الندوة الدولية
حول حوار الحضارات والثقافات
دور
هيئات المجتمع المدني في تعزيز
ثقافة الحوار
وأثر
الحوار في نشر ثقافة السلام
والتعايش والتعاون
صادق
جواد سليمان*
1)
تقدمة
2) تعريف هيئات المجتمع
المدني ونشاطاتها
3) دور الحوار وطنيا في
نشاطات هيئات المجتمع المدني
4) دور الحوار دوليا في
نشاطات هيئات المجتمع المدني
5) ثقافة السلام من
خلال ثقافة الحوار
6) خاتمة
1)
تقدمة
مع
انتهاء الحرب الباردة نهاية
الثمانينات تصاعد بشكل ملحوظ
إحساس المجتمعات المعاصرة حول
ضرورة تطوير وسائل بناء السلام
وتشجيع توجهات التعايش
والتعاون، أكان ضمن الدولة
الواحدة لأجل توطيد الوفاق
الوطني ودرء صراعات أهلية، أو
ما بين الدول لتعزيز الوئام
الدولي ومنع نشوب حروب.
نما هذا الأحساس من إدراك
أوفى أن النزاعات، وطنيا أو ما
بين الدول، قلما تُنهىَ بمحض
انتصار طرف وانهزام آخر بحد
السلاح، إذا ما تركت أسباب
النزاع قائمة دون إزالة أو حل.
جاء أيضا من قناعة أن توطيد
سلام دائم يتطلب تعاملا موضوعيا
ومنصفا مع العلل الكامنة وراء
النزاع، أكانت سياسية،
اقتصادية، أجتماعية، ثقافية،
أو كانت أسبابا تتصل بإهدار
كرامة الانسان أو الإخلال
بميزان التكافؤ في حقوق
المواطنة واستحقاقاتها بين
كافة المواطنين.
ذلك أن لا صحة علميا في
الزعم بأن في طبيعة الإنسان،
كأمر فطري، ما يُغلّب فيه نزعة
التخاصم واللجوء للعنف على رغبة
التآلف والتعايش السلمي مع
الآخرين، أكان ضمن المجتمع
الواحد أو ما بين المجتمعات.
عكس ذلك، أشير بوضوح إلى
قرائن بينة ومتواترة بأن ما
يدفع للخصام واستعمال العنف هو
خلل يطرأ على العلاقات ما بين
الأفراد أو الجماعات، أو ما بين
الدول، وأن بالأخص، حيثما
يتفاقم
الخلل نتيجة استمرار أوضاع
وطنية متعسفة، أو استحكام ظروف
دولية مجحفة، يزاداد الإحساس
بالضيم فيقوى النزوع لرفع الضيم
باللجوء لأيما وسيلة متاحة، بما
في ذلك تحديدا ممارسة كفاح مسلح.
مع
نمو هذا الوعي شرعت هيئات
المجتمع المدني تأخذ على
عاتقها، على نحو متعاظم وجريئ،
مهاما كانت قبلا منوطة
بالحكومات، أو بالأحرى منوطة
شكلاً لكن موضوعا محل قليل من
الاهتمام الرسمي.
من أبرز تلك المهام دعم
السلام والتعايش والتعاون،
أكان ضمن الدولة ذاتها أو في
مضمار العلاقات ما بين الدول.
ضمن الدولة الواحدة، في
معظم بلدان العالم، ظل التركيز
في مجال حفظ الوئام الوطني،
فيما سبق، على إشهار هيبة
الدولة وهيمنتها والتأكيد على
قدرة الحكومات على تصريف الشأن
الوطني بشكل منفرد وشبه مطلق.
لا مبادرات بالإصلاح
السياسي، ولا دعوات للحوار
الوطني، ولا معالجات موضوعية
متجاوبة مع المطالب الشعبية
كانت، إلى عهد قريب، تشكل
أوليات لدى الحكومات طالما هي
ظلت واثقة من مسكتها بزمام
الوضع الوطني على نحو ممكّن لها
من الاستمرار في السلطة،
الاستفراد بالقرار، والاستئثار
بامتيازات الحكم.
بنسق مماثل، في مجرى
العلاقات الدولية ظلت سياسات
الخصام والصدام المندفعة من
حزازات الحرب الباردة تتحكم في
التخاطب والتعامل بين الدول. بذلك
عُطلت طويلا فرص مبادرات أجدى
وحوار أفسح لحل المشكلات
العالقة بين الدول.
بذلك أيضا تعثرت طويلا جهود
تخفيف وتيرة الصراع وتعوّقت
مبادرات تعزيز الوئام الدولي عن
طريق الحوار.
لكسر
هذا القيد وجلب بعد جديد فاعل
إلى مساعي دعم السلام، والدفع
بالتنمية الإنسانية بخطى أنشط
وأشمل كعامل محوري في تحقيق
الوفاق السياسي،
وطنيا وعالميا، انبرت
جماعات متكاثرة من الناس في
مختلف الدول لتنظم جهودها في
هيئات تُعنى بالقضايا التي
تهمها: كل جماعة مركزةً جهدها
على القضية التي تعنى بها بوجه
خاص. هذه الهيئات أضحت تعرف
بهيئات المجتمع المدني.
أما اهتماماتها،
فإلى جانب دعم السلام
والتعايش والتعاون، والدفع
بالتنمية الإنسانية أماما في
سائر مجالات الحياة، مع التركيز
تحديدا على محو الفقر والجهل
والمرض، اهتمت هذه الهيئات
بحقوق الإنسان، بتحقيق العدالة
الاجتماعية، بتساوي المواطنين،
ذكورا وإناثا، في حقوق
المواطنة، بحفظ البيئة،
وبصيانة وحسن استثمار الموارد
الطبيعية. من
إفراز هذا السياق، المدفوع أصلا
بوعي جماهيري متعاظم حول مركزية
هذه المهام في تطوير حياة
الشعوب للأحسن، شهدنا منذ مطلع
التسعينات تكاثرَ هيئات
المجتمع المدني المعنية بالشأن
الإنساني وطنيا وعالميا على نحو
مركز ودائب.
في المقابل، كتطور إيجابي
مصاحب، شهدنا
استعدادا متناميا
لدى الحكومات لأن تفسح المجال
أمام هيئات المجتمع المدني
للمشاركة بالاهتمام بالقضايا
الوطنية بعد إذ بدأت الحكومات
من جانبها تدرك أكثر فأكثر أنه
لم يعد باستطاعتها منفردة أن
تنجز بشكل وافٍ الاستحقاقات
الوطنية المتصاعدة، وأن
تقصيرها في الوفاء، في مناخ هذا
العصر وبمعاييره، يؤدي عاجلا أو
آجلا إلى تعكير الوئام الوطني
وإضعاف شرعية الحكم.
2)
تعريف هيئات المجتمع المدني
ونشاطاتها
عُرّفت
هيئات المجتمع المدني ابتداء،
وهي لا تزال تُعرّف مرارا،
بالهيئات غير الحكومية.
هذه تسمية وردت أصلا في
ميثاق الأمم المتحدة عام 1945 حيث
نصت المادة 71 على دور استشاري
لهيئات لا هي حكومية ولا هي
أعضاء في الأمم المتحدة، كونَها
تنشط خارج الأطر الرسمية، وتعمل
باجتهاد مستقل، خارج الالتزام
بتأييد سياسات الحكومات إلحافا
دون تمحيص. أما
تعريف " هيئة دولية غير
حكومية " فقد
ورد في قرار إكوسوك 288 عام 1950،
بصيغة "أيما
هيئة دولية غير مؤسسة بمعاهدة
دولية ".
في
جميع الأحوال، هئيات المجتمع
المدني هيئات غير ربحية، تحقق
معظم تمويلها من رسوم العضوية،
من بيع سلع وخدمات عملية
واستشارية، من إقامة مناسبات
لجمع تبرعات، ومن هبات خاصة تدر
عليها من أشخاص مناصرين لما
تقوم به من نشاطات.
ومع أنها
في بعض الأحوال أيضا تتلقى
منحا من حكومات وطنية ترى في
نشاطات هذه الهيئات ما يترادف
مع اهتماماتها ويتسق مع
توجهاتها بوجه عام، إلا أن ذلك
يجري وفق تعامل مهني بحت لا
يساوم استقلالية الهيئات.
كذا الأمر بالنسبة لمنظمات
دولية تثمن عمل هذه الهيئات
فتقدم لها منحا مقابل إنجاز
مشاريع محددة.
أما من حيث وضعها القانوني،
فهيئات المجتمع المدني
في الشرع الدولي لا تتمتع
بصفة كيانات قانونية كما تتمتع
بها الدول التي هي تنشأ وسطها
وتنشط، كل هيئة في المجال
المحدد لها في ميثاقها التأسيسي.
من
جانب آخر، تنقسم هيئات المجتمع
المدني إلى هئيات وطنية وأخرى
دولية. تقرير
للأمم المتحدة لعام 1995 قدر عدد
الهيئات الدولية بتسع وعشرين
ألف هئية، وهي اليوم لا شك أكثر
بكثير من ذلك.
أما على الصعيد الوطني
فالأعداد أكبر:
في الولايات المتحدة وحدها
هي تعد بعدة ملايين، بمثل ذلك
تعد في الهند، كما وأن أعدادها
آخذة في
التكاثر طردا في سائر الدول.
إجمالا، لا يخلو بلد اليوم
من هيئات غير حكومية تعمل في
مختلف شؤون العصر.
أبرز إنجازاتها سجلت حتى
الآن في مجالات الإغاثة
والتنمية والبيئة، إلا أن عملها
في مجالات الإصلاح السياسي،
حقوق الإنسان، المساواة بين
الذكور والإناث، ودعم السلام
والتعايش والتعاون عن طريق
الحوار قد تنشط بشكل ملحوظ خلال
العقدين الأخيرين.
ظاهرة أخرى غدت أيضا ملحوظة
أكثر من ذي قبل: تزايد التنسيق
والتعاون بين الهيئات ذات
النطاق الوطني والأخرى ذات
النطاق العالمي في مجال النشاط
المشترك بين المجموعتين.
جدير بالملاحظة هنا أن أهم
الممكنات من تيسير هذا التعاون
وتكثيفه هو سهولة التواصل
وتبادل المعلومات بفضل
التكنولوجيا الحديثة المعولمة.
أما
من حيث توصيف ما تقوم به هذه
الهيئات، فالرائج لدى أهل
الخبرة في هذا الحقل تبني تصنيف
البنك الدولي الذي يمايز بين ما
يصنف منها بهيئات عاملة وأخرى
هيئات داعية، كون الفئة الأولى
هي تلك التي تنشط في مجال تصميم
وتنفيذ مشاريع عملية، وكون
الفئة الأخرى
هي تلك المعنية بنصرة قضايا
معينة عن طريق نشر الوعي حول تلك
القضايا بسائر وسائل الإعلام
والاحتفال.
تصنيف آخر يقسمها إلى هيئات
ناشطة في التوعية وتعبئة الرأي
العام حول قضايا تهمها، وأخرى
فنية توفر خدمات استشارية،
وأخرى خيرية تقدم معونات
إنسانية، وأخرى شعبية تقيم
مشاريع محلية وتثقف الأهالي في
أساليب التعاون والتنظيم ورفع
مستوى الاعتماد على النفس.
في جميع هذه الحالات أضحى
دور هيئات المجتمع المدني، وهي
التسمية الأكثر رواجا لها في
الأدبيات المعاصرة، مشهودا على
نطاق عالمي، الأمر الذي عضد
شرعيتها وأزال كثيرا من تحفظات
الحكومات إزاءها، أكان في مجال
أعمال التنمية وحفظ البيئة
والإغاثة أو في مراقبة
الانتخابات، تسوية النزاعات،
وتوطيد ثقافة السلام عن طريق
الحوار. وقد
شجع هذا النجاح المشهود،
المقترن بتنامي الثقة ما بين
هيئات المجتمع المدني
والحكومات الوطنية، الأممَ
المتحدة على أن تكثف تعاملها مع
هيئات المجتمع المدني في ظروف
الواقع الحديث الناجم عن انتهاء
الحرب الباردة، تزايد تشابك
الاهتمامات الإنسانية عبر
العالم، وتزايد أثر العولمة في
مختلف مناحي الحياة.
أيضا، حرب الخليج الأولى،
أزمة الصومال، المذابح
الجماعية في رواندا، حرب
البوسنيا، الصراع الفلسطيني
الإسرائيلي المستمر، الأوضاع
الراهنة في العراق منذ الإطاحة
بالحكم السابق، الأوضاع في
أفغانستان منذ الإطاحة بحكم
الطالبان، وصدامات مسلحة عديدة
عبرالعالم، مدمرة ومتكررة: هذه
الأحداث وآثارها المأسوية
المتشعبة محليا وعالميا أكدت –
ولا تزال- الحاجة إلى التعاون
بين الأمم المتحدة والمنظمات
الدولية من جانب وهيئات المجتمع
المدني من الجانب الآخر، الأمر
الذي حدا بأمين عام الأمم
المتحدة، إلى تعريف دور هيئات
المجتمع المدني ليس كدور تابع
للحكومات أو ملحق بالمنظمات
الدولية، بل كدور شريك في إسعاف
ضحايا الحروب، تكثيف جهود
التنمية، وتعزيز السلام
العالمي والوفاق الوطني. وقد
ثمن السيد كوفي عنان جذرية هذا
الدور في صياغة خبرة إنسانية
موحدة مستقبلاً بقوله: إن هيئات
المجتمع المدني أخذت تمهد
الطريق نحو مجتمع مدني عالمي.
