هاملت
سورية... إذ لا يكون
سلمى
السهروردي
كنت أتوفر منذ مدة على كتابة مقال
عن (جبهة الخلاص الوطني) فتشغلني
عنه شواغل تحول بيني وبين ما
أريد. ولقد رأيت منذ اللحظة
الأولى في جبهة الخلاص الوطني،
أو في الشخصيات المكونة لها،
وضوحَ القصد وصحةَ العزم،
والإدراكَ المسبق أن الكينونة
وجود فاعل يترك لصاحبه دوياً؛
فالناس بين مصدق ومكذب، وقابل
ورافض، ومؤيد ومعارض. الفعل
السياسي هو إثبات للوجود وتعبير
عنه، ومن انتظر ثناء الناس دون
نقدهم، وحمدَهم دون ذمهم،
وتأييدَهم دون معارضتهم؛ فقد
قبض ريحاً وحصد هشيماً. كنت أنوي
أن أسير مع جبهة الخلاص أتتبع
الأوراق، وأتوقع المنازل
منزلاً منزلاً بعد منزل،
ويفاعاً بعد يفاع، ولكن وضوح
القصد وصحة العزم والجرأة على
المبادأة والمبادرة في أشخاص
المؤسسين بجمعهم جرت قلمي إلى
مضمار آخر، وألقت بي (بين نابي
ومخلب الأسد..) إذ بضدها تتميز
الأشياء. وجدت نفسي منساقة إلى
دراسة مشخص التردد والعجز الذي
ابتلي الوطن به فكان من إنجازات
تردده الرائعة، (والرائعة هنا
تعني المخيفة من راعه الأمر
يروعه)، انفراط عقد كانت بيده
عزمته، وهزيمة ذات، وأيلولة أدت
إلى أن ينحاز نائب الرئيس إلى
خصومه، (والضمير هنا يعود إلى
الرئيس)، أو ينحاز خصوم الرئيس
إلى نائبه، ووطن يتحول إلى سجن
يتسع ويتسع فكأنه جهنم كلما
ألقي فيها فوج قالت هل من مزيد..
ربما أستطيع أن أزعم قبل أن أطوي
الحديث صفحاً عن جبهة الخلاص
الوطني أن مؤسسها الأول كان
بشارَ الأسد. فبشار قد حاز قصب
السبق دون منازع في مضمارين:
التردد والعجز. وهو الذي صنع
معارضيه، وهو الذي ألقى إليهم
حبل الخلاص فائتلفوا وهم
متفرقون، وتوحدوا وهم متباعدون.
ولقد أعفاه خصومه من قبل بكل
تلافيفهم، فيما تابعت على مدى
خمسة أعوام، من كل مسؤولية،
وأخلوا جانبه من كل تبعة،
ونادوا عليه بصوت واحد: أنت أنت!!
كان يستطيع بشيء من هذا وشيء من
ذاك أن يلبس ثوب المخلّص،
ويتقمص قميص المنتَظر الموعود
الذي طال غيابه، على فترة من
العدل، وطول ترقب ولو لفرجة في
جدار الظلم؛ فأبى عليه سوء ظنه
وخوفه وحذره إلا أن يصير إلى ما
رأينا ونرى في لبنان وفي سورية،
وفي غير لبنان وسورية.
ولعل الغادة الحسناء ماتزال
مدلهة بصورتها في مرآة من
يختِلها، من المصفقين
والمروجين الذين يتقاطرون إلى
دمشق، كما تقاطروا من قبل إلى
بغداد، التماساً لصحن تبولة
شامية طالما تلمظوا عليه، أو
طمعاً في إطلالة على فضائية
كثيراً ما شرقوا وغربوا من
أجلها.. كلهم يحمل معه روح
الشاعر الدمشقي الرهيف (نزار
القباني) الذي داعب كثيراً
أحلام الصبايا الغريرات كما
يداعب هؤلاء نرجسية صاحبهم وهو
ينادي (أشهد أن لا امرأة إلا أنت..)
فيصدق صاحبنا، حتى وهو في قرارة
الهزيمة من لبنان، والعدو يمسك
فتحة إزاره في الجولان، ويطبق
على زيقه في كل مكان، (أن لا رئيس
إلا هو..) كأنها كلمة لم يقلها
أحد من قبل، ولن يقولها أحد من
بعد.
آخر ما قرأت للرئيس ابن الرئيس
الذي جاءنا، وهو الأخير زمانه،
بما لم تستطعه الأوائل تلك
الاستهانة الصبيانية بجبهة
الخلاص الوطني وبرجالها، وفيها
من كان بالأمس نائبه ونائب
أبيه، وفيها أيضاً من أعيا أباه
من قبل وأعياه صراعاً وقراعاً،
ومن تثبت كل الاستطلاعات
والاستبيانات أنه وإخوانه
القادمون. أظن أننا نحتاج إذا
تدثرنا بالعقل، واحتكمنا إلى
الحكمة، أن نجعل قدومهم أخف
وطأة.
