
علماء الدين في الإسلام ليسوا
وسطاء بين العبد وربه ، فضلاً عن
أن الدين الإسلامي نفسه ليس به
رجال كهنوت ، كما أن العلماء أو
الحكومة في الإسلام ليسوا
أوصياء من الله على خلقه . فمن يدعي أن الحكم
الإسلامي ثيوقراطي يكون قد ظلم
الحقيقة ، لأن الحاكم المسلم
ينتخب من الشعب ، وهو يخطئ ويصيب
ويحاسب ويعزل وليس معصوماً ،
وليس هناك في الإسلام طبقة
الكهنوت المشار إليها ، وإنما
يحكم في الأمة أفضلها بشروط
معينة تقدمه الأمة وتختاره على
أساسها لإدارة مصالحها في
الدنيا ، فهو على هذا حكم مدني
منتخب حاكمه من الشعب . والثيوقراطية
كانت في غاية في هذه النظريات
تبرير السلطة التي يتمتع بها
الحكام في مواجهة المحكومين ،
حتى تكون لتلك السلطة قداسة في
نفوس الناس ، يخضعون لها
ويتلقون أوامرها بدافع من
أنفسهم ، لأن سلطة الحكام
مستمدة من الله ، وهم خلفاء الله
في أرضه ، ولا يسألون أمام شعبهم
لأن سلطتهم مطلقة ، وإنما
يسألون أمام الله الذين منحهم
هذه السلطة. أثر الإسلام في
تطوير فكرة إخضاع الحكام
للقانون لو تتبعنا دراسة
مصادر الفكر السياسي الإسلامي
في مراجعه الأساسية ، لوجدنا أن
مهمة الحاكم في الإسلام تكاد
تكون وظيفة تنفيذية محضة سواء
عن طريق التنفيذ الحرفي للنصوص
أو التنفيذ الاجتهادي للأمور
المرتبطة بالاجتهاد. وسلطات الخليفة
محدودة بالحدود الشرعية ، ولا
يجوز له أن يتجاوز هذه الحدود ،
وإنما يقوم بتنفيذ أحكام
الشريعة بأمانة وإخلاص وصدق . وقد حدد "الماوردي"
في كتابه : "الأحكام
السلطانية" وظائف الخليفة،
ولو درسنا هذه الوظائف لوجدنا
أنها لا تخرج عن كونها أعمالاً
تنفيذية ، يقوم بها نيابة عن
المجتمع لحماية المصالح العامة
، والدفاع عن البلاد ، وإقامة
الأحكام، والفصل في المنازعات ،
وجباية الأموال ، وتوزيعها بين
مستحقيها ، واختيار الولاة ،
وتكليفهم بمهماتهم ، بالإضافة
إلى المهمة الرئيسية التي يقوم
بها وهي حماية العقيدة وحفظ
الدين وتطبيق مبادئه وأحكامه . وتعبر الولاية في
نظر الإسلام أمانة ، وعلى
الحاكم أن يقوم بهذه الأمانة
على الوجه الأكمل ، ولذلك قال
النبي – صلى الله عليه وسلم - : "كلكم راع وكلكم
مسؤول عن رعيته ، فالإمام راع
وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة
راعية في بيت زوجها وهي مسؤولة
عن رعيتها ، والولد راع في بيت
أبيه وهو مسؤول عن رعيته ،
والعبد راع في مال سيده وهو
مسؤول عن رعيته ، ألا فكلكم راع
وكلكم مسؤول عن رعيته" . ودخل أبو مسلم
الخراساني على معاوية بن أبي
سفيان فقال : السلام عليك أيها
الأجير ، فقالوا : قل السلام
عليك أيها الأمير ، فقال :
السلام عليك أيها الأجير ،
فقالوا : قل أيها الأمير ،
وأعادها ثلاثاً ، ثم قال : إنما
أنت أجير استأجرك رب هذه الغنم
