ماذا
تريد منا الولايات المتحدة؟!
أ
. د . محمد اسحق الريفي
اعتبرت الولايات المتحدة تفكك الاتحاد
السوفييتي سنة 1991م انتصارا
لنموذج الحضارة الغربية، ودعم
ذلك نجاح الولايات المتحدة في
صنع تحالفا دوليا للهجوم على
العراق بعد احتلاله للكويت سنة
1990م وكذلك نجاح الولايات
المتحدة في الوصول إلى اتفاقية
أوسلو سنة 1993م بين منظمة
التحرير الفلسطينية وبين حكومة
الكيان الصهيوني، ما أدى إلى
تعزيز فكرة النظام العالمي
الجديد أحادي القطب الذي تسيطر
عليه قوة واحدة هي الولايات
المتحدة الأمريكية.
والنظام العالمي الجديد حسب الرؤية
الأمريكية يؤدي إلى إزالة سلطان
الأنظمة الحاكمة عن طريق تشجيع
الأقليات العرقية والدينية
وإرسال لجان تقصي الحقائق، وإلى
إزالة الحدود بين الدول وإلى
تذويب القيم الثقافية والدينية
وخصوصيات كل دولة حتى يتسنى
للولايات المتحدة تقسيم العالم
إلى مناطق على أساس جغرافي
سياسي في ظل اقتصاد مبني على قوى
السوق، وتضمن فيه الولايات
المتحدة إعطاء الأولوية الكبرى
لمصالحها الاقتصادية والأمنية
والعسكرية الخ.
وقد أعدت الولايات المتحدة الدراسات
والأبحاث والتقارير، وسخرت
مئات الباحثين ومراكز الدراسات
الإستراتيجية والدولية لوضع
الاستراتيجيات وتحديد الأدوات
والعقبات ووضع الحلول للوصول
إلى هذه الغاية التي تسميها "النظام
العالمي الجديد"، ولقد بنت
الولايات المتحدة الأمريكية
استراتيجياتها على أساس نظرية
"صدام الحضارات" التي ظهرت
في سنة 1994م للمفكر الأمريكي
صمويل هنتنجتون الذي يؤمن
بحتمية الصدام بين الحضارة
الغربية (المسيحية) والإسلام
معتبرا أن الإسلام هو "قوة
الظلام" الذي يدعو أتباعه إلى
الصراع والعنف (على حد تعبير
هنتنجتون)، وتؤكد نظرية "صدام
الحضارات" على أن الجماعات
الثقافية سوف تحل محل كتل الحرب
الباردة. إن العالم الغربي
بقيادة الولايات المتحدة
الأمريكية ينكر حق غيره من
الشعوب (وخاصة الإسلامية) في
تحديد الهوية الدينية
والثقافية الخاصة بهم، لذا يرفض
قادة الحملة الصليبية الجديدة
فكرة حوار العالم الإسلامي
كوسيلة للتفاهم والاستقرار،
فالصدام والحروب واستخدام
القوة هو الخيار الوحيد المطروح
في العالم الغربي للتعامل مع
العالم الإسلامي.
ولفهم السياق الذي تأتي ضمنه الهجمة
الشرسة على العالم الإسلامي
عسكريا وسياسيا وثقافيا
وإعلاميا، فلا بد من تحديد
المبادئ الأيديولوجية والدينية
التي يستند إليها الغرب وخاصة
الطبقة السياسية في الولايات
المتحدة الأمريكية. إن
الإدارة الأمريكية الحالية
تنتمي في غالبيتها إلى اليمين
المسيحي الصهيوني المتطرف الذي
يؤمن بأن "إسرائيل" هي أرض
وعدها الرب لليهود الذين سوف
يجتمعون في فلسطين ويقيمون
دولتهم بعد ترحيل الفلسطينيين
منها، وهم يؤمنون بعودة المسيح
الذي سوف يقوم بقتل الأشرار (وهم
ربما لا يعلمون أنهم هم الأشرار
الذين سوف يتخلص منهم المسيح
عليه السلام).
