صمت
الوعلان
أبو
عمر الأسدستاني
بالأمس.. وقبل أن
ينام سمع عن توجيهات القيادة
للرفاق البعثين بأن يستلموا
دورهم القيادي في المجتمع كما
ينص عليه الدستور ؟ واليوم .. نظر
إلى وجهه طويلاً في المرآة بعد
أن أفاق من نومه فرأى وجهاً
علكته الحياة بكل قسوتها ثم
بصقته باشمئزاز تاركة عليه
ندوباً لا تمحى من تغضنات
وتجاعيد وشعر أشيب , فبالرغم من
أنه لم يتجاوز الأربعين من
العمر إلا أنه بدا على أبواب
التقاعد الوظيفي والحياتي .
لن أستطيع الاحتمال
أو الصمود لأكثر من ذلك ...وأشار
بإصبعه إلى المرآة , لابد من
إحداث انقلاب جذري في حياتي
لابد من (التصحيح).. لن أعيش
مسحوقاً محروماً من كل شيء بعد
الآن .. يجب أن أتقدم في السلم
الوظيفي يجب أن أحصل على حقي في
الترقيات يجب أن أعيش كما يعيش
الآخرين , وتذكر فجأة نضارة وجه
مديره العام في الدائرة التي
يعمل بها والذي اقترب سنه من
الستين ومع ذلك يبدو في مظهره
أصغر منه سناً ...هذا من نعمة
البعث عليه ...ردد بصوت خفيض
والآن جاء دوري لأمتع نفسي
بنعمة البعث أيضاً , وعلا صوته
وهو يوجه كلامه إلى الوجه
المنهك في الطرف الآخر من
المرآة..قررت أن أصبح بعثياً ..
قررت أن أعيش في النعيم .. لقد
حان الوقت للتغيير آن الأوان
لذلك يا صاحب المبادئ والعفة
والضمير .
وأسرع فارتدى ثيابه
الرثة على عجل بعد أن نظر إليها
بقرف نظرة الوداع الأخير وهم
بالخروج من منزله الوضيع قبل أن
تستوقفه زوجته متسائلة
باستغراب عن سبب خروجه قبل
تناوله لطعام الإفطار علماً
بأنه لا توجد اليوم مسيرات أو
مبايعات وهي مناسبات اعتاد فيها
على الخروج مبكراً (درءاً
للشبهات) , ونظر إليها بازدراء
وقال من الآن فصاعداً ستصبح
حياتي كلها مسيرات ومبايعات.. هل
فهمتي ؟ وخرج
إلى الشارع بعد أن صفق باب
المنزل من ورائه بقوة وأخذ يحث
الخطى مسرعاً باتجاه فرع حزب
البعث في مدينته ولما وصل الفرع
طالعته الصور العملاقة للأمين
العام السابق للحزب حافظ الأسد
والحالي بشار حافظ الأسد ,
وللمرة الأولى في حياته بدأ يرى
الصور من منظار مختلف فبالأمس
كان يرى فيها تجسيداً لتأليه
الحاكم والظلم والديكتاتورية
البغيضة أما اليوم فأخذ يرى
صورهم في خياله مطبوعة على
أوراق نقدية لا حصر لها تفيض من
جيوبه , واقترب من موظف
الاستعلامات وسأله.. أين أستطيع
تقديم طلبٍ للانتساب للحزب يا
رفيق ؟ ونظر موظف الاستعلامات
الشاب إلى مظهره الستيني و
ثيابه الرثة وعرف بخبرته (الحزبية)
غاياته فقال له .. ولماذا تريد
الانتساب الآن إلى الحزب يا جدي
ألا تعتقد بأن القطار قد فاتك
منذ زمن بعيد ولم يبق لك من فتات
الكعكة شيء يؤكل ؟ هذا شغلي وليس
شغلك يا رفيق رد عليه أعطني طلب
الانتساب وصلى الله وبارك.. ثم
تذكر أنه في فرع لحزب البعث فلا
يجوز بأي حال من الأحوال ذكر
الله فيه لأن المبدأ البعثي
يقول (آمنت بالبعث رباً لا شريك
له) فسعل
بقوة وتنحنح حتى يمحو من ذاكرة
الشاب ما قاله وأردف قائلاً ..
وأريد أيضاً ثلاث صور كبيرة
ملونة واحدة للرمز الخالد
والثانية للأمل الواعد
والثالثة للشهيد الرائد ..
فابتسم الشاب وسأله ولماذا تريد
الصور يا جدي .. ومع أن إصرار
الشاب على نعته بالجد أغاظه إلا
أنه كتم غيظه وأجاب .. أريد أن
أُزين بها مكتبي .. وازدادت
ابتسامة الشاب وقال سأعطيك ما
تريد لكن صدقني لن تستفيد شيئاً
مما تفعله .. وأعطاه الشاب الصور
مع طلب الانتساب فأخذهم وخرج
متوجهاً إلى دائرته , وفور وصوله
شرع في تعليق الصور على الحائط
خلف مكتبه المتواضع وسط دهشة
زملائه دون أن يجرؤ أحدهم على
سؤاله عن سبب هذا التحول
الفجائي في مواقفه,
وأحس هو بحيرتهم ورهبتهم
منه فالتفت إليهم قائلاً ..أيها
الرفاق ..أيها المناضلون .. إن
الهجمة الامبريالية الشرسة
المدعومة من الصهيونية
العالمية على قلعة الصمود
والتصدي وملاذ الأحرار هدفها هو
النيل من ثوابت قيادتنا الأزلية
ومنعها من تحقيق أهدافها
وأهدافنا وأهداف أمتنا في
الوحدة والحرية والاشتراكية ....
ولذلك يتوجب علينا نحن جماهير
العمال والكادحين أن نقف ونلتف
ونصطف خلف قيادتنا الحكيمة أمام
هذا المنعطف التاريخي الهام في
حياة أمتنا ومسيرة ثورتنا ...
وسكت قليلاً بانتظار أن يسمع
التصفيق والهتاف من زملائه إلا
أنه لم يلمح في عيونهم سوى نظرات
الاستغراب والاستهجان
والازدراء ... فليموتوا حسداً
وكمداً ..سأريهم غداً من أكون ..وليعلموا
أنني أصبحت بعثياً ابتداءً من
اليوم.. والآن سأباشر عملي
وسأبدأ بتلقي الرشاوي
والإكراميات .. وغداً سأسرق
وأنهب المال العام وأعيث فساداً
في الدائرة ...وبعد غد سأعيش في
النعيم .. وجلس وراء مكتبه
المتهالك طالباً بأعلى صوته من
أمين المستودع أن يستبدل مكتبه
بآخر جديد كان قد خُصص لأمين
الفرقة الحزبية ..ولم لا وقد
أصبحت الآن عضواً في حزب البعث
الحاكم وموظفاً لدى آل الحاكم ..هكذا
قال في نفسه .
وشرع في العمل وأخذ
طابور المراجعين في التوافد على
مكتبه وبدأ هو في وضع التسعيرات
لكل معاملة دون أن تأخذه شفقة أو
رحمة بالمواطنين البسطاء كما
كان يسميهم في الأمس وبالزبائن
العبيد كما أصبح يسميهم الآن
لأنهم وببساطة لم يعترضوا أو
يفتحوا فمهم بالشكوى أو
الاحتجاج على أي مبلغ طلبه منهم
ربما لأنهم أنانيون يريدون
إنهاء معاملاتهم بأي ثمن أو
ربما لقناعتهم التامة بأن
معاملات العبيد لا تسير إلا
بالرشوة في أسدستان , وواصل
العمل واستمر في قبض الرشاوي
حتى أتاه حاجب المدير العام
وطلب منه مقابلة المدير... وسرت
في جسده لبرهة قشعريرة لم يعرف
سببها وأخذ يتساءل بحيرة ماذا
يريد مني المدير العام ؟ على
الأرجح يريد نسبة مما أخذته من
الزبائن العبيد ولكن ..لا .. لن
أعطيه قرشاً واحداً من المال
لأنه من حقي ولن أسمح له بإخافتي
أو ابتزازي لأنني سأبتزه أولاً
وأُلمح له بمعرفتي بملف فساده
الديناصوري وبسرقاته وبسلبه
ونهبه للمال العام عندها سيسكت
على فسادي مكرهاً مقابل أن أسكت
عن فساده .
وذهب لمقابلة
المدير العام مطمئناً حيث أدخله
الحاجب إلى مكتب المدير للمرة
الأولى في حياته وهاله ما رآه من
فخامة وأبهة فوقف مبهوراً
فاغراً فاه ينظر إلى ما حوله
بحسد وضيق عين متخيلاً نفسه
جالساً على الكرسي الضخم يصدر
أوامره إلى عبيده الموظفين ..