لرعايتها فإن أنت هنأت جربها ،
وداويت مرضاها ، وحبست أولاها
عن أخراها ، وفّاك سيدك أجرك ،
وإن أنت لم تهنأ جرباها ولم تداو
مرضاها ، ولم تحبس أولاها على
أخراها ، عاقبك سيدك " . وقد علق ابن تيمية
على بعض واجبات الخليفة
المتعلقة باختيار ولاته فقال :
وليس عليه أن يستعمل إلا الأصلح
الموجود ، وقد لا يكون في موجوده
من هو صالح لتلك الولاية فيختار
الأمثل في كل منصب بحبسه ، وإذا
فعل ذلك بعد الاجتهاد التام ،
وأخذه للولاية ، فقد أدى
الأمانة ، وقام بالواجب في هذا ،
وصار في هذا الموضع من أئمة
العدل المقسطين " ([1]). وقال أيضاً : فإن
عدل عن الأحق الأصلح إلى غيره
لأجل قرابة بينهما ، أو ولاء
عتاقة أو صداقة ، أو موافقة في
بلد أو مذهب أو طريقة أو جنس ،
كالعربية والفارسية والتركية
والرومية ، أو لرشوة يأخذها منه
من مال أو منفعة، أو غير ذلك من
الأسباب ، أو لضغن في قلبه على
الأحق أو عداوة بينهما ، فقد خان
الله ورسوله والمؤمنين ، ودخل
فيما ينهي الله عنه في قوله ([2]): (يا أيها الذين آمنوا لا
تخونوا الله والرسول وتخونوا
أماناتكم وأنتم تعلمون)([3]). وإذا كان فقهاء
القانون الدستوري يطلقون على
صلاحيات الحاكم اسم "سلطات
رئيس الدولة" فإن علماء الفكر
السياسي الإسلامي لا يرتضون هذه
التسمية لأنها لا تعبر التعبير
الدقيق عن وظائف الحاكم في نظر
الإسلام ، ويختارون بدلاً عنها
اسم " واجبات الخليفة" لأن
الخلافة في نظر الإسلام مسؤولية
وأمانة ، وعلى من يتحمل هذه
المسؤولية والأمانة أن يقوم
بالواجبات المنوطة به على الوجه
الأكمل . وليس في الإسلام
سلطات ممنوحة للحاكم أو الخليفة
، وإنما هي واجبات، وعلى الحاكم
أن يقوم بهذه الواجبات ، وتقتصر
مهمته على تنفيذ أحكام الشريعة
، ويعتبر كل فرد في المجتمع
الإسلامي رقيباً على الحاكم
وعلى جميع ولاته ووزرائه ،ويملك
كل فرد في المجتمع الإسلامي
القيام بدور الناقد لكل ما يصدر
عن الخليفة من تصرفات مخالفة
لأحكام الشريعة. ويحتكم الجميع في
النهاية إلى القرآن والسنة
لأنهما يمثلان المصدر الرئيسي
للتشريع ، وعلى الجميع أن
يتقبلوا حكم الشريعة دون أن
يكون لأحد من الحكام أو من
الأفراد الحق في تجاوز تلك
الأحكام . وإذا كان الإسلام
قد فرض على الناس الطاعة للحاكم
فإن هذه الطاعة مشروطة بألا
تكون الأوامر الصادرة من الحاكم
مخالفة للشريعة ، وعندئذٍ فلا
طاعة لمخلوق في معصية الخالق ،
قال النبي – صلى الله عليه وسلم – على المرء السمع
والطاعة فيما أحب أو كره ما لم
يؤمر بمعصية ، فإن أمر بمعصية
فلا سمع ولا طاعة ". ولو رجعنا إلى
الشروط الواجب توافرها في
الخليفة لوجدنا أن شرط العدالة
من أهم هذه الشروط . قال الماوردي في
بحثه عن شروط الإمام : والشرط الخامس