وهذا الذي مازلنا نتطلع إليه
ونرجوه من السيد عبدالحليم
خدام، نتطلع إلى أن يتذكر أن
موقعه الأساس (نائب للرئيس)
ومايزال. فيصلح عن بعد ما يفسد
سيده، ويجبر ما يكسر، ويرتق ما
يخرق. أصبح عبدالحليم خدام في
موقعه الجديد القاسم المشترك
الأعظم بين فرقاء متشاكسون،
فغدا محط أمل وموضع رجاء.
فعبد الحليم خدام وكل صفة
سأذكرها هنا ذات دلالات وإشارات
تغني عن صفحات من الحديث. فنائب
رئيس الجمهورية (علماني ـ قومي
بعثي ـ سني ـ من أبناء الساحل
السوري..) فهو في هذا السياق كذرة
الفسفور خماسية الأذرع تتشابك
حيثما امتدت لها ذراع. وفي هذا
الموقف الضنك لا أريد أن أزيد،
وإنما أريد أن أؤكد أن من حق
الكثيرين من الذين ارتكبت
باسمهم المجازر، واغتصبت
الحقوق، وهم الأبرياء بل بعض
الضحايا؛ إن من حقوق هؤلاء أن
يجدوا في خدام، وإن لم أسمعه
يزعم أنه من آل البيت أو من
سلالة الأئمة عليهم السلام،
سفينة النجاة.
هاملت شكسبير من الدنمارك إلى
الشام..
لا نعلم شيئاً عن تاريخ هاملت
الإنساني، في تقلبه في مجالي
الخلق قبل ظهوره المشهور الذي
أشار إليه المؤرخ الدنماركي (سكسو)
عام 1514. كان هاملت أو أملت ذاك
أميراً مجنوناً خائفاً أن يصيبه
ما أصاب والده، قبل أن يجسده من
جديد شكسبير منذ القرن السابع
عشر في أنموذج بشري أو مسرحي
متعدد الطبعات.
سأعتقد بدوري أن شكسبير لم يكن
يكتب عن شخصية تاريخية، وإنما
كان يكتب عن شخصية إنسانية. ومن
حقك أن تدرك أن في التاريخي معنى
الانقضاء، وأن في الإنساني معنى
التجدد والبقاء. وأن هاملت
الدنماركي قد يبعث في أي لحظة
وفي أي مكان لتضطرب روحه أو
موقفه حسبما شئت بين ظهراني
الخلق من جديد.
تلمح اليوم في القصر المسمى قصر
الشعب في دمشق (الأمير هاملت)
يترنح في جنبات القصر يتردد صدى
صوته كما تردد على جميع مسارح
العالم طيلة أربعة قرون: أكون أو
لا أكون.. ربما ينماز هاملت في
مسلاخه الأخير المعدل حسب
الطبعة العربية السورية أن
الصراع عنده حول هذه النقطة
التي ستعود إليها أقل حدة وأضعف
شأناً. فهاملتنا قد قرر منذ
البداية (ألا يكون..).
ومأساة هاملت التي لم يشر إليها
أحد من النقاد فيما قرأت حتى
الآن هي مأساة الرجل الضعيف
يلقى عليه العبء الجسيم.
مأساة أشار إلى كل جانب منها
الطغرائي صاحب لامية العجم،
وليتها كانت لامية العرب تعصباً
مني لقومي، بقوله:
قد رشحوك لأمر لو فطنت له
فاربأ بنفسك أن ترعى مع
الهمل!!
عندما عدل الدستور السوري على
مقاس الأسد الصغير تذكرت مأساة
الخليفة العباسي (الآمر بأمر
الله) الذي بويع بالخلافة وعمره
خمس سنوات، فلما قلدوه السيف (سيف
الخلافة) كان السيف أطول من
الخليفة!! وحين غرسوه على السرج
لم يستقم عليه، فلم يكن كما قال
البوصيري في سلف سبق:
كأنهم في ظهور الخيل نبتُ ربا
من شِدة الحَزْمِ لا من شَدة
الحُزُمِ
وفي أن يكون السيف أطولَ من
الخليفة رمزية تزري بكثير مما
خطه رمزيو القرنين المنصرمين،
وهي توازي برمزيتها قطعاً أن
يعاد تفصيل دستور دولة على مقاس
رئيس صغير!!
