صراع
الديوك و مزرعة الأسد
؟
د.
هشام الشامي :
إثناء الاستعمار
الفرنسي لسوريا أقر الزعيم
الفرنسي الجنرال ديجول
بالحقيقة قائلاً
: "واهم من يعتقد أنه بالإمكان
إركاع سوريا" . و عندما تنازل
الرئيس السوري شكري القوتلي عن
الحكم للرئيس المصري جمال عبد
الناصر لصالح مشروع الوحدة بين
القطرين العربيين ؛ الذين توحدا
تحت اسم الجمهورية العربية
المتحدة ، أراد الرئيس القوتلي (
الذي أصبح اسمه المواطن العربي
الأول ) أن يمازح الرئيس جمال
أثناء تهنئته بهذه الوحدة و
برئاسته للجمهورية العربية
المتحدة الوليدة ؛ فقال له : "أسلّمك
شعباً ، ثلثاه زعماء ، و الباقي
أنبياء ، أعانك الله على قيادته"
.
لا شك أن الرئيس
القوتلي قد قال كثيراً من
الحقيقة بأسلوب مازح
لطيف ، و هو الخبير بهذا
الشعب المعتز بنفسه إلى حد
الغرور ، و قد كان القوتلي على
رأس الكتلة الوطنية ، التي كان
لها دوراً رياديّاً في مقارعة
الاستعمار الفرنسي ، و في تحقيق
الاستقلال ، و كان أول رئيس
لسوريا بعد الوعد الذي قدمته
الحكومة الفرنسية باستقلال
سوريا ، و أول رئيس لها بعد
إعلان الاستقلال بشكل رسمي في
السابع عشر من نيسان عام 1946م .
ثم عانى الرئيس
القوتلي مع شعبه من غرور العسكر
و طموحاتهم الرئاسية ، فانقلب
عليه من عينه بنفسه قائداًً
للجيش ، وهو الزعيم حسني الزعيم
في 30/3/1949م ، و أودعه في السجن ، و
بدأ الزعيم بأولى محاولات إركاع
الشعب السوري ، فكان يستدعي
الفتوّات و القبضايات و زعماء
الأحياء الشعبية و شيوخ العشائر
و القبائل و زعماء الأحزاب
السياسية ، فقط ، لإذلالهم و
شتمهم و كسر شوكتهم ، و كان يشبع
غروره و طغيانه و جبروته بشتمهم
و توبيخهم و تهديدهم و
الاستعراض أمامهم ببدلته
العسكرية و نياشينه وأوسمته و
عصاه ، ثم يأمرهم بالانصراف ، و
قد كان هذا التصرف الطائش أحد
المسامير الهامة التي دُقّت في
نعش الزعيم و عجلت بنهايته ،
إضافة لجملة قرارات لم يعتد
عليها شعبنا من قبل ، فبينما كان
الشعب بأغلبيته الساحقة مسلحاً
ببنادق و رشاشات و مسدسات ، منع
الزعيم بقرارات رئاسية حمل حتى
المُدى و الخناجر و السكاكين ، و
أمر بسجن من يحمل أي قطعة سلاح
حتى و لو كان سلاحاً أبيضاً .
و لكن هذا الزعيم
المغرور سقط بانقلاب دموي بعد
حوالي مئة يوم من استلامه
السلطة بانقلاب ، و تم تنفيذ حكم
الإعدام به و برئيس وزرائه محسن
البرازي رمياً بالرصاص . و استلم
الحكم العقيد سامي الحناوي الذي
سقط أيضاً في نفس العام و بعد
حوالي ستة أشهر بانقلاب العقداء
برئاسة العقيد أديب الشيشكلي .
و لكن العسكريين
فشلوا في إخضاع الشعب السوري ، و
تطلع هذا الشعب الحر إلى الحياة
البرلمانية المدنية من جديد ، و
بدأ العصيان المدني و العسكري
بوجه أديب الشيشكلي يتفاقم ،
خصوصاً عندما عطل الشيشكلي
البرلمان و الأحزاب و الحياة
السياسية و أسقط حكومة هاشم
الأتاسي المنتخبة ، و أسس حزباً
قائداً!!؟؟ ( هو حزب التحرير
العربي ) و حاول فرضه على المشهد
السياسي السوري ، و عطل
البرلمان و الدستور ، و فرض
الحياة الديكتاتورية العسكرية
على المجتمع السوري .
و أمام المعارضة
الشعبية و العسكرية المتفاقمة ،
اضطر الشيشكلي إلى مغادرة
البلاد ،
و عاد الرئيس المنتخب هاشم
الأتاسي لإكمال فترته الرئاسية
، و تشكل وفد شعبي لإقناع الرئيس
القوتلي الذي كان يعيش في منفاه
في الإسكندرية في مصر بالعودة
إلى وطنه ، حيث أعيد انتخابه من
جديد رئيساً للبلاد ، و استمر في
هذا المنصب حتى إعلان الوحدة مع
مصر ، حين تنازل طواعية عن الحكم
للرئيس عبد الناصر .
حاول الرئيس عبد
الناصر أن يسيطر على المجتمع
السوري ، بعد أن ألغى الأحزاب ،
بتفعيل دور الأمن و المخابرات و
التي بدت كمحاولة لتصدير أسلوب
حكمه المعتمد في مصر ، فدعم رئيس
المكتب الثاني ( المخابرات )
العقيد عبد الحميد سراج و أطلق
يده على البلاد و العباد في
سوريا ، و أصبح الرجل القوي في
الإقليم الشمالي ( سوريا )
، و كان لهذا الأسلوب القمعي
المخابراتي الذي لم يعتد عليه
الشعب السوري دور بارز في تقويض
أول مشروع وحدوي عربي في العصر
الحديث ، رغم أنه كان حلماً
شعبياً وردياً .
و أذكر أن ناظري قد
وقع على كاريكاتير في أحدى
الصحف العربية الصفراء - التي
كان والدي يرحمه الله يحتفظ بها
- تلخص تلك الفترة بأسلوب ناقد ،
حيث رُسم عبد الناصر و تمشي خلفه
ثلاثون نعجة ( كان تعداد سكان
مصر آنذاك ثلاثين مليوناً )
مطأطئات الرأس ذليلات ، بينما
كان ست قرود ( كان تعداد سكان
سوريا آنذاك ستة ملايين )
يتعربشون و يتسلقون رأس و أكتاف
و ظهر و يدي عبد الناصر و هم
يشاكسونه ويعاكسونه.
و سقطت الوحدة بعد
حوالي ثلاث سنوات من إعلانها ،
معلنة سقوط أول و أخر حلم وحدوي
عربي في القرن الماضي ، و حاول
انقلابيو الانفصال إعادة
الحياة البرلمانية ، و اصطدم
العسكر مع السياسيين من جديد ، و
بينما كان الصراع على أشده
بينهما ، عادت تجارب المغامرين
العسكر المتعطشين إلى السلطة من
جديد ، و حدث انقلاب الثامن من
آذار من عام 1963م و الذي كان
بتدبير مجموعة من الضباط
الناصريين و البعثيين و
المستقلين ، و كان البيان رقم
واحد إعلاناً للانقلاب ( الثورة!!؟
) ، و البيان الثاني إعلاناً
لحالة الطوارئ في البلاد منذ
اليوم الأول لوصول هؤلاء
المغامرين المتعطشين إلى
السلطة ، و ألغيت الأحزاب و
الحياة المدنية و أغلقت الصحف ،
إلا الناطقة باسم الانقلابيين ،
و بدأ الصراع على السلطة بين
أطراف المجموعة الانقلابية ،
الذين كانوا كما الديوك في
مزرعة ، كل منهم سيقاتل بقية
الديوك حتى الموت أو الانفراد
بالمزرعة ، و حسمت معركة الديوك
هذه لمصلحة البعثيين ، و تم
التخلص من الضباط الناصريين و
المستقلين ( رغم أنهم كانوا
الأكبر رتباً ، كما أنهم لعبوا
الأدوار الرئيسية في
الانقلاب ) ، ثم بدأ الصراع داخل
الفصيلة الواحدة في مزرعة البعث
، و بدأت الديوك البعثية تصفي
بعضها البعض ، فتم إبعاد من
اصطلح على تسميتهم اليمينيين و
القوميين و المؤسسين أولاً إثر
حركة شباط 1966م كميشيل عفلق و
صلاح البيطار و الفريق أمين
الحافظ و اللواء محمد عمران (
علوي ، و أعلى رتبة من مجموعة
اللجنة العسكرية السرية التي
شكلها ضباط بعثيون إبان الوحدة
مع مصر ) ، ثم بدأ الصراع داخل
مزرعة الشباطيين فتمت تصفية
الحاطوم و الشاعر ( من الدروز ) ،
كما تم التخلص مجموعة السويداني
( من الحورانيين ) ، ثم من المير و
الجندي ( إسماعيليين ) ، و شيئاً
فشيئاً انحصر الصراع بين
الديكين العلويين ( صلاح جديد و
حافظ الأسد ) .