العدالة وهي معتبرة في كل ولاية
، والعدالة أن يكون صادق اللهجة
، ظاهر الأمانة ، عفيفاً عن
المحارم ، متوقياً المآثم ،
بعيداً عن الريب ، مأموناً في
الرضاء والغضب ، مستعملاً لمرؤة
مثله في دينه ودنياه ، فإذا
تكاملت فيه فهي العدالة التي
تجوز بها شهادته ، وتصح معها
ولايته ، وإن انخرم منها وصف منع
من الشهادة والولاية ، فلم يسمع
له قول ، ولم ينفذ له حكم ([4]). ولم يكتف الإسلام
بإخضاع الحاكم للقانون الأساسي
في الدولة الإسلامية وهي أحكام
التشريع ، وإنما شرط في الحاكم
شروطاً يجب أن تتوفر فيه ،
ومقتضى هذه الشروط أن يطبق
أحكام الشريعة على نفسه أولاً،
فيمنعها من الفسق والفجور وجميع
أنواع المحرمات والمنكرات ، لأن
هذه الأمور مما تتنافى مع أحكام
الشريعة ، ومن واجب الحاكم أن
يخضع نفسه وسلوكه الشخصي
للتشريع المعمول به في الدولة
الإسلامية. قال الماوردي في
صدد بحثه عن الإمام وخروجه عن
عدالته : " وإذا قام
الإمام بما ذكرناه من حقوق
الأمة فقد أدى حق الله تعالى
فيما لهم وعليهم ووجب له عليهم
حقان : الطاعة والنصرة ما لم
يتغير حاله، والذي يتغير به
حاله ، فيخرج به عن الإمامة
شيئان : أحدهما : جرح في عدالته ،
والثاني : نقص في بدنه ، فأما
الجرح في عدالته وهو الفسق ، فهو
على ضربين: أحدهما ما تابع فيه
الشهوة ، والثاني : ما تعلق فيه
بشبهة . فأما الأول منهما
فمتعلق بأفعال الجوارح ، وهو
ارتكابه للمحظورات ، وإقدامه
على المنكرات ، تحكيماً للشهوة
، وانقياداً للهوى ، فهذا فسق
يمنع من انعقاد الأمانة ومن
استدامتها ، فإذا طرأ على من
انعقدت إمامته خرج منها ، فلو
عاد إلى العدالة لم يعد إلى
الإمامة إلا بعقد جديد ([5]). ولو تتبعنا آراء
العلماء لوجدنا أنهم مجمعون على
وجوب عزل الخليفة الذي لا يلتزم
بتنفيذ أحكام الشريعة على الناس
أو على نفسه . قال الغزالي في
كتابه " إحياء علوم الدين "
: "إن السلطان الظالم عليه أن
يكف عن ولايته ، وهو إما معزول
أو واجب العزل ، وهو على التحقيق
ليس بسلطان" . وقال ابن حزم في
كتابه " الفصل في الملل
والأهواء والنحل" وهو يتحدث
عن مخالفة الخليفة لأحكام
الشريعة وعدم خضوعه لأحكامها : " فهو الإمام
الواجب طاعته ما قادنا بكتاب
الله تعالى وسنة رسول الله – صلى الله عليه
وسلم – فإن زاغ عن شيء منهما ، منع من
ذلك ، وأقيم عليه الحد والحق ،
فإن لم يؤمن أذاه إلا بخلعه ،
خلع وولي غيره" . وقال أيضاً في صدد
كلامه عن عدم خضوع الحاكم
للشريعة ما يلي: " والواجب إن
وقع منه شيء من الجور وإن قل ، أن
يكلم الإمام في ذلك، ويمنع منه ،
فإن امتنع وراجع الحق ، وأذعن
للقود من البشرة أو الأعضاء،
ولإقامة حد الزنا والقذف والخمر
عليه ، فلا سبيل إلى خلعه ، وهو
إمام كما كان لا يحل خلعه ، فإن
