السمن
، و قلي البيض ،
و
سموم الطبخات الانقلابية
د.
هشام الشامي
كان
يا ما كان في زمان ليس بالقديم،
كان لسورية رئيس منتخب يقوم
بجولة اعتيادية برفقة رئيس
حكومته و بعض المسؤولين في
الدولة يتفقدون خلالها إحدى
القطعات العسكرية الميدانية ، و
مروا على مطبخ القطعة ليعاينوا
طبيعة الطعام المقدمة لجنود
الوطن المرابطين على ثغرة من
ثغراته و يطمئنوا على جودته ، و
التي كانت يومها ( سقى الله ذلك
الزمان ) من أجود و أفضل الأطعمة
، و أحسن لحوم الضأن و الطيور ، و
أشهى السمن العربي الأصيل ، و
أفخر الخضار و الفواكه و
الحلويات الموجودة في السوق
المحلي المليء بالخيرات
الشامية في تلك الأيام الطيبة ،
حيث كانت طبيعة الطعام و جودته
إحدى المغريات التي جذبت بعض
الطبقات الفقيرة للتطوع في
الجيش في ذلك الزمان ، فشم
الرئيس و رئيس وزرائه ، رائحة
سمن فاسد ، و هما يعرفان جيداً
شروط العقود التي أبرماها مع
متعهدي تقديم الطعام للجيش ، و
التي كانت تتضمن أفضل الشروط
لتأمين أحسن الأطعمة و أجودها و
أغلاها ثمناً ، فطلبا بعض البيض
، و قاما بنفسيهما بقلي البيض
بهذا السمن ، فانتشرت رائحة
كريهة من السمن الفاسد ، و من
المعلوم أن البيض و الأرز
يكشفان نوع السمن و جودته ، و
هنا أسرع الرئيس بإصدار أوامره
بإلقاء القبض على مدير تموين
الجيش ، أحد المقربين من قائد
الجيش السوري .
وعندما
نشرت وسائل الإعلام هذا الخبر-
الفضيحة - في أوساط الشعب , و
علقت الصحف و المجلات العديدة و
التي كانت تصدر في دمشق و
المحافظات باسم الأحزاب
السياسية أو الشخصيات
الإعلامية المستقلة على هذا
الموضوع الخطير ،
كان الطلبة , والشباب المثقف
, و صبية الشوارع ، يتقصدون أن
يضعوا أيديهم على أنوفهم
باشمئزاز و( قرف ) لدى مرور أحد
الضباط من أمامهم و كأنهم
يقولون : كم هي سيئة رائحة
السمنة المغشوشة ، مما شكل
إهانة للضباط الفاسدين ، كما
قام النواب في المجلس النيابي
بالهجوم على الضباط المسؤولين
عن هذه الفضيحة ، بمن فيهم قائد
الجيش نفسه الذي حملوه
المسؤولية كاملة .
لقد
كانت هذه القضية بالذات السبب
المباشر و الرئيس لقيام قائد
الجيش بأول انقلاب عسكري في
سوريا – و في المنطقة – على
الحياة البرلمانية و الرئيس
المنتخب ، قادحاً بذلك شرارة
الانقلابات العسكرية في سوريا و
المشرق ، و كان ذلك في صبيحة يوم
30 آذار/ مارس عام 1949م ، ذلك اليوم
الأسود المظلم المشؤوم من تاريخ
سوريا الحديث ، عندما انقلب
قائد الجيش الزعيم ( العقيد )
حسني الزعيم ، على النظام
الجمهوري البرلماني في سوريا ،
و أودع رئيس الجمهورية شكري
القوتلي و رئيس وزراءه خالد
العظم في السجن ، ليدفع تهمة
الفساد و اللصوصية عن أحد رموز
الجيش ، و ذلك إثر تفاقم مشكلة
الفساد و الرشوة في قضية السمن
الفاسد و مواد تموينية أخرى
خاصة بالجيش ، التي أتهم بها
مدير تموين الجيش الزعيم أنطون
البستاني المقرب جداً من حسني
الزعيم و الذي رفض تنفيذ أمر
اعتقاله الصادر عن رئيس
الجمهورية بتهمة الفساد و
الرشوة و الثراء غير المشروع .