ويسيطر اليمين المسيحي الصهيوني
المتحالف مع اللوبي الصهيوني
على أكثر من 13 ولاية أمريكية
ولهم نفوذ كبير في أكثر من 18
ولاية أخرى ويبلغ تعدادهم 30
مليون، لذلك فهم يستأثرون
بمراكز صنع القرار السياسي
ويديرون دفة الصناعات العسكرية
في الولايات المتحدة. وفقا
لنظرية "صدام الحضارات"
تقوم الولايات المتحدة
بالضربات والحروب الاستباقية
ضد أي قوة في العالم يشعرون أنها
تحدد حضارتهم، وهم يبحثون عن أي
عدو كمحفز لحشد قواتهم وطاقاتهم
للصدام معه، وبعد سقوط الاتحاد
السوفيتي كان المحفز هو "الإسلام
السياسي" الذين يقصدون به
الإسلام الذي يرفض الهيمنة
الصليبية الصهيونية على العالم
الإسلامي، ويقاوم الغزاة
والمحتلين وخاصة بعد ظهور نماذج
رائعة من المقاومة الإسلامية في
فلسطين ولبنان والعراق (حديثا).
وتطبيقا لفكرة صدام الحضارات اعتدت
الولايات المتحدة وبريطانيا
وحلفائهما على أفغانستان ثم
اعتدت على العراق، وقد أمدت
الكيان الصهيوني بالدعم
والغطاء اللازم للقيام
بالمجازر الوحشية ضد شعبنا
الفلسطيني، وقد ظهر جليا كيف أن
هذه الجرائم والمجازر الوحشية
تسير وفق الإستراتيجية
الأمريكية، وكذلك الحال بخصوص
ما يجري من تطهير عرقي في
الفلوجة وغيرها من المدن
العراقية.
لذلك فإن خطط واستراتيجيات الولايات
المتحدة بخصوص العالم الإسلامي
تستند إلى أيديولوجية دينية
سياسية اقتصادية اجتماعية،
تماما مثل تلك التي استندت
عليها الحروب الصليبية،
وأدواتها لا تختلف كثيرا عن
الأدوات السابقة ومحاولة
المستشرقين لتشكيك المسلمين في
دينهم وإخراجهم منه بكل السبل.
ولقد بدأت الولايات المتحدة
للوصول إلى ما تسميه بالنظام
العالمي الجديد بمنطقة الشرق
الأوسط لعدة أسباب منها: العجز
والضعف والتخلف الشديد التي
وصلت إليه دول وشعوب هذه
المنطقة، وتمتع هذه المنطقة
بثروات هائلة وخاصة النفط الذي
يهدد نقصه الحضارة الغربية
بكاملها، قدرة الإسلام على
الانتشار وخاصة في الغرب، وظهور
الحركات الإسلامية الفاعلة
محليا وإقليميا وعالميا. إن
الصين التي تمتلك سلاحا نوويا
لا تمثل خطرا على الغرب بسبب عدم
وجود رسالة حضارية للصين تقابل
وتتحدى الحضارة الغربية، وكذلك
الحال بالنسبة لكوريا.
وحسب تقرير بعنوان "التحديث والتحول
الديمقراطي: العقبات والحلول"
الذي أعدته شيرين هنتر والصادر
في سنة 2003م عن مؤسسة الدراسات
الدولية والإستراتيجية في
واشنطن D.C. فإن الولايات المتحدة
والطبقة السياسية الحاكمة فيها
التي تؤمن بنظرية "صدام
الحضارات" ترى أن الأعمال
الإرهابية (حسب تعبيراتهم) التي
قام بها تنظيم القاعدة أدى إلى
تحريك موضوع الصدام بين
الحضارات، وترى أن هذه الأعمال
"الإرهابية" تعكس الأزمة
الاقتصادية والاجتماعية
والسياسية العميقة والمتعددة
الأبعاد التي تسود العالم
الإسلامي، كما ترى أن هذه
الأزمات تعتبر نتاجا للقصور
الهام الذي يعاني منه العالم
الإسلامي بسبب غياب التحديث
والتحول الديمقراطي. فكان لا
بد من تدخل الولايات المتحدة
لضرب حركة طالبان وطرح موضوع
الإصلاح في ما يسمى "الشرق
الأوسط الكبير" بدعم من الدول
الصناعية الثمانية.