امتنع من إنفاذ شيء من هذه
الواجبات عليه ، ولم يراجع ، وجب
خلعه ، وإقامة غيره ممن يقوم
بالحق"([6]). ولم يكتف الإسلام
بإيجاب خضوع الحاكم لأحكام
الشريعة ، وإنما أباح بل أوجب
على المسلمين الخروج على الحاكم
الذي يحكم بغير حكم الله، أو
الحاكم الذي يجاهر بالمعصية
ويستبيحها لنفسه ، وتعتبر طاعة
هذا الإمام غير واجبة وأوامره
غير ملزمة ، وعلى كل فرد في
الدولة أن يعمل للخلاص منه . وممن أوجب الثورة
على الإمام الظالم الذي لا
يتقيد بأحكام الشريعة ولا يخضع
لها في حكمه أو في سلوكه ،
المعتزلة والخوارج والزيدية ،
وهؤلاء رأوا جواز الخروج على
الأئمة الظلمة وخلعهم بالقوة
إزالة للظلم وإقامة للحق . وإذا كان بعض
العلماء قد قالوا بعدم جواز
الخروج على الإمام الظالم فإنهم
قد لاحظوا ما يمكن أن يترتب على
مثل هذا العمل وإباحته من فتنة
داخلية وحرب أهلية قد تمزق
المجتمع الإسلامي ، وتقضي على
وحدته وتماسك شعبه . ومما ذكرناه يتضح
لنا أن الإسلام قد أوجب على
الحاكم الخضوع لأحكام الشريعة
وبذلك يكون قد قيد سلطات الحاكم
تقييداً كبيراً ، بل جعل سلطاته
مجرد عملية تنفيذ لأحكام
الشريعة ، وأوجب عليه أن يطبق
أحكام الشريعة على نفسه أولاً ،
ويلزم نفسه بالأوامر والنواهي
الشرعية والواجبات والمحرمات ،
وأوجب على المسلمين إقامة
الحدود عليه إذا ارتكب من
الجرائم ما يستحق عليه العقوبة . وبذلك يتبين لنا
أن الإسلام قد أقام نظامه
السياسي على أساس "إخضاع
الحاكم للقانون" وجعل الحكم
في ذلك للقضاء ، الذي منحه سلطة
مستقلة ، يستمدها القاضي من
الشريعة مباشرة دون أن يكون
ملزماً بأوامر الخليفة . إذن
... "الثيوقراطية" أو ما
يسمى بحكومة رجال الدين ليس من
الإسلام ولا علاقة له بها ،
وطالما حاول أعداء الإسلام
والمتجنون عليه أن يصموا حكم
المسلمين بمثل هذا الشكل من
الحكومات ويقولون " إنه عفا
عليها الزمن" لأن أوروبا
تركتها بعد الثورة الفرنسية ،
ونرى بعض مدّعي الإسلام وهم
منافقون في الواقع يعارضون حكم
الإسلام والدستور الإسلامي
بحجة أنه يعني "حكم المشايخ
أو وزارة الأوقاف" وهم بذلك
يفضحون جهلهم بالإسلام وغربتهم
عنه أولاً ، وثانياً يفضحون
مقدار عمالتهم الفكرية حيث
يريدون تطبيق المفاهيم
اليهودية أو المسيحية على
الإسلام . الإسلام والحق
الإلهي المقدس : إن الاعتقاد
بألوهية الحاكم نشأت في
المجتمعات البدائية كما هو
معلوم في التاريخ ، فكان فرعون
يستدل على ألوهيته في الحكم
بقوله : (أليس لي ملك مصر وهذه
الأنهار تجري من تحتي)([7]) وبقوله : (ما علمت لكم من إلهٍ
غيري) ([8]) ، ولكن بعد غرق فرعون مصر على
يد نبي الله موسى زالت فكرة
ألوهية الحاكم، ولكن عادت هذه
من جديد بعد عصر بولس الرسول ،
فكانت صكوك الغفران والحرمان
التي يمارسها البابوات على