لا
شك أن هناك أسباباً بعيدة – غير
مباشرة – كانت وراء ذلك
الانقلاب المشؤوم ، منها صراع
الأحلاف و المحاور الذي وسم ذلك
العصر ، و خاصة بعد بروز
الولايات المتحدة الأمريكية
كدولة كبرى إثر انتهاء الحرب
العالمية الثانية ، و بداية
اهتمامها بالمنطقة - بعد انتشار
رائحة النفط من باطن تلك الأرض
التي لا تنتهي كنوزها ، و لا
تنقضي عجائبها - و صراعها مع
الإنكليز الذين كانوا
السبّاقين في الوصول إلى تلك
المنطقة الغنية ، و دخول
الإتحاد السوفيتي على خط الصراع
الساخن .
و
منها أيضاً صفات حسني الزعيم
الشخصية ، التي وصفت أنها شخصية
مغامرة ، تحب السلطة و السيطرة و
قد نقل عنه كلمة مأثورة كان
يرددها منذ طفولته : " ليتني
أحكم سوريا و لو يوماً واحداً ثم
أقتل بعده " .
يقول
خالد العظم : “إن الأسباب
الحقيقية للانقلاب تنحصر في
كونها حركة طائشة قام بها رجل
أحمق متهور، هو حسني الزعيم ،
أراد أن يحمي نفسه من العزل
والمحاكمة، بتهمة الاشتراك في
صفقات مريبة وخاسرة ، تعاقدت
عليها مصلحة التموين في الجيش،
مع بعض المتعهدين الذين قدموا
بضاعة فاسدة ، وقبضوا ثمنها
مضاعفاً”•
ويتابع
العظم الرواية بقوله: “وفي جلسة
النواب في 17 آذار/ مارس 1949م شنّ
النائب فيصل العسلي حملة عنيفة
على حسني الزعيم، مندداً
بأعماله ومواقفه، وطالب
بإحالته على المحاكمة.
كما
أن خروج الجيوش العربية منهزمة
من حرب النكبة في عام 1948م ، كشفت
ضعف الجيش السوري ، و اهتزت
صورته بين المواطنين ، مما أدى
لاستقالة وزير الدفاع / أحمد
الشراباتي في 24 أيار 1948م ، أي
بعد أيام من إعلان قيام دولة
إسرائيل في 15 أيار من العام نفسه
، وتولى رئيس الوزراء جميل مردم
وزارة الدفاع بنفسه ، كما تقاعد
رئيس الأركان العامة ، و عين
مكانه مدير الأمن العام حسني
الزعيم ، و عندما استقال جميل
مردم من رئاسة الوزراء في أواخر
عام 1948م ، إثر فضيحة أخرى
سنذكرها في وقت لاحق إن شاء الله
، عيّن الرئيس شكري القوتلي
مكانه خالد العظم .
و
بذلك نستطيع أن نقول : لقد كان
لحرب فلسطين و حالة الجيش و
قضايا الفساد و الحالة المتردية
في الوطن و المحيط العربي و
تدخلات الدول الكبرى الدور
البعيد في حدوث الانقلاب الأول
في سوريا ، إضافة لأسباب مباشرة
طغت على السطح قبيل الانقلاب و
التي ذكرناها أنفاً ، يضاف إلى
ذلك طموحات و أطماع العسكريين
إلى السلطة، وعلى رأسهم حسني
الزعيم قائد الانقلاب .
لا
شك أن الوضع المأساوي الذي وصلت
إليه سوريا اليوم لم يكن طفرة أو
حالة عرضية طارئة ، بل هو
تراكمات و إفرازات عقود طويلة ،
بدأت مع انقلاب العسكر على
الحياة البرلمانية المدنية ،
لتحقيق طموحات و أطماع و عقد
نفسية شخصية ، و التي بدأها حسني
الزعيم الذي كان لا يخفي عقده
النفسية و أحلامه الصبيانية
الطائشة ، و يبدي إعجابه
بشخصيات عسكرية مثل أتاتورك و
نابليون بونابرت ، ثم تراكمت
الأخطاء و الشطحات الشخصية ، و
انتهت بتحويل سوريا الدولة و
الحضارة و التاريخ إلى مزرعة
خاصة سميت بسوريا الأسد ،و
طوّبت باسم الأسد الأب و أبنائه
إلى يوم الدين ...
و
بما أن التاريخ عبرة ، فإننا
نستطيع من خلال هذه القصة
التاريخية ، أن نقارن بين ما
كانت عليه سوريا قبل أن تعبث بها
أطماع العسكر و أحلامهم
الصبيانية ، و بعد أن اغتصب
العسكر براءتها ، و نستخلص و
نضيء النقاط التالية :
1- لقد كان المسؤول يضع المواطن في أولى
اهتماماته ، و لهذا كان الرؤساء
يقومون بجولات تفتيشية للوقوف
على حال المواطنين و همومهم ، و
لم يكن القصد منها إقامة
المهرجانات الخطابية الحاشدة (
بل المحشودة ) ، و بيع الكلام
الفارغ ، و صف التصريحات
الطنانة ، و إطلاق الشعارات
الرنانة ، و التطبيل و التزمير و
التصفيق و تمجيد الحاكم و
تأليهه و توحيده و عبادته .
2- لقد كان الاهتمام بالجيش في رأس أولويات
السلطة ، و كان يضرب المثل
بالجيش السوري في التزامه و
انضباطه و تنظيمه ، أما طعام
الجيش فكان من أفضل أنواع
الطعام و أجودها التي لا يجدها
المواطن إلا في الأسر الميسورة
، أما بعد سيطرة العسكر و انتشار
الفساد و السرقات ، فأصبح يضرب
المثل بسوء طعام الجيش الذي لا
يسمن و لا يغني من جوع ، بعد أن
سحب خيره ، و شفط دسمه ، و ماتت
بركته ، فلم يعد يأكله حتى أفقر
العسكر ، و أصبح يرمى مع الزبالة
لتأكله الجرذان الجائعة و
الكلاب الشاردة ، كما أصبح
الجيش لحماية آل الأسد فقط ، و
لذلك ترى الفرق الكبير بين
الحرس الجمهوري و إمكانياته و
بين الجيش النظامي ( الذي سماه
السوريين تندراً : جيش أبو شحاطة
) ، فبينما يملك الحرس الجمهوري (
الذي يحرس القصر و الرئيس و
عائلته و المواقع الرئاسية
الهامة ) أحدث الأسلحة و أغلاها
و أفتكها ، و يلبس رجاله أجمل
اللباس ، و يأكلون أحسن الطعام (
و لكن مع هذا لا يصل إلى أسوأ
الوجبات التي كانت تقدم للجيش
النظامي سابقاً ، أيام السمنة
الفاسدة إياها ) ،و يحصلون على
مكافآت و حوافز مادية ؛ تجد في
المقابل الإهمال الواضح و
المنظم و المقصود لجيش أبو
شحاطة الفقير ، الذي أصبح
أفراده خدم و ( مرابعين ) و
فلاحين يعملون في خدمة ضباطهم و
عوائل ضباطهم ، يزرعون لهم
الأرض ، و يبنون لهم القصور ، و
يخدمون أزواجهم في البيوت ، و
يعملون سائقين و خدم و حرس عند
أولادهم و عوائلهم .
3- لقد كانت محاربة
الفساد و المفسدين تتم بحزم و
إصرار و فور كشفها بلا تمهل و لا
توان ، حتى لا يستشري الفساد و
يصبح قاعدة ، و يصعب القضاء عليه
؛ أما بعد أن شاع الفساد و أصبح
هو القاعدة ، فأصبحت محاربته
كذبة بيضاء ، و دعاية صحفية ، و
نكتة ( بايخة ) ، و ورقة ضغط تفتح
وقت اللزوم في وجه من يشاء
الحاكم فضحة و إقصاءه .
4- لقد كان للإعلام الحر دوره الريادي في كشف
المفسدين و المغرضين و الخونة و
مرضى النفوس ، و كانت الصحف
الحرة تمارس سلطتها الرابعة بكل
جرأة و موضوعية حتى بوجه أعلى
الرتب و أكبر المسؤولين ؛ أما
بعد أن أصبح الإعلام لسان
السلطة السفيه ، و وجهها القبيح
، الذي يغطي العيوب و الجرائم و
السرقات ، و يبرر الهزائم و
المخازي و التنازلات ، و يطبّل
لقتلة الشعب و سارقي ماله و جهده
و ثرواته ، حتى أصبح المواطن لا
يصدق من تلك الوسائل ( الإعلانية
) شيئاً حتى نشرات الأحوال
الجوية و نتائج المباريات
الرياضية .
5- لقد كان للبرلمان المنتخب من الشعب
مباشره دوره في محاسبة
المسؤولين ، و كشف المقصرين و
المفسدين ، و فضحهم و محاسبتهم ،
و كان يقوم بدوره هذا على الجميع
بلا استثناء ، فهو السلطة
المخولة بمحاسبة أكبر
المسؤولين من رئيس الجمهورية و
رئيس الحكومة و رئيس الجيش إلى
أصغر موظف في الدولة ، أما بعد
أن أصبح الرئيس و جهازه الأمني
من يختار و يعيّن أعضاء المجلس ،
فقد أصبح مكاناً للدفاع عن
الحاكم والمفسد و السارق و
الخائن و المرتشي ضد المواطن و
المظلوم و المسروق و المحروم ، و
منبراً لتمجيد و تأليه و تأبيد
السيد الواحد الأوحد في مزرعته
، و واجهة لتمرير القوانين و
التشريعات و الأحكام العرفية و
الإجرامية و الاستئصالية التي
تخدم استمرار سيطرة الحاكم
بأمره على رقاب البلاد و العباد
.
6- لقد جرّت الانقلابات العسكرية على سوريا
البلاء و الرزايا و التخلف و
الديكتاتوريه و الهزائم
المتعددة و المصائب المتتالية و
لأنها سرقت السلطة بطريقة غير
شرعية من أصحابها الشرعيين ،
تحالفت مع سارقي الشعب و
المفسدين الذين لم يبخلوا
بالمقابل على أسيادهم و أولياء
نعمتهم بالتبجيل و التأييد و
الحمد و الشكر و التسبيح و
التهليل و التأليه ، فأصبحوا
أبواق السلطة و أدواتها ، التي
دعت إلى تأليه الحاكم و تخليده و
تأبيده ، و تحويل الجمهورية
السورية إلى الجمهولكية
الأسدية .
7- لقد كان الحكم في سوريا حكماً مؤسساتياً
دستورياً ، تقوم فيه كل مؤسسة
بدورها بحرية و استقلالية ، و
هناك خطوط حمراء واضحة و عريضة
تفصل بين السلطات التنفيذية و
التشريعية و القضائية ، و كان
للسلطة القضائية سلطتها على كل
المسؤولين ابتداء من رئيس
الجمهورية ، إلى أن تحولت
السلطات جميعها إلى ألعوبة – لا
تملك من أمرها شيئاً - يلعب بها
الرئيس الأوحد في البلاد كما
يشاء .
8- لقد كان المسؤولون يحترمون مراكزهم التي
أُختيرت لهم بطرق دستورية شرعية
، و يحترمون أنفسهم ، و يعترفون
بأخطائهم ، و يتحملون مسؤوليات
و تبعات قراراتهم و أعمالهم ،
و هذا ما دفع وزير الدفاع و
رئيس الأركان إلى الاستقالة بعد
نكبة عام 1984م ؛ أما سالبوا
السلطة من العسكريين ، فهم لا
يستحون و لا يحترمون لا أنفسهم و
لا مراكزهم التي أخذوها بطرق
غير شرعية أصلاً – و كأن لسان
حالهم يقول : ليس بعد سرقة
السلطة ذنب – فمثلاً بعد هزيمة
حزيران المخزية ، و إعلان وزير
الدفاع سقوط القنيطرة عاصمة
الجولان السوري المحتل و ذلك
قبل وصول أول جندي إسرائيلي لها
بيومين ، كافأ وزير الدفاع نفسه
، و أنقلب على رفاقه ، و نصب نفسه
رئيساً للبلاد ، و بعد مجازره و
جرائمه العديدة بحق شعبه و بلده
، و حق شعوب المنطقة من
فلسطينيين و لبنانيين و عرب
آخرين ، كافأ نفسه أيضاً و جعل
سوريا كلها مزرعة له و لأولاده
من بعده إلى يوم الدين .
كل
هذا ، وغيره الكثير، يجعل من
عودة الحياة الدستورية
البرلمانية الديموقراطية ، و
صناديق الاقتراع الانتخابية
الحقيقية ، و تعدد الأحزاب ، و
تداول السلطة ، و حرية الرأي و
التعبير و الصحافة ، و إنهاء حكم
الفرد الواحد و النظام
المخابراتي المرعب أولوية كل
مواطن سوري حر شريف ، هذا إذا ما
أردنا أن نعيد لسوريا الحبيبة
كرامتها و شرفها و هيبتها و
مكانتها و أرضها المغتصبة و
مجدها و عزّتها .
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|