ولقد اتخذت الولايات المتحدة التخلف
السياسي والاقتصادي الذي يسود
المنطقة ذريعة للبدء في تنفيذ
برامجها والتدخل عسكريا
وسياسيا واقتصاديا وإعلاميا
وثقافيا في الدول الإسلامية في
منطقة ما تسميه "الشرق الأوسط
الكبير" للتذويب الثقافي
والديني كخطوة حاسمة للهيمنة
على العالم الإسلامي، وتدعي
الولايات المتحدة أن الإسلام هو
سبب التخلف الذي تعاني منه
المنطقة الإسلامية والعربية في
شتى المجالات، ولقد قام المعهد
المذكور والكثير من الباحثين
الاستراتيجيين الأمريكيين
الصهاينة بتضليل الشعب
الأمريكي وشعوب العالم، وربما
أيضا تضليل الإدارة الأمريكية
نفسها بالإدعاء بأن الإسلام هو
سبب تخلف الشعوب الإسلامية
وخاصة العربية.
وحقيقة الأمر أن هذا التخلف نتج عن
المحاولات والحملات المتكررة
للغرب والصليبيين في غزو
المنطقة الإسلامية وإضعافها
بهدف السيطرة عليها وعلى
خيراتها وتجهيل شعوبها حتى
يظلوا عالة على الغرب وحتى لا
تقوم لهم أي قائمة، وسبب هذا
التخلف أيضا زرع "الكيان
الصهيوني" في قلب المنطقة وزجها
في حروب استنزفت اقتصاد وطاقات
الشعوب المظلومة، بالإضافة إلى
زرع ودعم الأنظمة الديكتاتورية
التي استبدت بشعوبها واستنفدت
كل الطاقات في المحافظة على
كراسي الحكم بصرف الأموال على
الجيوش الكبيرة من المخابرات
التي لا شغل لها إلا مراقبة وقمع
كل فرد من أفراد الشعب والإجهاز
على محاول النهوض، ثم إزهاق
الأموال العربية والإسلامية
والاستيلاء عليها واستثمارها
في الولايات المتحدة وأوروبا
بدلا من استثمارها في المنطقة
العربية والإسلامية.
ولقد لعب البنك الدولي دورا كبيرا في
التحكم في اقتصاد الدول العربية
بنهب أموالها عن طريق القروض
وحتى المنح التي تقدمها هذه
المؤسسة وأيضا عن طريق اتفاقية
الجات ومنظمة التجارة
العالمية، وصندوق النقد،
والشركات المتعددة الجنسيات،
كل ذلك بهدف ربط اقتصاد الدول
العربية بالاقتصاد الأمريكي
والسيطرة على رأس المال.
وحديثا أوصت لجنة الحريات الدينية
للحكومة الأمريكية بأن تقوم
الدول العربية بتشجيع الحركات
الصوفية، رغم أن هذه الحركات
الصوفية تصرف الناس إلى
الاعتزال والتقوقع وإلى
الاهتمام الشخصي والذاتي،
وبالتالي فهي تعمل على زيادة
التخلف، لكن هذه الحركات لا
تقاوم الهيمنة الغربية!
لقد حاصرت الأنظمة المدعومة من الغرب
والولايات المتحدة الحركات
الإسلامية ومنعتها من المشاركة
في نهضة البلاد في كل المجالات،
لذلك فإن المسئول الأول والأخير
عن التخلف والفقر في منطقتنا هم
الأنظمة العربية والولايات
المتحدة والغرب، وبالنظر إلى
باقي دول العالم فإننا نجد أن
هناك دولا غير إسلامية هي أشد
تخلفا اقتصاديا واجتماعيا
وعلميا وسياسيا وتربويا وفي
مجالات أخرى، ونجد أن هناك أيضا
دولا إسلامية مزدهرة اقتصاديا
وفي مجالات كثيرة أخرى مثل
الدول الإسلامية في جنوب شرق
آسيا.
إن الإسلام دين حضارة وتقدم وازدهار وعزة
وكرامة ورفض التبعية
والاستكانة واليأس، وهو دين
يرفع من شأن الإنسان والقيم
الإنسانية التي ترفض أن يكون
الإنسان مجرد آلة تعمل دون هدف
ودون رسالة.
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|