الشعب ، وعلى الحاكم ، تجعل
الكنيسة عند تركها السلطة
الزمنية أي الدينية للحكام ،
حيث جعلت سلطة الحاكم مستمدة من
الله مباشرة ، وهذا عرف باسم
الحق الإلهي المباشر الذي جعل
البابا ليون الثالث عشر يقرر أن
الحاكم يستمد سلطته من الله
مباشرة . وبعد الصراع بين
الكنيسة والإمبراطور تطور هذا
المفهوم فقالت الكنيسة بنظرية
الحق الإلهي غير المباشر ،
ومقتضاه أن السلطة ممنوحة
للحاكم عن طريق الشعب ولكن
بتوجيه من الإرادة الإلهية غير
المباشرة التي وجهت الشعب
لاختيار الحاكم . ثم تطور هذا نتيجة
إصرار الأباطرة على أنهم
يستمدون سلطتهم من الله، ولا
يمكن أن يكونوا مسؤولين أمام
الشعب ، وقد أدى هذا الانحراف
إلى ردود فعل كبيرة ، منها نظرية
العقد الاجتماعي التي نادى بها
"جان جاك روسو ، وتوماس هوبز"
، ومؤداها : أن السلطة السياسية
جاءت نتيجة عقد واتفاق بين
الحاكم والشعب ينوب فيه الحاكم
عن الشعب ولقد كان مفهوم العقد
الاجتماعي عند "لوك" أكثر
تقييداً لسلطة الحاكم إذ يشير
إلى أن العقد بينهما يتضمن
التزاماً على الحاكم بعدم
المساس بالحقوق الطبيعية
للإنسان . ولقد كان رد الفعل
النهائي في أوروبا هو
الديمقراطية ، ومؤداها أن الشعب
هو الذي يختار السلطة الحاكمة
فإذا استمدت سلطتها من غير
الشعب كانت سلطة غير شرعية ،
وهذه الديمقراطية تخول الشعب عن
طريق من يمثلونه في البرلمان أن
يضع ما يشاء من التشريعات . طبيعة الحكم
الإسلامي : الإسلام يجعل
التشريع من عند الله وهو تشريع
قد اكتمل في القرآن والسنة
النبوية فلا يملك حاكم أو محكوم
أن يضع تشريعاً يخالفهما . والحاكم يختاره
الشعب ومهمته تنفيذ شرع الله ،
وهو التشريع سالف الذكر فالحاكم
ليست له حقوق وسلطات الحاكم في
النظام الديمقراطي ، فلا يوجد
في النظام الإسلامي ما عرف باسم
سلطات رئيس الدولة بل يوجد
واجبات الخليفة . وطاعة الحاكم في
الإسلام مقيدة ومشروطة
بالتزامه بالقرآن والسنة ،
للحديث النبوي : "إنما الطاعة
في المعروف لا طاعة في معصية"
، قال الماوردي : " إذا تكاملت
فيه شروط العادلة ، تجوز بها
شهادته وتصبح ولايته ، فإذا
انخرم منها وصف منع هذه الشهادة
والولاية فلم يسمع له قول ولم
ينفذ له حكم " . وقال الإمام ابن
حزم الأندلسي : " فهو الإمام
الواجب طاعته ما قادنا بكتاب
الله تعالى وسنة رسوله –صلى
الله عليه وسلم- فإذا زاغ عن شيء
منهما، منع من ذلك وأقيم عليه
الحق والحق ، فإن لم يؤمن أذاه
إلا بخلعه ، خُلع وولي غيره "
، والحكم الإسلامي من أهم
خصائصه أن يكفل الحريات العامة
للإنسان وأهمها الحرية الشخصية
وحرية التنقل وحق الأمن وحق
السكن وحرمته ، وحرية العقيدة
والفكر وحرية التملك وحرية
العمل . إن الطاعة للحاكم
هي في حقيقتها طاعة لله الذي
