الوعي
النخبوي العربي
بين
"نجمة السرّة" .. ومكاييل
أمريكا
عبدالله
القحطاني
في أواخر الخمسينات من القرن الماضي , نشرت
مجلة المصوّر المصريّة ،
تحقيقاً حول جدل كان يدور في
الأوساط الفنيّة والثقافيّة ،
حول وضع النجمة على السرّة ، في
الرقص الشرقي .. ! ذلك أن إحدى
الراقصات " المبدعات "!
كانت تؤدي رقصاتها في أحد
الأندية الليلية "
الكباريهات " دون أن ( تستر )
سرتها بنجمة ، كما هو متعارف
عليه في الأوساط الفنيّة ، لا
سيما الرصينة المحترمة منها !
وبالطبع من يعرف الرقص الشرقي وطبيعته ،
واللباس ( المحتشم ) ! الذي تلبسه
الراقصة عند ممارسته ، يدرك
جيّداً أهمية ستر السرّة ،
بالنجمة التي تعارف عليها أهل
الفن وعشاقه ومناصروه ..
تذكرت ذلك التحقيق ، الذي كنت قد قرأته في
تلك الأيام ، وكنت حينها فتىً
يافعاً في الخامسة عشرة من عمري
، وتذكرت كيف أني قد تأثرت بوجهة
نظر " الأخلاقيين " ، الذين
كانوا يصرّون على وجوب ستر
السرّة ، عند تأدية " الفنانة
" لرقصتها الشرقية .. فالحشمة
مطلوبة ، إذ لا تكفي "
أخلاقياً " تغطية السوأة
والنصف العلوي من الثديين ، بل
لابدّ من تغطية السرّة أيضاً ،
وإلاّ فما معنى صفة " شرقيّ
" وأين القيم العربيّة
الأصيلة !؟
أقول تذكرت ذلك التحقيق ، وتذكرت ذلك
الإسهام " الجليل " الذي
أضافه ، إلى بنية الوعي "
الخلقي والاجتماعي " لديّ في
تلك المرحلة المبكرة من عمري ..
لكن .. بأيّة مناسبة تذكرت ذلك التحقيق ، وما
الذي دفعه إلى ساحة الوعي لديّ
بعد ما يقارب خمسة وأربعين
عاماً !؟
إنها مكاييل أمريكا ،بل الأدقّ : إنه تعامل
النخب العربيّة مع مكاييل
أمريكا .. النخب السياسيّة ،
والإعلاميّة ، والثقافيّة ..
وربّما الفنيّة
– ولست
أجزم ما إذا كانت نخبة أنصار
الرقص الشرقي منها أم لا -.. !
أجل ! إن النخب العربيّة ، التي تتبوأ مراكز
القيادة والتوجيه في بلادنا ،
لا سيّما في وسائل الإعلام ، هي
–
تحديداً – التي دفعت ذلك
التحقيق إلى سطح الذاكرة لديّ ،
بطريقة تعاملها مع مكاييل
أمريكا " المزدوجة " !
فهل الربط واضح ، بين تعامل نخب الخمسينات
مع أخلاقيات الرقص الشرقي ،
وسرّة الراقصة التي يجب سترها
بنجمة – من أجل
الحشمة -.. وتعامل النخب
الحاليّة مع مكاييل أمريكا
،التي يجب ألاّ تكون " مزدوجة
" !؟ أحسب الربط – بل أكاد
أحسبه – واضحاً ، لكل عقل "
نخبوي " يتصدّى للتنظير في
المسائل العامّة ، السياسيّة ،
والاجتماعيّة ، والثقافيّة..
وإلاّ ، فلمَ سميت النخبة نخبة !؟ وهل
الصفات ( الكبيرة !) تعطى
بالمجّان، أو تباع في أسواق "
البالة " !؟
لن أتحدث عن عورات أمريكا ، المفضوحة بصورة
أشنع من صورة أية راقصة في
العالم – شرقية
كانت أو غربيّة
– فهذا
مما عرفته دهماء الناس وعامتهم
، في قارات الأرض كلها ، بلهَ
النخب المثقفة المتنورة ..
فالربط ليس بين راقصتين ، شرقية
متخلفة ، وغربيّة نصبت نفسها
إمبراطورة على العالم ..!
لا .. الربط بين تفكير نخبة ، وتفكير نخبة
أخرى ..
فلماذا ؟
لماذا وقفت أخلاقيات تلك النخبة المثقفة
– بعض النخبة – عند وجوب
ستر السرّة ، في جسد عارٍ كله ..!؟
ووقفت أخلاقيات النخبة
الجديدة، عند ازدواج المكاييل ،
في سياسة مدمّرة كلها !؟ وما دور
تلك الأخلاقيات الرفيعة ، في
بناء الوعي الإنساني
والاجتماعي والخلقي ، لدى الفرد
في أمتنا ، في أي قطر من أقطارها
؟
ثم ما دور الأخلاقيات السياسيّة الراهنة
الرفيعة ، في بناء الوعي
السياسي والثقافي ، لدى المواطن
في عالمنا العربي اليوم ؟
وإذا كانت الراقصة الشرقية
– عارية
الجسد – تضحك من " تزمّت
" تلك النخبة التي تأمرها
بستر السرّة ..
وإذا كانت الراقصة الغربية الإمبراطورية
– العارية من كل قيمة خلقية – تضحك ، بل
تقهقه ، من " صرامة " نخبة
اليوم التي تأمرها بتوحيد
المكاييل السياسيّة .. فتعامل
إسرائيل كما تعامل باكستان ، أو
الصومال ، أو اليمن .. فهل ينبغي
على جماهير أمتنا ، أن تضحك أم
تبكي ، حين تصرّ نخبها التي
تقودها ، وترود لها مواقع
الحياة الكريمة - والرائد لا
يكذب أهله – حين تصرّ
هذه النخب على تزييف وعي
الجماهير بشكل بشع ، وبصورة
متعمّدة ، وبتصميم غريب !؟
عري الراقصة أمام الناس مقبول ، يسوّغه "
الفن " !.. لو غطت سرّتها ..!
وعربدة أمريكا في العالم ،
ونهبها لثروات الشعوب ، وعبثها
بمقدرات الدول والأمم .. كل ذلك
مقبول ، تسوّغه " القوّة "
أو يسوّغه " التمدن " .. لو
كالت بمكيال واحد ، في تعاملها
مع (إسرائيل
والسودان ) ، أو مع ( كندا وإيران
) ، أو مع ( بريطانيا وليبيا ) ، أو
مع (نيويورك ومقديشو ) ..!
هل سألت النخب الكريمة نفسها هذا السؤال :
لماذا يطلب من أمريكا أن توحّد معاملتها مع
الناس جميعاً ، مع خصومها
وحلفائها ، ومع أنصارها
وأعدائها !؟
أهي قاضٍ عالميّ ، انتخبه العالم كله ،
ليعامل أفراده بالعدل
والمساواة والحيدة والنزاهة !؟
وهل تقرّ النخب العربيّة لأمريكا بهذه
الصفة ، صفة القاضي العالمي ؟
وإذا كانت لا تقرّ لها بهذه
الصفة ، فبأي منطق إنساني ، تطلب
منها أن تسوّي بين أعدائها
وأصدقائها !؟
وهل هذا التركيز على ( وجوب العدالة ) في
تعامل أمريكا مع أعدائها
وأصدقائها .. هل هذا مما يصحح
الوعي الإنساني والوطني لدى
أبناء أمتنا ، أم مما يزيّفه
ويفسده !؟
قد نستطيع أن ندرك بعض الأسباب ، التي تدفع
تلاميذ أمريكا في بلادنا ،
وأتباعها ، والخاضعين لها..إلى
التعامل مع أمريكا على أنها "
وليّ حميم " ! متمثلين بقول
الشاعر : "كفى المرء نبلاً أن
تعدّ معايبه " والعيب الوحيد
لأمريكا ، هو عدم المساواة في
التعامل مع الأعداء والأصدقاء
..!
قد نستطيع أن ندرك بعض الأسباب لدى هؤلاء ،
التي تدفعهم إلى تزييف الوعي
الإنساني والوطني لدى أبناء
شعوبنا ..
فما بال الآخرين ، الذين يعرفون حقيقة
أمريكا ، وحقيقة اندماجها التام
في المصالح والمبادئ ، مع دولة
اليهود في فلسطين ..
ما بالهم يرددون المصطلحات ذاتها ، و(
يعتبون ) العتب ذاته على أمريكا
الصهيونيّة ، التي تغلغل فيها
النفوذ اليهودي حتى النخاع ،
وحكوماتها كلها خاضعة لهذا
النفوذ !؟ أهي السذاجة ، أم
الغفلة ، أم مجاراة التيار ، أم
الخوف من فضح حقيقة أمريكا ،
العدوّ الأول والأشرس ، لكل ما
هو عربي أو مسلم !؟
ترى لو سئل أحد أفراد هذه النخب " الجوقات
" :
هل تعامل أخاك كما تعامل ابنك ؟ وهل تعامل
ابن عمك كما تعامل أخاك ؟ وهل
تعامل الغريب كما تعامل ابن عمك
؟ وهل تعامل عدوّك كما تعامل
صديقك ..؟ " وكل ذلك في مجال
المصالح والمشاعر ، دون أن يكون
له علاقة بالقضاء والتقاضي .."
.. لو سئل هذه الأسئلة، فكيف
ستكون إجاباته ؟
وإذا كانت إجاباته كلها بالنفي ، فكيف يسمي
مطالبته لأمريكا ،بأن تعدل بين
أعدائها وأصدقائها في
تعاملاتها المصلحيّة .. – ومعاملات
الدول كلها قائمة على المصالح
-!؟ فلندع جانباً مجال القضاء
والتقاضي ، ولنقرّ بأن لكل منّا
آلاف المكاييل ، في تعامله مع
أقاربه وأصدقائه وخصومه
وأعدائه ومعارفه .. على مستوى
المصالح والمشاعر والمواقف
والتفضيلات ..
وما ينطبق على الأفراد ينطبق على الدول .. (
ولن نتحدث عن مصطلح الدول
المارقة، ومصطلح الدولة
الأَولى بالرعاية ) فما معنى
الثرثرة اليومية المستمرّة ،
التي تصدّع الرؤوس في وسائل
الإعلام ، حول ازدواجيّة
المكاييل لدى أمريكا ؟
ومن المستفيد من هذه الثرثرة المضللة
البائسة ؟
وإلى متى يستمر مسلسل تزييف الوعي ، لدى
أبناء هذه الأمّة الكريمة ،
المثخنة بطعنات المحسوبين
عليها قبل طعنات أعدائها..!؟
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|