ماذا
بعد الغضب؟
صبحي
غندور*
هناك غضب شديد
يعتمر في صدر كلِّ إنسانٍ عربيّ
أينما كان. وهذا أمرٌ جيّدٌ
ومطلوب. غضب على الحكومات
العربية التي تقف عاجزةً أمام
عدوٍّ إسرائيلي يمارس القهر
والعدوان على الشعبين اللبناني
والفلسطيني، بينما ترفض بعض هذه
الحكومات حتى طرد الإسرائيليين
من بلادها، فكيف بمقاتلة
إسرائيل؟!
الغضب الشديد هو
أيضاً على الجيوش العربية التي
تقبل أن تكون في موقع المتفرّج
بدلاً من أن تكون في حال
المواجهة مع عدوٍّ يعجز عن
تحقيق أيِّ نصرٍ عسكريٍّ حقيقي
ضدَّ حزبٍ مقاوم في بلدٍ عربيٍّ
صغير.
غضب يصل أحياناً
للنفس العربية وللشارع العربي
الذي لم يتحرّك بما فيه الكفاية
رغم مرور أسابيع على مجازر
يوميّة ترتكبها إسرائيل (بسلاحٍ
ودعمٍ من واشنطن) في لبنان
وغزَّة.
الغضب العربيّ
العارم هو أيضاً على الدول
الكبرى ومهزلة مجلس الأمن
والأمم المتحدة و"غابة
المجتمع الدولي".
لكنْ ماذا بعد هذا
الغضب والانفعالات العاطفية؟
هل سيبقى الإنسان العربيّ
محلّقاً في فضاء الأخبار على
"الفضائيات التلفزيونية"
أم أنَّه سيحاول تغيير الواقع
ليكون له، ولمن بعده، مستقبل
عربيّ أفضل؟
طبعاً، هناك
لحظات عزٍّ وكرامة عاشها
الإنسان العربيُّ وهو يرقب ما
يحدث من عجز الآلة العسكرية
العدوانيّة الإسرائيلية عن
تحقيق أهدافها، ومن عمليات
بطولية قامت بها المقاومة
اللبنانية المحدودة العدد
والعدَّة. لكن هي ليست متابعة
إخبارية لمباراة بين فريقين في
"مونديال" الحرب على لبنان
وفلسطين .. فلا يجوز الاكتفاء
بالتهليل للفريق المقاوِم ضدَّ
الفريق المحتل، وكفى الله العرب
بعد ذلك شرَّ القتال! إنَّه صراع
على مستقبل كلِّ العرب وأرض
كلِّ العرب وخيرات وثروات كلِّ
العرب.
صراع بين نهجيْ
المقاومة والاستسلام، بين
التسليم للأجنبي والصهيوني بما
يريدون وتنفيذ ما يأمرون، وبين
الحفاظ على كرامة هذه الأمَّة
وشعوبها وحقّهم في بناء أوطان
حرَّة مستقلّة موحدَّة.
إذن، هي ساعةٌ
للعمل وليس للغضب أو الانفعال
أو الاكتفاء بالشتم أو اللعن أو
الدّعاء فقط. إنّها ساعةٌ
لتحويل هذه المشاعر الطيّبة
المعبّرة عن أصالة النَّاس إلى
فعلٍ إيجابي سليم دائم يحافظ
على النَّصر حينما يحصل،
ويوظّفه في الأطُر الصحيحة، كما
يصحّح الواقع حينما يكون هناك
انتكاسات أو خلل، بل حتى
تراجعات أو هزائم.
لقد سبق للمقاومة
اللبنانية أن انتصرت عام 2000
وأجبرت إسرائيل على الانسحاب من
لبنان، لكن الخلل القائم في
الأوضاع اللبنانية والعربية
والدولية، والتطوّرات التي
حدثت بعد ذلك، تريد محو هذا
الانتصار من الذاكرة اللبنانية
والعربية، وتراهن على صراعات
لبنانية وعربية تطيح بكلِّ
معاني المقاومة، وتجعلها أسيرة
الحروب الأهلية أو تدفعها إلى
أعمال تضعها في خانة "الإرهاب
الدولي" فتُحقّق بذلك
المقولة الإسرائيلية/البوشية
بأنَّ المقاومة اللبنانية
والفلسطينية هي "أدوات إرهاب
إقليمي" وليست حركات تحرّر
وطني ضدَّ احتلالٍ غاشم.
هي الآن ساعة
التضامن الوطني الداخلي في
فلسطين ولبنان وكل بلدٍ عربي،
وهي ساعة تأكيد الوحدة الوطنية
من جهة، والسعي لبناء تضامن
عربي فعَّال من جهةٍ أخرى.
الحرب الدائرة
الآن هي بلا شك حربٌ حاسمة لمصير
المنطقة وللصراع العربي/الصهيوني
بأوجهه وساحاته المختلفة، كمل
أنّها حربٌ أيضاً تنذر بتفاعلات
داخلية في كلِّ المنطقة العربية.
فهي فرصة للعديد من الحكومات
العربية لكي تصحّح واقعها
الداخلي ونهج سياستها
الخارجية، وإلا ستكونّ هذه
المحطّة الزمنية بداية لضغوط
داخلية شعبية تدفع للتصحيح
الجزئي أو التغيير الشامل.
بل هي أيضاً فرصة
هامّة أمام الجاليات العربية في
الغرب عموماً، وفي أميركا
خصوصاً، من أجل الضغط على
حكومات هذه الدول التي تدعم
العدوان أو تسكت عنه.
إنّ الولايات
المتحدة ستشهد انتخابات هامّة
في الخريف القادم، وهذا ما يجعل
أعضاء الكونغرس ينصتون جيّداً
لآراء الناخبين الأميركيين،
وتحسب مكاتبهم كلَّ اتصالٍ
هاتفي أو رسالة بمثابة صوت
يعبّر عن مائة من الناخبين.
لذلك، فإنَّ تحرّك الجالية
العربية وسط الرأي العام
الأميركي له أهمّية قصوى في هذه
الفترة الانتخابية، ليس فقط من
أجل المطالبة بوقف العدوان
الإسرائيلي وإنّما أيضاً لشرح
مخاطر الدعم الأميركي الكبير
لإسرائيل وأثره السلبي على
المصالح الأميركية والعلاقات
مع دول المنطقة العربية.
إنَّ الفعل
السليم المطلوب من العرب في
الغرب لا يكفي أن يتمثّل
بمسيرات الغضب فقط، ولا ينبغي
له طبعاً أن يتّخذ شكل ردود فعل
عنفية خاطئة بحقِّ أيّ إنسان أو
مؤسسة هناك. الفعل السليم يكون
بالحوار المباشر مع المواطنين
وبعرض الحقائق لهم وبتوظيف
وسائل الإنترنت لنقل الصورة
الحقيقة لما يحدث على الأرضٍ
عربيّة من عدوانٍ وحشيّ
إسرائيلي.
الفعل العربي
السليم بالغرب يكون من خلال
التمنّي على أبناء هذه البلدان
بالاتصال بممثّليهم في الهيئات
التشريعية وبمراكز صنع السياسة
الخارجية وبوسائل الإعلام
المحلية للتعبير عن التضامن مع
الشعبين اللبناني والفلسطيني
وطلب وقف العدوان وكل وسائل
دعمه.
لقد كانت أحداث
أيلول/سبتمبر 2001 في أميركا
مُسيئة حتماً في كلّ نتائجها،
لكنّها كانت أيضاً مناسبة
للفعاليات العربية والإسلامية
في الغرب من أجل تمييز الإسلام
عن الإرهاب وعرضٍ أفضل لحقيقة
الدين الحنيف.
ثمّ جاءت الحرب على العراق
لتكون أيضاً محطة هامّة في
تاريخ العلاقات العربية
الأميركية حيث قامت أميركا
لأوّل مرّة في تاريخها باحتلال
عسكري لأرضٍ عربيّة. وما تزال
حربها هذه على العراق مصدر
تأزّم لمستقبل العلاقات
العربية/الأميركية. وهاهي الآن
الحرب الدائرة على لبنان تضع
الإدارة الأميركية في موضع
الشريك بالعدوان على وطن عربيّ
صغير كان يراهن بعض أبنائه على
جدّية الحماية الأطلسية له..
إدارة بوش، في
أقلّ من ستّة أعوام، خاضت وتدعم
حروباً على الإسلام والعروبة
والوطنيات. وقد نجحت هذه
الإدارة، كما لم تنجح غيرها، في
استعداء مشاعر معظم المسلمين
والعرب، بل باستعداء الرأي
العام العالمي كلّه.
حتى الآن، إدارة
بوش تنجح في الاستعداء العالمي
لأميركا، وتفشل في حروبها
المباشرة وغير المباشرة.
حتى الآن، ينجح
العدوان الإسرائيلي في هدم
المباني وقتل الأبرياء وتعميق
الغضب على إسرائيل وتوليد مئات
المئات من المقاومين الجدد.
حتى الآن، الفشل
العسكري والسياسي يسيطر على قوى
الاحتلال في فلسطين ولبنان
والعراق، لكن المهمّ هو تحديد
مفهوم الانتصار والحفاظ عليه،
فلا تكون بدائل الاحتلال حروباً
أهلية وصراعاتٍ على البقايا
والأطلال!
*
مدير "مركز الحوار العربي"
في واشنطن
alhewar@alhewar.com
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|