أمرنا باتباع هذا التشريع وطاعة
من التزم به : ( من يطع الرسول فقد
أطاع الله ) ([9]). الإسلام والحكم
الديني : جاء الإسلام لهدم
الحكم الديني الممثل في عصمة
رجال الدين ، ولكن بعض كتاب
المسلمين خلطوا بين هذه الحكومة
الدينية كما عرفتها أوروبا في
القرون الوسطى حتى الثورة
الفرنسية وبين نظام الإسلام ،
وقد فعل ذلك خالد محمد خالد في
كتابه "من هنا نبدأ" ، وبعد
ثلاثين عاماً من صدور الكتاب
أعلن صاحبه عن توبته عن هذه
الخطيئة ، وذلك في كتابه الجديد
باسم "الإسلام والدولة"
وأوضح أنه كان يخلط بين الحكومة
الدينية في أوروبا وبين الحكم
الإسلامي من خلال نظرته لتصرفات
بعض الأفراد . ولعل الباحثين
الموضوعيين من المسلمين وغيرهم
، لا ينكرون أن قواعد الإسلام
تعطل خصائص الحكم الديني في
جميع العصور ، لأنه يمنح عصمة
تجعله مفوضاً عن الله فيما يفعل
، فلا يخضع للمحاسبة أو
المراجعة ، وكل ما يصدر عنه إنما
يصدر باسم الحق الإلهي المفوض
هو فيه . وفي إعلان النبي –صلى
الله عليه وسلم- عندما أسلم أحد
كبار رجال الدين من أهل الكتاب
وهو عدي بن حاتم ، فقرأ عليه
النبي قول الله (اتخذوا أحبارهم
ورهبانهم أرباباً من دون الله) ([10]) ولما ظن عدي أن العبادة من
دون الله تعني السجود والصلاة
للأحبار والرهبان وهم لا يفعلون
ذلك فقال : ما عبدناهم، قال
النبي –صلى الله عليه وسلم- : " ألم
يحلوا لكم الحرام ويحرموا عليكم
الحلال فتبعتوهم ؟ " ، قال عدي
: بلى … ، قال النبي : " فتلك
عبادتكم إياهم" لا يكون
للحاكم بالتشريع الإسلامي عصمة
، فهو يخضع للمحاسبة كآحاد
الناس . الخلاصــة : الحكم
في الإسلام مدنـي ، وليس حكماً
دينياً ( ثيوقراطياً ) ، لكن جهل
أنصاف المتعلمين الذين يقيسون
الإسلام بالكنيسة في العصور
الوسطى ، جعلهم يتوهمون أن
الحكم الإسلامي ثيوقراطي ...
وسيرة الخلفاء الراشدين أصدق
تعبير عن الحكم الإسلامي ،
أوصانا رسول الله صلى الله عليه
وسلم أن نعض عليها بالنواجذ [
عليكم بسنتي ، وسنة الخلفاء
الراشدين المهديين من بعدي عضوا
عليها بالنواجذ ] أو كما قال صلى الله عليه
وسلم ... والحمد لله رب
العالمين *كاتب سوري في المنفى ([1])
السياسة الشرعية لابن
تيمية (ص/14-15) . ([2])
سورة الأنفال –
الآية (27) . ([3])
السياسة الشرعية لابن
تيمية (ص/10-11) . ([4])
الأحكام السلطانية
للماوردي (ص/66) . ([5])
الأحكام السلطانية
للماوردي (ص/17) . ([6])
انظر هذه النصوص في
النظريات السياسية الإسلامية
للدكتور ضياء الدين الريس (ص/294-297)
. ([7])
سورة الزخرف –
الآية (51) . ([8])
سورة القصص –
الآية (28) . ([9])
سورة النساء –
الآية (80) . ([10])
سورة التوبة –
الآية (31) .
|
ـ |
ـ |
من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ |