المقاطعة..
حرب بلا دماء
مغاوري
شلبي*
المقاطعة ..دفاع أخلاقي
في
الوقت الذي تنشط فيه حملات
المقاطعة العربية ضد المنتجات
الأمريكية والإسرائيلية، يحتدم
الخلاف داخل الدول الغربية حول
مشروعية هذه المقاطعة، وما إذا
كانت تتوافق مع القانون الدولي
وميثاق الأمم المتحدة واتفاقات
منظمة التجارة العالمية أم لا..
خاصة أن البعض في هذه الدول
اعتبر المقاطعة العربية
لإسرائيل عنصرية وغير مشروعة
دوليا.
وتستهدف
السطور القادمة شرح المفهوم
الذي تنطلق منه المقاطعة ضد
إسرائيل وأهدافها الحقيقة
وتوضيح مشروعيتها
المقاطعة.. ومفاهيم أخرى
تعتبر
المقاطعة بأشكالها المختلفة -بما
فيها المقاطعة الاقتصادية- إحدى
وسائل الدفاع عن النفس بين
الأفراد والدول، وتستخدمها
الدول في الغالب ضد المعتدين
على أراضيها أو سيادتها أو
رعاياها.
كما
تعتبر المقاطعة الاقتصادية
وسيلة فعالة من وسائل الضغط
الجماعي التي تستخدمها مجموعة
من الدول لتحقيق أهداف سياسية
أو اقتصادية أو عسكرية.
وهناك
بعض الاختلافات بين المقاطعة
الاقتصادية وبعض المفاهيم
الاقتصادية الأخرى، مثل:
العقوبات، المعاملة بالمثل،
الحظر.
فالمقاطعة
أشد أنواع العقوبات
الاقتصادية؛ حيث يتم -بناء
عليها- منع التعامل تماما مع هذه
الدولة أو المؤسسات أو الأفراد
التابعين لها.
وفي
الغالب يكون استخدام سلاح
المقاطعة الاقتصادية عملا
سياسيا في المقام الأول، يهدف
إلى ردع الدولة المعتدية أو
الخارجة عن الشرعية الدولية.
أما
العقوبات الاقتصادية فإنها
تكون أخف في حدتها من المقاطعة؛
حيث قد تكون في صورة فرض رسوم
جمركية مرتفعة على المنتجات
المستوردة من هذه الدولة وليس
منع دخولها تماما، وقد تكون هذه
الرسوم على بعض المنتجات فقط،
وهو ما يحدث في الغالب في إطار
الصراع التجاري الدولي مثل
الحالة بين الولايات المتحدة
والاتحاد الأوربي حاليا.. وقد
تذهب العقوبات الاقتصادية كما
في حالة العراق حاليا.
ومن
أهم ما يميز العقوبات
الاقتصادية عن المقاطعة أن
الحكومات هي التي تمارس وتفرض
العقوبات الاقتصادية وليست
الشعوب، أما المقاطعة فيمكن أن
تتم على المستويين الشعبي
والحكومي.
أما
عن المعاملة الاقتصادية بالمثل
فهو إجراء يتم اتخاذه على
المستوى الحكومي ضد الدولة ردا
على إجراء مماثل سبق أن قامت به
الدولة الأخيرة ضد الدولة
الأولى. وهذا الإجراء مبدأ
متعارف عليه ومنصوص عليه في
اتفاقات منظمة التجارة
العالمية، وكذلك في الاتفاقات
الإقليمية والثنائية.
ويتميز
إجراء المعاملة بالمثل بأنه يتم
على المستوى الرسمي وليس
الشعبي، وتكون أدواته في الغالب:
الرسوم الجمركية.
وبالنسبة
للحظر الاقتصادي فهو الإجراء
الأقل درجة مما سبق؛ حيث يقتصر
على مجرد حظر دخول منتج معين أو
عدد من المنتجات الخاصة بهذه
الدولة لأسباب مشروعة مثل
الحفاظ على البيئة أو الصحة، أو
لأسباب غير مشروعة؛ انتقاما من
هذه الدولة.. وهو أيضا إجراء
حكومي لا يمكن أن يقوم به
الأفراد على المستوى الشعبي.
مما
سبق نخلص إلى أن العرب اختاروا
أشد أنواع العقاب وهو المقاطعة
الاقتصادية ضد إسرائيل، وهو ما
يجعل الآخرين يفهمون أن
المقاطعة العربية ضد إسرائيل
إجراء انتقامي هدفه قتل الشعب
الإسرائيلي أو القضاء على
اليهود، وهو فهم غير صحيح يمكن
تصحيحه إذا تفهّم هؤلاء الآخرون
الأهداف الحقيقة للمقاطعة
الاقتصادية ضد إسرائيل.