أحياناً أنعم التفكير في هذه
القضية، فأجدني قد حمّلت يفاعة
رئيسنا أكثر مما تحتمل، وأن
السبب فيما نحن فيه يعود إلى
التكوين الأولي أكثر من عوده
إلى مرحلة من مراحل العمر، وبعض
الناس يبقون صغاراً حتى لو
تجاوزوا السبعين، ذلك أن بين
أيدينا أربع تجارب عربية
متقاربة لملكين وأمير ورئيس
شباب تولوا المسؤولية في فترات
متقاربة (المغرب ـ الأردن ـ
البحرين ـ سورية) ويستطيع أي
متابع أن يجزم أن التجارب
الثلاثة غير التجربة السورية قد
تطورت الأوضاع فيها صُعداً،
بينما انتكس الوضع في سورية
فعاد القهقرى.
صديقة خبيثة قالت لي: ذاك جزء من
بر بشار الأسد بوالده. قلت كيف
ذلك، قالت أراد أن يترحم الناس
على الأب الفقيد، ثم قصت عليّ
قصة مثل شعبي حملتها معها من
الشمال السوري، ذكرت فيها كيف
ترحم الناس على نباشهم الأول!!
لم يكن بشار الأسد في تصوري إلا
أحد تجليات الأمير الدنماركي
هاملت في عجزه وفي تردده، وربما
أميل كما قلت مسبقاً إلى أن بشار
لم يتردد طويلاً في إيثار العجز
والسكون إليه، ولم يذق عذابات
الحيرة كما ذاقها الأمير
الدنماركي وهو يلاحق شبح أبيه،
ويبحث عن مصداقية ما يلقيه إليه
من وراء سجف الغيب الكتيم.
العجيب في أمر بشار، أنه وهو
يعتقد اعتقاداً راسخاً أن لا
أحد الآن في قبر أبيه، لأن أباه
منذ أن انطلق من مسلاخه الذي كان
فيه قد حظي بتجل آخر من تجليات
الوجود؛ إلا أنه جعل من قبر أبيه
الفارغ، كقبر الشيخ زنكي،
مثابةً للناس من غير أمن ففرض
على أبناء شعبه المقيمين منهم
والطارئين أن يقفوا على رسم
الماضين من بني أسد والبكاء على
أطلالهم متناسياً قول أبي نواس:
يبكي على طلل الماضين من أسد
لا در درك قل لي من بنو أسد؟!
أو قوله:
قل لمن يبكي على رسم درس
واقفاً ما ضر لو كان جلـس
ومن بعض الهزل إلى الجد لأقول: إن
ميزانية قبر الرئيس الفارغ، حسب
عقيدة صاحب القبر نفسه، وما
كلفته الرحلات المنظمة التي
أجبر عليها المواطنون، وسيقوا
إليها زمراً؛ تجاوزت فيها ذكر
العالمون بالحساب ميزانية
وزارة من الوزارات السيادية!!
وماتزال هذه الميزانية مفتوحة
تُقتطع حتى اليوم من قوت الفلاح
وجهد الفقير..!!
هاملت إذا مايزال يتتبع خطى شبح
أبيه يستمد منه الإرشاد
والتوجيه، إذا ناله بإشارة أو
بحلم مكث يبحث عن المصداقية عند
قوم يظن أنهم بتأويل الأحلام من
العالمين.
كان السؤال الجوهري في هاملت كما
يقول النقاد الشكسبيريون هو:
لماذا عجز هاملت عن الفعل؟ وما
هو سر تردده؟
ويرجح العديد من النقاد أن سبب
عجز هاملت (بشار) عن القيام بأي
فعل ذي انعكاس إيجابي على
الحياة العامة إلى عوامل
بنيوية، بنية رخوة لا تصمد أمام
العقبات بينما يعيد آخرون السبب
إلى الخوف من المستقبل والحذر
من كل من هو آت ـ إنه أشبه بطفل
يطلب إليه أن يدخل إلى غرفة
مظلمة ليحصل على قطعة من الحلوى..
هل يفعل الطفل ذلك مهما كان
إغراء الحلوى (الإصلاح) عظيماً!!
كثيرون يعلقون ذلك على شخصية
الطفل أكثر من تعليقهم إياه على
قطعة الحلوى.. وهاملت سورية كما
هاملت شكسبير يقر أحدهما بلسان
الحال والآخر بلسان المقال (أن
ثلاثة أرباعه جبن!! والربع الآخر
علم ومعرفة..).
لذلك يستشعر كل من يستمع إلى
هاملت سورية أنه يحاول أن يغطي
الأرباع الثلاثة بكثير من
التفلسف والشرح والتأويل حتى
عندما يتحدث، عفواً، (يحاضر)
بحضرة أناس هم أرسخ منه معرفة
فيما يتحدث فيه. ربما يفيد هنا
أن أذكر بجوابه بالغ الدقة
والعلمية عندما دافع عن إعلامه
الخشبي بقول (إن الخشب مرن مطاوع..)
ولا ندري ماذا ترك هاملت هذا
للرواقيين والمشائين..؟!