و استطاع الأسد أن
يحسم الصراع لمصلحته في تشرين
الثاني من عام 1970م ، بعد أن قضى
على كافة خصومه العسكريين و
السياسيين ، و تفرغ لتحويل
سوريا ( بلد الحضارة و التاريخ )
إلى مزرعة خاصة له و لأولاده .
استطاع الأسد عبر
سنين طويلة من الحكم الشمولي
الأمني العسكري الإجرامي من
الانفراد بالسلطة ، و أن يكون
الديك الوحيد المهاب في المزرعة
الأسدية ، و الذي كان ينفش ريشه
كالطاووس و يصيح على الدوام (
يقاقي ) و يقول : أنا ربكم الأعلى
، و كلما كبر أحد الديوك و نفش
ريشه و بدأ بمنافسة الديك
الأسدي في أحد أطراف المزرعة ،
كان الأسد يقوم بقص ريشه أو نتفه
أو بتصفيته نهائياً أو بعزله
داخل أقبية و مهاجع السجون ، أو
بنفيه و طرده من المزرعة ، و في
أحسن الأحوال كان يكتفي بخصيه و
تحويله إلى خنثى لا يهش و لا ينش
، و الأمثلة كثيرة لا تخفى على
أحد من الشعب السوري ، الذي تحول
بدوره ( في نظر الديك الأسدي ) و
تحت ظروف القهر و القتل و
الإجرام و التنكيل و السجن و
النفي و الإرهاب الأمني المنظم
إلى مجموعة من الدجاجات و
الصيصان المسالمة و القنوعة ،
التي لا تحلم بأكثر من نوع
الحبوب و الغذاء الذي ستحصل
عليه ، و لا يحق لها أن تفكر أبعد
من ذلك .
هذه الصورة التي
انطبعت في رأس الديك الأسدي
المغرور ، جعلته يظن نفسه أنه
الوحيد الذي يحق له أن يتصرف في
هذه المزرعة ، فيبيع ما يشاء
منها لمن يشاء ، و يهدي ما يشاء ،
و يقتل من يشاء ، و يسجن من يشاء
، و يبعد من يشاء ، و يقرب من
يشاء ، و لا يحق لأحد مناقشته أو
سؤاله عن أي أمر يتعلق بمزرعته
الخاصة ( حتى و لو كان الأمر
يتعلق بالحرب و السلام ، أو
بالتنازل عن قسم من الأوطان ، أو
باختيار النواب في البرلمان ،
أو بانتخاب خليفة السلطان ) ،و
لا يسمح لأحد أن يقول إلا ما
يرضي و يسعد السلطان ، و يشبع
غروره و جنون العظمة عنده ،
تماماً كما وقف أحد الشعراء
الصيصان (
يصوصي ) و يقول مخاطباً ديكه
الأكبر :
ما شئت لا ما شاءت
الأقدارُ **
فأحكم فأنت الواحد القهارُ .
و كما كانت مجموعة
الصيصان الهتيفة تصرخ بأعلى
صوتها :
حلك يا الله حلك
** تحط
حافظ محلك .
و أختصر آخر ( و يحسب
على المعارضة !! ) تاريخ سوريا (
أقدم بلد في التاريخ ، و عاصمتها
أقدم عاصمة ) بثلاثة زعماء و هم :
زنوبيا ، و معاوية ، و ديكه
الأسد قدس الله سره !!!؟؟.
فهل حقاً استطاع
الأسد تحويل الزعماء و الأنبياء
( حسب تعبير الرئيس القوتلي ) و
القرود ( حسب كاريكاتير الصحيفة
العربية ) ، و الشعب الذي لا يقهر
( حسب ديجول ) إلى نعاج و دجاجات و
صيصان ؟ .
واهم حقاً من يظن
ذلك ، و ستظهر الحقيقة المرعبة
لهذا الطغيان قريباً ، و سيكتشف
العالم أجمع أن نظرة ديجول و
حكمته أقرب إلى حقيقة هذا الشعب
العريق من نظرة الطاغوت الطائفي
الضيقة و القاصرة ..
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|