الهدف هو الزجر
لا
تعتبر المقاطعة العربية ضد
إسرائيل سلوكا عدوانيا؛ لأنها
لا تستهدف إلحاق الضرر بالقدرات
الإسرائيلية أو بالمواطن
الإسرائيلي لمجرد الإضرار أو
الانتقام، كما أنها ليست
عدوانية تأتي في سياق صراع
اقتصادي بين العرب وإسرائيل.
ولكن
حقيقة هذه المقاطعة أنها إجراء
زجريٌّ أو تأديبيٌّ غير دموي من
جانب الحكومات والشعوب العربية
لإسرائيل والدول المنحازة لها،
وبالتالي فإن العرب لا يهدفون
منها إلى القضاء على إسرائيل،
وإنما هناك هدف محدد ومشروع
لهذه المقاطعة، وهو إجبار
إسرائيل على التراجع عن التمادي
في الخروج على الشرعية الدولية
وهضم الحقوق العربية، وذلك بدلا
من استخدام القوة العسكرية
وإراقة المزيد من الدماء.
إذن
فليس المستهدف من المقاطعة
الاقتصادية المواطن الإسرائيلي
أو الأمريكي ولكن المستهدف هو:
-
ضرب وإضعاف في الإمكانات
العسكرية لإسرائيل عن طريق
إضعاف مواردها الاقتصادية الذي
يعني إضعافا -بشكل غير مباشر-
للمجهود الحربي، ولا يخفى أن
هذا الهدف ليس عدوانيا إنما هو
وقائي، وفيه -أيضا- حماية ضمنية
لإسرائيل نفسها من خلال تعجيزها
عن الدخول في مواجهة عسكرية مع
العرب.
-
إجبار إسرائيل على التراجع عن
التمادي في عدوانها ضد أبناء
فلسطين، أو دفعها من توسيع
دائرة الحرب في المنطقة؛ وهو ما
يعني حقن الدماء بما فيها دماء
الإسرائيليين أنفسهم من خلال
وقف دائرة العنف بين الجانبين،
وهو هدف أكثر نبلا من الهدف
السابق.
-
إحداث تغيير سياسي داخل إسرائيل
بضغط من أصحاب المصالح في
الداخل، ودون تدخل عربي في
الشئون الداخلية الإسرائيلية؛
وذلك لأن المقاطعة ضد إسرائيل
تشعر مواطنيها بأن حكومتهم ليست
حريصة على مصالحهم الاقتصادية؛
لأنها تستعدي الدول العربية.
والجدير
بالذكر أن وصف العقوبات
الاقتصادية بأنها "عملية
أخلاقية بناءة" ليس وصفا
عربيا، إنما هو وصف أمريكي
للعقوبات الاقتصادية ضد العراق.
وإذا
لم يكن كل ذلك مقنعا للآخرين من
الدول المعترضة على المقاطعة ضد
إسرائيل فإن الحَكَم الفصل في
ذلك هو القانون الدولي الذي
صاغته تلك الدول، وقواعد تحرير
التجارة الدولية التي وضعتها
وتتعامل بها هذه الدول أيضا،
وكذلك التجارب الدولية في هذا
المجال.
مشروعة بكل المقاييس
تستمد
المقاطعة الاقتصادية العربية
ضد إسرائيل مشروعيتها من مختلف
المواثيق والأعراف الدولية،
وذلك على النحو التالي:
1- المقاطعة وميثاق الأمم المتحدة:
لقد
أعطى هذا الميثاق مشروعية
للمقاطعة الاقتصادية، ومنها
مقاطعة العرب لإسرائيل؛ حيث جاء
في المادة 16 من هذا الميثاق أنه
في حالة مخالفة إحدى الدول
الأعضاء لهذا الميثاق تقوم دول
العصبة بقطع علاقاتها التجارية
والمالية معها، ومنع الاتصال
بأهالي هذه الدولة.
إذن
فالمقاطعة العربية تتفق مع
ميثاق عصبة الأمم، بل تعتبر
مقاطعة إسرائيل واجبة على بقية
دول العالم وفقا لهذا الميثاق.
