وقف
إطلاق النار
يعيد
خلط الأوراق في لبنان من جديد
الطاهر
إبراهيم*
وقف إطلاق النار الذي سيوضع موضع
التنفيذ –نظريا على الأقل- صباح
يوم الاثنين 14 آب "أغسطس"
الجاري، أراده الجميع: الفرقاء
اللبنانيون وواشنطن وتل أبيب،
كمحطة على الطريق الطويل، وكل
لحساباته الخاصة. وسيكون
بالنسبة لحزب الله ولإسرائيل
على وجه الخصوص، عملية التقاط
أنفاس بعد جهد جهيد خلال حرب
دامت على مدى أكثر من شهر ،كأطول
حرب بين العرب وإسرائيل خلال
فترة صراع بين الطرفين على مدى
أكثر من ستة عقود، اقتصر فيها
أخذ المبادرة على طرف واحد هو
إسرائيل.
وقف إطلاق النار لن يصمد طويلا،
وسيتحول إلى حرب استنزاف، يحاول
كل طرف أن يحسّن من مركزه على
الأرض، بعد تداخل بين خطوط
الفصل بين الطرفين على طول جبهة
جنوب لبنان. وقف النار سيكون "تكأة"
لكلا الطرفين يُلقيان منها ،كلٌ
خصم على الآخر، سبب خرق وقف
النار. وأثناء التراشق بالقذائف
والاتهامات، سينصرف كل طرف
لإحصاء خسائره وأرباحه، إن كان
ثمة أرباح يمكن أن تدعيها
إسرائيل أو يدعيها حزب الله. يحق
لحزب الله أن يفخر بصموده في وجه
الجيش الصهيوني وتكبيده خسائر
ضخمة لم تكن في حسبان قادة
الدولة العبرية عند ما شنوا
حربهم هذه.
وفي حسابات الأرباح والخسائر،
فإن ما هو مؤكد أن ما سيؤرق عيني
الشيخ "حسن نصر الله" هو
ضخامة الخسائر التي حلت
بالمدنيين اللبنانيين، ومن ثم
مقارنتها مع ما كان سيجنيه حزب
الله من تبادل الأسرى فيما لو
تمت الصفقة ولم تذهب إسرائيل
إلى الحرب. نقول هذا الكلام لأن
"نصر الله" كان يحاول دائما
أن يبدو ملتصقا بالمواطن
اللبناني المسحوق.
ومهما حاول المواطن اللبناني أن
يتجمل بالصبر وأن يظهر تعاطفه
مع المقاومة، فإن فقيده العزيز
الغالي -أبا كان أو طفلا أو زوجا-
الذي اغتالته الآلة العسكرية
الإسرائيلية، سوف يمضي وقت طويل
عليه قبل أن يطويه النسيان من
ذاكرته، خصوصا بعد أن انحسرت
قوة المقاومة من الجنوب، مايعني
أن هذه الفاتورة ستكون من أثقل
الفواتير التي سيدفعها "نصر
الله" من رصيده عند
اللبنانيين خصوصا من كان يعيش
منهم في الجنوب أو في الضاحية
الجنوبية من بيروت.
في إحصاء الخسائر أيضا يعتبر
انكفاء حزب الله إلى شمال نهر
الليطاني هو الخسارة الأهم التي
ستلقي بظلالها على سلاح الحزب .
"نصر الله" أعلن عن قبوله
بوقف النار وأوكل ترتيباته إلى
الحكومة عند إعلانه القبول. غير
أنه عاد وسحب هذا التوكيل وكلف
به رئيس
المجلس النيابي "نبيه بري"
في إطلالته التلفزيونية
الأخيرة في بدء وضع وقف النار
موضع التنفيذ يوم الاثنين 14 آب
"أغسطس" الجاري. كما تبين
من حديثه هذا أنه سيمر عليه وقت طويل
قبل أن يستطيع بلورة شكل
المقاومة بعد انسحابه إلى شمال
الليطاني.
القلة من الأحزاب اللبنانية
الذين كانوا يراهنون أن تسفر
الحرب عن إرغام حزب الله على
الانسحاب شمالا بعيدا عن الحدود
مع إسرائيل، وربما تفكيك سلاحه
كنتيجة لقرار مجلس الأمن /1701/.
ربما ندم الذين راهنوا على
انكفاء الحزب إلى شمال الليطاني
عندما تشعر قيادات المقاتلين
بفراغ، ما كانت لتشعر به وهي في
الجنوب، وربما حاولت هذه
القيادات ملء الفراغ بالتدخل في
الشئون الداخلية اللبنانية.
عندها سيتذكر المراهنون أيام
كان الحزب مشغولا بالجنوب
فيندمون، ولات ساعة مندم.
اللبنانيون لديهم ما يبعدهم عن
ترف الخلاف لو أنهم أرادوا ذلك،
والتفتوا إلى أنهم في مركب
واحد، وإنهم إما أن ينجوا جميعا
أو يغرقوا جميعا، وليس هناك
منزلة بين المنزلتين.
بعيدا عن اللبنانيين، فإن أكبر
الخاسرين هو النظام السوري.
فبعد أن كان لاعبا أساسيا على
الساحة اللبنانية، وجد نفسه أنه
"لا في العير ولا في النفير".