وقطع عليه المدير العام أحلامه
الطموحة بسؤاله ضاحكاً ... شو يا
رفيق سمعت بأنك بدأت اليوم تفرض
إتاوات على المواطنين الشرفاء ..
عجباً هذه هي المرة الأولى التي
يسمع فيها كلمة مواطنين شرفاء
من فم مديره ؟ ولكن لا... لن
تنطلي علي هذه الخدعة فهذا
أسلوب بعثي رخيص للمزاودة كلما
دعت الحاجة .. ردد بصوت خفيض ثم
أردف بصوت عال ليسمعه المدير
وبنبرة تهديد مبطن قال .. كلنا في
الهوا سوا يا سعادة المدير
فالخير كثير والبعث كبير يسعنا
جميعاً ومثل ما يقول المثل
دبـّر حالك .. وحكللي لحكلك..
وشّيلني لشّيلك .. إذا كنت تفهم
قصدي . .... ولم يتمالك المدير
العام نفسه وسقط منهاراً في
كرسيه الوثير من شدة الضحك وبقي
لعدة دقائق يختلج جسمه ويهتز
كرشه الضخم بقوة نتيجة لموجات
الضحك التسونامية ... وتوقف فجأة
عن الضحك وقطب حاجبيه ونظر بقرف
واحتقار إليه قائلاً .. هل تظن
أيها الصعلوك الوضيع بأن
انتسابك للحزب سيعطيك الحق بأن
ترتشي وتنهب وتسرق دون أن تدفع
الثمن ؟ وارتعدت أوصال الرفيق
النصير من رؤية الوجه النضر
لمديره وقد انقلب إلى وجه شيطان
مريد وأجابه بصوت مرتجف .. أنا
جاهز لدفع الثمن يا سيادة
المدير وإذا أردت أن تحصل على
نصف ما حصلت عليه ..... اخرس أيها
السافل الوضيع قاطعه المدير
بصوت هادر ... هل تعتقد أن المال
فقط يُجدي في مزرعة الأسد ؟ لا
يا رفيق يجب أن تدفع الثمن أولاً
من دينك وكرامتك ونخوتك ورجولتك
وإنسانيتك لتصبح ناطوراً في
المزرعة ؟ ولتصبح ناطوراً في
المزرعة يجب أن تكون ملحداً
وزنديقاً ومنافقاً وتافهاً لكي
تتسلق الدرجة الأولى في سلم
النواطير بعد أن تكون قد تخليت
بداية عن دينك و آخرتك , ثم عليك
في الدرجة الثانية أن تدفن
كرامتك أمامي وأمام مسؤولي
الأمن بأن تنبطح لنا ليل نهار
تلعق أحذيتنا وتضعها فوق رأسك
لتتمسح بجواربنا وأقدامنا قبل
أن تساعدنا في قضاء حاجاتنا إلى
أن نملّ منك ومن تزلفك فنسمح لك
أن تصعد السلم إلى الدرجة
الثالثة وهناك ينتظرك امتحان
آخر إذ يجب عليك أن تشي بجدك
وجدتك وأبيك وأمك وأختك وأخيك
وخالك وخالتك وعمك وعمتك وبكافة
أقربائك ومعارفك وجيرانك
وأصدقاء طفولتك وكل من أحسن
إليك حتى يقتنع آخر عنصر أمن
بأنك أصبحت مُخبراً رخيصاً
حقيراً منبوذاً من المجتمع...
ستعطى عندها الضوء الأخضر
للبقاء في الدرجة الثالثة في
سلم النواطير بعد أن يطمئن
أسيادك بأنك أحرقت جميع مراكب
العودة إلى أهلك وبيئتك ومجتمعك
وهنا فقط وفي هذه الدرجة
تحديداً تستطيع أخيراً أن تجمع
قليلاً من فتات المزرعة على
مرأى ومسمع من كلاب المزرعة
وبقية النواطير دون أن يعضك كلب
أو يحاسبك ناطور طالما قنعت
بالفتات ... وتناول المدير رشفة
ماء من كأس مملوء موضوع أمامه
وأردف قائلاً ويداه ترتجفان من
الانفعال .. أما إذا أردت الوصول
للدرجة الرابعة في السلم لتحصل
على قطع أكبر من الفتات
فالمطلوب منك أن تصبح وعلاً
حقيقياً أي ترى المنكر والفاحشة
أمام عينيك في بيتك وأهلك وتسكت
وتبتسم وكأن شيئاً لم يحدث وإلا
أغضبت بفعلتك الاتحاد العام
النسائي والذي تهتز لغضبته
أركان المزرعة وتجعلهم
يتنبهون أن بداخلك شيء من
الشهامة والرجولة والأخلاق مما
يتنافى تماماً مع طباع نواطير
المزرعة وهذا بحد ذاته سبباً
كافياً ليقذفوا بك من جديد إلى
ما تحت السلم وتكون في هذه
الحالة قد خسرت كل شيء بعدما
قدمت لهم كل شيء لذلك أنصحك
نصيحة شخص مجرب .. ومال إلى
الأمام ليريه آثار ما بدا أنها
قرون نبتت على طرفي جبينه ...
اسكت وابتسم وتابع السكوت
والابتسام إلى أن يملّ تيمورلنك
وينتقل وجنوده إلى ناطور آخر
وتنتقل أنت من الدرجة الرابعة
في السلم إلى درجة الصفوة
والنخبة وهي أسهلها إذ من
المفترض فيها أن تتخلى عن
وجدانك وكامل إنسانيتك أي
باختصار ترى على سبيل المثال
جثثاً لأطفال عبيد المزرعة وقد
هُدّمت بيوتهم فوق رؤوسهم ورؤوس
ذويهم دون أن تعترض .. وتشاهد
التنكيل والتشريد بالعبيد داخل
المزرعة وخارجها وتباركه ..
وتسمع صوت اغتصاب الحرائر
وتبتسم .. وترى بأم عينيك نزع
الحجاب من على رؤوسهن وتصفق لهن
مؤيداً القضاء على التخلف
والرجعية .. دون أن تتحرك بداخلك
ذرة نخوة أو إنسانية أو ضمير بل
المطلوب منك أيضاً أن تدافع
بقوة وقناعة عن المعتقلات
والسجون وعن أصناف التنكيل
وأنواع التعذيب وآلاف الموبقات
والانتهاكات بشعارات قومية
وعبارات ثورية ومزاودات بعثية
ستعلمك إياها ببغاوات المزرعة
أو حميرها إذ لا فرق بين الاثنين
فعلياً فكلاهما سيعلمك النهيق .
وكما قلت لك سابقاً
يا رفيق فدرجة الصفوة والنخبة
في السلم أسهلها لأن من يصلها
أساساً هم الحثالة من البشر من
الذين باعوا
وتنازلوا عن كل شيء منذ زمن
بعيد من أجل استلام المناصب و
ترقي سلم النواطير في مزرعة
الأسد ... وصمت المدير لبضع دقائق
مرت على صاحبنا النصير كالدهر ..أردف
بعدها ... لقد قلت لك ما قلته
لأريح ضميراً دفنته لحظة
انتسابي للبعث وكرامة داستها
أحذية ضباط الأمن ونخوة ورجولة
فقدتها وأنا أسمع اهتزاز سريري
في غرفة نومي ... وسأختم كلامي لك
يا رفيق بالتعريف بالبعث وقادته
... إنهم
مجموعة من الوعلان تتشابك
قرونهم في حالة السلم تحت أقدام
(المزارع الأول) وأخيه وأخته
وصهره وخاله وابن خاله وعمته
وابن عمته وكل فرد من عائلته ..
يبولون في كل مكان في الوطن
ليعلّموا مناطق نفوذهم
برائحتهم النتنة المميزة ... أما
في الحرب أو بالأصح في موسم
الكذب والنفاق والمزاودات
والشعارات تراهم يشحذون قرونهم
للتناطح فيما بينهم كما تفعل
الوعلان الحقيقية في موسم
التزاوج والوعل الفائز سيحوز
على الرضى وسيتبوأ أعلى المناصب
في الغابة والخاسر سيفترسه
الأسد .
وسكت المدير وسكت
معه الرفيق النصير وهو يتخيل
رأسه كرأس الوعل معلقاً على
حائط مكتبه ثمناً لكرسي وضيع في
غابة الأسد .
- إلى الشعب
اللبناني العظيم ... إلى حزب الله
ورجال المقاومة البواسل ... لا
تراهنوا على أسود لا تجيد سوى
الهراء والزئير الفارغ في
الهواء أو وعلان لا تعرف غير
التنطح بالشعارات أو عبيد ذاقت
الأمرين من براثن الأسود وقرون
الوعلان .
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|