وإذا
انتقلنا إلى ميثاق الأمم
المتحدة وبالتحديد في المادة 51
نجد أنها نصّت على الآتي:
"ليس
في هذا الميثاق ما يُضعف أو
يُنقص من الحق الطبيعي للدول -فرادى
وجماعات- في الدفاع عن أنفسهم
إذا اعتدت قوة مسلحة على أحد
أعضاء الأمم المتحدة". وأشار
الميثاق إلى حق الدول في وقف
المواصلات الحديدية والبحرية
والجوية والبريدية والبرقية
واللاسلكية ووقف كل العلاقات
الاقتصادية.. وهو ما يؤكد أن
المقاطعة العربية ضد إسرائيل
إجراء مشروع.
2- المقاطعة ومبادئ حرية التجارة
الدولية:
لقد
نجحت إسرائيل في إقناع بعض
الدول الغربية بأن المقاطعة
تمييزية على أساس ديني،
وبالتالي فهي مقاطعة اقتصادية
عنصرية.. والواقع أن هذه أقوال
مغلوطة؛ وذلك لأن مبادئ حرية
التجارة التي أقرتها منظمة
التجارة الدولية تقوم في الأساس
على مبدأ "العقد شريعة
المتعاقدين"، وهذا يعني أن
الدول العربية لديها الحرية في
أن تضع في العقود التي تريد
إبرامها مع الدول الأخرى
الشروطَ التي تتماشى مع حقوقها
ومصالحها، ومنها أن تشترط على
هذه الدول عدم التعامل مع
إسرائيل تجاريا أو ماليا، ويكون
لهذه الدول حق القبول أو الرفض
لهذه الشروط.
كما
أن المقاطعة العربية ليست على
أساس ديني، ولكنها تقوم على
أساس الدفاع عن النفس ضد دولة
معتدية، وليس ضد أصحاب دين أو
عرق معين، وبالتالي فهي لا
تخالف مبادئ حرية التجارة
الدولية.
3- المقاطعة والتجارب الدولية:
ليست
المقاطعة العربية ضد إسرائيل
والمنحازين لها بدعة غير
مسبوقة، إنما هي مأخوذة عن
الآخرين ولها سوابق دولية
كثيرة؛ حيث إن الولايات المتحدة
الأمريكية هي أول دولة استخدمت
سلاح المقاطعة الاقتصادية ضد
بريطانيا في حرب الاستقلال،
ومقاطعة بريطانيا للأرجنتين
أثناء أزمة جزر الفوكلاند، كذلك
قرارات المقاطعة الأمريكية ضد
روسيا وكوبا وفيتنام.
كما
أن الأمم المتحدة تستخدم هذا
السلاح.. فهناك قرار بمقاطعة
الصين وكوريا الشمالية عام 1951،
وكذلك قرار مقاطعة النظام
العنصري في جنوب أفريقيا عام 1964،
وقرار العقوبات الاقتصادية على
العراق الذي ما زال قائما منذ
عام 1991.
وربما
كانت هذه التجارب أقوى المصادر
التي تستمد منها المقاطعة
العربية ضد إسرائيل مشروعيتها؛
لأن أغلبها تجارب لنفس الدول
التي تعترض على استخدام العرب
لنفس السلاح.
ومع
الحكم القاطع -وفقا للمعايير
السابقة بمشروعية المقاطعة
العربية ضد إسرائيل، وأنها لا
تخالف الشرعية الدولية؛ لأن
هناك ازدواجية واضحة في تطبيق
هذه الشرعية- دعنا نحتكم في
النهاية إلى قاعدة المعقولية
والمنطق التي لا يغيب فهمها عن
الجميع.
ووفقا
لهذه القاعدة: هل تنكر دول الغرب
حق العرب في مقاطعة إسرائيل رغم
ما تقوم به الأخيرة من أعمال
عدوانية ضد العرب انطلاقا من
مبادئ العدل والمنطق؟
وهل
تريد هذه الدول من العرب أن
يكونوا عاملا مساعدا على ازدهار
الاقتصاد الإسرائيلي وتدعيمها
في ظل حالة الحرب معها؟
ربما
أجابت هذه الدول بـ"نعم"
على هذه الأسئلة؛ لأن المعقولية
والمنطق أصبح لهما مفهوم آخر
لديها.
فإذا
كانت تلك الدول تعتبر الكفاح ضد
الاحتلال إرهابا فليس غريبا أن
تكون المقاطعة الاقتصادية ضد
إسرائيل تصرفا عدوانيا أو حتى
عنصريا.
*خبير اقتصادي
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|