فلم يستطع أن يقدم أي مساعدة
لحزب الله تطبيقا لاتفاق "جنتلمان"
عقد مع واشنطن عام 1976. ولم يكن له
في ترتيبات وقف إطلاق النار أي
دور. وحتى حضور وزير خارجية
سورية "وليد معلم" إلى
بيروت، قبل مؤتمر وزراء
الخارجية العرب الأخير في
بيروت، بدا وكأنه حضور مقحم.
وربما شعر الذين تابعوا خطاب
الرئيس السوري "بشار أسد"
يوم الثلاثاء 15 آب الجاري، الذي
أراد منه أن يكون إعلانا يقول
فيه نحن هنا، بدا وكأنه مقحم على
ما يقال على الساحة اللبنانية
أيضا. البعض يقول عن هذا الخطاب
أنه حلقة في سلسلة الهجوم
الإعلامي، أراده النظام السوري
–بهجومه على الحكومة اللبنانية
وقوى 14آذار- أن يلفت الأنظار
بعيد عن جريمة
اغتيال الرئيس "الحريري"
التي يعتبر النظام متهما أساسيا
فيها.
أكثر ماأثار شفقة الذين يتعاطفون
مع الرئيس بشار هو إشارته إلى حق
كل لبناني أن يغسل رجليه
في مياه نبع الليطاني. فإن هذا
المثال يقترن بالأذهان بما كان
يردده الرئيس الراحل "حافظ
أسد" بأنه يحلم أن يسبح في
مياه شاطئ بحيرة "طبرية"
الشمالي الذي كان من أملاك
سورية قبل أن يضيع في حرب حزيران
عام 1967، ويومها كان اللواء "حافظ
أسد" وزيرا للدفاع. وفي هذا
السياق يذكر شهود تلك الفترة،
منهم "عبد الحليم خدام"، أن
"الراحل" يتحمل القسط
الأكبر من ضياع الجولان -ومنها
مياه بحيرة طبرية- في حرب حزيران.
خسائر إسرائيل السياسية كانت
أكبر من خسائرها العسكرية، وهي
ليست قليلة في كل حال. فهي لم
تستطع أن تعيد الجنديين
الأسيرين، بل إنها خسرت أكثر من
مئة عسكري قتيل في هذه الحرب،
ومئات الجرحى عدا عن دبابات
دمرت وطائرات أسقطت. ولكن
الخسارة الأهم كان سقوط الوهم
الذي كانت تبثه دعاياتها بأن
جيشها هو الجيش الذي لا يقهر،
فبقي أكثر من شهر عاجزا عن كسب
أي أرض لبنانية إلا كيلومترات
قليلة انسحب المقاومون منها بعد
أن تم تكبيد الإسرائيليين خسائر
بشرية فادحة.
إيران كانت الرابح الأكبرمن
إشعال فتيل الحرب. صحيح أنها
دفعت فاتورة تكاليف الحرب
،وستدفع تكاليف الإعمار، لكن
الصحيح أيضا أنها أثبتت أنها
لاعب حقيقي على الساحة من خلال
حزب الله في لبنان، وأن نقل
ملفها النووي إلى مجلس الأمن قد
ينام طويلا في أدراج المجلس،
بعد أن أدرك الخمسة الكبار أن
باستطاعة إيران أن تثير المتاعب.
ملف الخسائر والأرباح في حرب
جنوب لبنان أكبر من أن يستوعبه
مقال محدود الصفحات . لكن ما هو
مؤكد أن مخاوف شركاء حزب الله في
أرض لبنان ،وهم الأحزاب التي
تشكل قوى 14آذار وغيرها، لم تأت
من فراغ. فقد أثبتت هذه الحرب أن
حزب الله لا يشكل دولة داخل دولة,
بل إنه هو الدولة. فإذا كانت
الأسر التي دمرت مساكنها يتجاوز
عددها 15ألف أسرة، كما صرح بذلك
"نصر الله" في إطلالته
الأخيرة، وإن حزب الله سوف
يتكفل تكاليف بناء هذه المساكن
وفرشها، ما يعني أكثر من خمس مئة
مليون دولار، فمن أين لحزب لا
يملك إلا اشتراكات أعضائه كل
تلك الأموال؟
الجواب لا يحتاج للرجم بالغيب،
فإن علاقة كالتي تربط حزب الله
بإيران علاقة مصيرية تتجاوز ما
هو معهود من العلاقات بين الدول
والأحزاب التي تدور في فلكها،
لتصل إلى شكل من العلاقة كالتي
تربط ولاية "ألاسكا"
بالحكومة الفيدرالية في واشنطن.
وأخيرا فإن علاقة حزب الله
بإيران ليست كلها شوك بعد أن
تخلت معظم الأنظمة العربية عن
دورها في دعم المقاومة
الفلسطينية واللبنانية، ما جعل
المقاومة اللبنانية تقتصر على
حزب الله لأن باقي الفصائل،
والسنية منها على وجه الخصوص،
لا تجد دولة تدعمها. فقط نذكّر
هنا بأن إيران لا تدفع
للمقاومين في فلسطين إلا لمن
يدور في فلكها كالجهاد الإسلامي
. أما حماس فيقتصر دعمها لها على
التأييد الإعلامي فحسب.
*كاتب سوري
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|