بالعود إلى الشاعر الألماني غوته
بحثاً عن تفسير لعجز هاملت، وهل
سنجد ثغرة لعلاج هذا العجز، أو
الالتفاف عليه، كان رأيه أن
المشكلة ليست في شخصية هاملت،
وإنما في طبيعة (التكليف) ويرى
غوته أن كشف عجز هاملت كان لعبة
من شكسبير أو من (مجلس الشعب) حيث
طُلب منه أي من هاملت (فعل الشيء
غير المعقول) في حد ذاته (إنه غير
معقول عندما يقاس إلى طبيعة
هاملت) إن هاملت حسب غوته (نظري
مثالي) ولا يقدر على اقتحام
الأمور العملية إنه أي هاملت (لا
يرى العالم كما هو في الواقع، لا
يحس بالمتغيرات وإنما يرى
العالم كما يريد أن يراه..)
باستطاعة أي طفل أن يتصور أباه
أو أخاه أو أمه أو حتى المحيطين
به على الصورة التي يريد وأن
يشكلهم على الشكل الذي يحلم به..
العالم بالنسبة لهاملت ليس
واقعاً موجوداً في الخارج وإنما
هو تصور قائم في عقله أو في
أمانيه وهذه هي المعضلة ـ ليست
معضلة هاملت، أو قصر الدنمارك
الملكي ـ وإنما هي معضلة الشعب
السوري الذي أُخرج بالفعل من
التاريخ، ونفي من الواقع ليعيش
بكل تعقيداته في تصورات رئيس!!
وفي قراءة أخرى، أي تفسير آخر
لسلوك هاملت الرئيس يرى ا.س
برادلي في هاملت بطلاً
تراجيدياً حقيقياً. بطلاً
نظرياً (إن الظروف التي وضع فيها
هاملت تظهر لنا عبقريته الفكرية..)
ولا سيما حينما يخبرنا أن
الإعلام الخشبي إعلام مرن
ومطاوع لأن الخشب كذلك، ولكن
هذه العبقرية الفكرية، حسب
برادلي بالطبع هي السبب الأساسي
في عجز هاملت عن القيام بالفعل.
ليس من السهل أن يكون المرء
مفكراً وعاملاً!!
ويرى برادلي في هاملت (كل الكفاءة
للقيام بالفعل، ولكن مواهبه
تواطأت على شل حركته!!) والسبب في
ذلك حالة عقلية شاذة (حالة مرضية)
تظل تسبح بعيداً عن الكون.
وكان كل من شيلجر وكولردج قد سبقا
برادلي إلى القول (بأن تفلسف
هاملت قد أقعده عن إنجاز أي فعل
وعن أداء أي واجب..) وقرر أن
الإمعان في التفكير وتتبع
الألفاظ والتعاريف والحدود (إنما
يوهن الجسد ويضعف القدرة على
التنفيذ.. لقد سيق هاملت إلى وضع
يحتم عليه أن يقوم بالتنفيذ بعد
أن كان في أثناء حياة أبيه في
غير حاجة للقيام بأي شيء.. لقد
كان يتعلم السباحة على الورق.
يتساءل لماذا مات أبوه وتركه
وحيداً في هذه الظروف الصعبة
لذا يتمسك بشبحه (قبره)، يطلب
عنده المعرفة والحقيقة. إنه
مازال منذ تحمل المسؤولية يفكر
أكثر مما يفعل بل إنه لا يفعل
شيئاً غير التفكير هذا (ما يذهب
إليه كولردج وشيللر ويؤكد ذلك
جريل بارتسر) بأن هاملت لديه
القدرة على الفعل ولكن عقله
أفقده هذه القدرة!! ويضيف نيتشه
أن خوف هاملت من أهوال المستقبل
هو الذي ينتزع قدرته على الفعل.
وهكذا تجمع آراء النقاد كما
لخصها (بات كوت) على أن هاملت كان
فيلسوفاً عاجزاً، ومفكراً
عاجزاً، عجز عن رؤية هدف
التفكير وأدوات الفعل. إنه يشك
في (وجود العالم الخارجي) وفي
وجود التغيير الخارجي، إنه لا
يزال يقود العالم للسماع لشبح
أبيه أو زيارة قبر أبيه حيث
يعتقد أن الحقيقة المهيبة
ماتزال مختصرة هناك.
وحين سيشرب هاملت كأس السم ستكون
أمه وعمه قد سبقوه. ولكن الأهم
من كل ذلك أن أوفيليا الحبيبة (سورية
الطيبة) ستكون قد ماتت. فهل عند
رجال جبهة الخلاص أصحاب وضوح
القصد وصحة العزم لأوفيليا من
خلاص. كلمتهم يريد شعب سورية أن
يسمعها قبل أن تدور الكاس على
الجلاس..
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|