ذريّة
بعضها من بعض
بقلم:
محمد علي شاهين
يذكر كلّ مطّلع على
شؤون العالم الإسلامي في مطلع
القرن الماضي مآثر السلطان عبد
الحميد، ومواقفه الثابته من
القضيّة الفلسطينيّة، بالإضافة
إلى تأكيده
على الإسلاميّة العالميّة
للدولة العثمانيّة خلال حياته
والتمسّك بمنصب الخلافة،
والمحافظة على وحدة العالم
الإسلامي، والدفاع عنه ضدّ
الأخطار المحدقة به، حتى ضاق
اليهود والماسون ذرعاً به،
فتآمروا عليه، واستطاعت جمعيّة
تركيّا الفتاة تنفيذ الانقلاب
العثماني سنة 1327/1909 فخلع وأرسل
إلى سلانيك، ويذكر المطّلعون
على دقائق الأمور رسالة السلطان
إلى شيخه محمود أبي الشامات في
دمشق حيث يقول: إنني لم أتخل عن
الخلافة الإسلامية لسبب ما، سوى
أنني ـ بسبب
المضايقة من رؤساء جمعية
الاتحاد المعروفة باسم (جون
تورك) وتهديدهم ـ اضطررت وأجبرت
على ترك الخلافة، إن هؤلاء
الاتحاديين قد أصرّوا وأصرّوا
علي بأن أصادق على تأسيس وطن
قومي لليهود في الأرض المقدسة (فلسطين)،
ورغم إصرارهم فلم أقبل بصورة
قطعية هذا التكليف، وأخيراً
وعدوا بتقديم 150 مائة وخمسين
مليون ليرة إنجليزية ذهبا،
فرفضت هذا التكليف بصورة قطعية
أيضاً، وأجبتهم بهذا الجواب
القطعي الآتي: (إنكم لو دفعتم
ملء الأرض ذهبا ـ فضلا عن 150 مائة
وخمسين مليون ليرة إنجليزية
ذهباً فلن أقبل بتكليفكم هذا
بوجه قطعي، لقد خدمت الملّة
الإسلاميّة والمحمديّة ما يزيد
عن ثلاثين سنة فلم أسوّد صحائف
المسلمين آبائي وأجدادي من
السلاطين والخلفاء العثمانيين،
لهذا لن أقبل تكليفكم بوجه قطعي
أيضا)، وبعد جوابي القطعي
اتفقوا على خلعي، وأبلغوني أنهم
سيبعدونني إلى (سلانيك) فقبلت
بهذا التكليف الأخير، هذا وحمدت
المولى وأحمده أنني لم أقبل بأن
ألطخ الدولة العثمانية والعالم
الإسلامي بهذا العار الأبدي
الناشئ عن تكليفهم بإقامة دولة
يهودية في الأراضي المقدسة
فلسطين.
ونذكر هنا اعتمادا
على الوثائق العثمانية ومذكرات
(تيودور هرتزل) أن السلطان عبد
الحميد رغم الضائقة المالية لم
يفرط في أراض الدولة، ورده على (فيليب
نيولينسكي) حتى يبلغه للدكتور (هرتزل)
الذي شاء أن يشتري أرض فلسطين
مقابل قيام اليهود بسداد ديون
الدولة العثمانية، خير دليل على
ذلك، إذ قال له: إذا كان السيد
هرتزل صديقاً لك بقدر صداقتك
لي، فقل له: أن لا يتقدم خطوة
ثانية في هذا الموضوع، إنني لا
أبيع أرضا حتى ولو كانت شبراً
واحداً، لأن هذا الوطن ليس
ملكي، بل هو ملك لأمتي، فقد روته
بدمائها، وقبل أن ينفصل عنا لا
بد أن نغمره بدمائنا مرة ثانية،
إن أبنائي من العساكر من فرق
سورية وفلسطين قد استشهدوا
جميعا في حرب (بلاونة) وظلوا
بأسرهم في ساحة القتال مصرّين
على أن لا يعودوا، إن
الإمبراطورية التركيّة ليست
ملكي، بل ملك الأمة التركية،
فلا أمنح أحداً قط قطعة من
أرضها، ودع اليهود يحتفظون
بملايينهم، فعندما تتفتت
إمبراطوريتي يمكنهم أن يستولوا
على فلسطين دون مقابل، ولكن
عندئذ فقط تتمزق أجسادنا، ولا
أخالني أرضى عن عملية جراحيّة
تجرى لجسد مازال ينبض بالحياة،
عندها أيقنت الصهيونية
العالمية بعد فشل محاولات
الحصول على موافقة عبد الحميد
رحمه الله بإقامة وطن قومي،
والسماح بالهجرة، وبناء
المستعمرات، أن وجوده يشكل عقبة
في سبيل تحقيق الحلم الصهيوني،
وتنفيذ مقرّرات المؤتمر الدولي
الأوّل للصهاينة الذي انعقد في (بازل)
بسويسرا في آب 1897.
وجرى نفي العائلة
العثمانيّة الكريمة وتشتيت
شملها إمعاناً في الانتقام منها
بسبب موقفها من القضيّة
الفلسطينيّة، خارج حدود
الجمهوريّة التركيّة التي أعلن
قيامها في 23 نيسان 1923 وجرى قهرها
وطمس سيرة أبنائها بشكل متعمّد.
تحدّث السيّد (نصرت
مردان) الباحث في الشؤون
التركيّة عن الدعوى التي رفعتها
الأميره نامقة لاستعادة أراض
وعقارات في غزة تعود ملكيتها
إلى جدها عبد الحميد في منطقة (المحرقة
الكبيرة) بغزة وتتألف من 4580
دونما، وكان محامي الأميرة
نامقة هو الأستاذ الياس المر،
أحد أساتذة كلية الحقوق في
بيروت .
وبعد خمس سنوات بدأ
القاضي البريطاني (روبرت ويندهم)
من محكمة العقارات بفتح ملف
الدعوى من جديد، وحينما أحست
المنظمة الصهيونية العالمية أن
الأميرة نامقة على وشك أن تكسب
الدعوى المرفوعة بدأت بالاتصال
بها وعرضت عليها شراء العقار
موضوع الخلاف دون انتظار
النتيجة وبالمبلغ الذي تحدده
هي، وذلك كمحاولة خبيثة من
المنظمة الصهيونية للإيعاز في
حالة الموافقة على الصفقة بأن
عائلة السلطان العثماني عبد
الحميد تؤيد بموافقتها على هذه
الصفقة، هجرة اليهود إلى فلسطين
واستيطانهم فيها، لكن الأميرة
نامقة رفضت العرض الصهيوني،
وأعلنت أنها ستنتظر القرار
النهائي للمحكمة، تماما مثلما
رفض جدها السلطان عبد الحميد،
وقد أدركت ما يعني رفضها.
وفي 17 كانون الأول (فبراير)
من عام 1946 أعلن القاضي
البريطاني (ويندهم) عن قراره،
وكان القرار متوقعاً، لأنّه لا
بدّ من دفع ثمن باهظ لكل موقف
ثابت لا يقبل المساومة.
ما أحرانا اليوم
ونحن نعيش حصار حماس وصمود
فصائل المقاومة أن نذكر بالفخر
والاعتزاز موقف الأميرة نامقة
بنت سليم، المرأة التي رفضت
بعزّة وإباء إغراءات اليهود
وملايينهم.
أليست هي حفيدة عبد
الحميد الثاني الذي تمسّك بوحدة
العالم الإسلامي، ودافع عنه ضدّ
الأخطار المحدقة به، ورفض
التنازل عن أي شبر من أرض فلسطين
كل فلسطين، ودفع ثمن موقفه
الثابت عرش السلطنة ؟
(ذريّة بعضها من بعض
والله سميع عليم).
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|