عبر
التاريخ، في مختلف المجمعات،
نلاحظ وجوداً لهيئات المجتمع
المدني على نحو أو آخر، بالأخص
كجمعيات خيرية توفر للمحتاجين
غذاء ومأوى وللمرضى رعاية صحية.
إلا أن الهئيات المدنية كما
نعرفها اليوم، بالأخص العاملة
منها على الصعيد الدولي، هي
مؤسسات حديثة: أقدمها
اللجنة الدولية للصليب
الأحمر التي تأسست بجنيف عام 1864
مسندة باتفاقية جنيف الأولي
التي منحتها صلاحية القيام عبر
العالم بحماية حياة المصابين في
حروب دولية وصراعات أهلية.
لاحقا اتفاقيات جنيف
التالية نصت على حفظية كرامة
مصابي وأسرى
الحروب فمنحت اللجنة صلاحية
زيارة أسرى الحروب لتفقد
أحوالهم وضمان معاملتهم معاملة
إنسانية. اليوم الاتحاد العالمي
لهيئات الصليب الأحمر والهلال
الأحمر ينسق بين جميع هذه
الهيئات المخولة بالعمل
الإنساني عبر العالم على أساس
عدم التمييز بين ضحايا الحروب
والكوارث الطبيعية بناء على عرق
أو دين أو منشأ وطني أو انتماء
إيديولوجي.
في
تاريخ تطور هيئات المجتمع
المدني نلاحظ مرورها عبر مراحل
ثلاث. في
المرحلة الأولى، أو بلأحرى في
الجيل الأول منها، نرى التركيز
على أعمال الإغاثة والإعاشة،
والتطبيب، غالبا في شكل مساعدات
مباشرة للمنكوبين في أوقات
الأزمات، كتوفير الغذاء
والملجأ والعلاج الصحي.
في الجيل الثاني منها نرى
التوجه إلى تقديم إعانات مدروسة
محددة تمكّن مجتمعات محلية من
توفير حاجاتها بنفسها بمشاريع
تنموية تبني من خلالها قدرات
ذاتية متنامية.
في الجيل الثالث منها، نرى
التركيز على توسيع البرامج
التنموية من النوع القابل
للاستدامة على الصعيد الوطني.
في هذه المرحلة الأخيرة نرى
الاهتمام قد تمدد من
أعمال إعاشة وإغاثة وتطبيب
آنية جراء كوارث طارئة، مرورا
بمشاريع موقعية صغيرة منمية
للاعتماد الذاتي، إلى حث
الحكومات ومساعدتها عمليا في
انتهاج سياسات داخلياً تعمم
اليسر المعيشي، تصون حقوق
الإنسان، وتعزز الوفاق الوطني
من خلال مؤسسات ديمقراطية
واضحة، وخارجياً تنمي الوئام
العالمي بحوار حضاري دافع
للتعايش السلمي والتعاون بين
الدول.
أخيرا،
من المهم التنويه، بل والتأكيد،
أن هيئات المجتمع المدني لا
تنصب نفسها خصما للحكومات، ولا
تتصرف كمنافس لها، وهي بالتأكيد
لا تعرض نفسها
كبديل عن الحكومات في تقرير
الشأن الوطني وإدارته.
ذلك أنها لا تمتلك شرعية
التمثيل، ولا أهلية التصرف
مستلقة في أداء أي عمل وطني.
دور هيئات المجتمع المدني
يتأطر في المشاركة في العمل
الوطني بوسائل البحث والتثقيف
وتبيان الخيارات وتقديم
المشورة. أما
حيث يأخذ دورها موقف النقد أو
الإعتراض على سياسة رسمية معينة
فمبعثه رؤية موضوعية لا ترى في
تلك السياسة المتبعة، أو المزمع
اتباعها، خيارا صائبا في خدمة
الصالح الوطني.
من خلال ذلك تسهم هيئات
المجتمع المدني في إثراء وتصويب
الاجتهاد الوطني فتمكّن من
بلورة سياسات أرجح وحلول أوفق
للقضايا الوطنية والإنسانية،
كل هيئة مركزةً جهدها واجتهادها
فيما تُعنى به من أمر.
ما يشفع لنشاطاتها ويولد
قبولا شعبيا لها في أداء هذا
الدور الحيوي كونُها مؤسسات غير
ربحية تعمل بمعزل عن دوافع
مصلحية شخصية أو نفوذ رسمي،
وكونُها تعمل بشفافية تجعل جيمع
معاملاتها مكشوفة للتمحيص
وعرضة للمساءلة في أي وقت من قبل
المواطنين عامة ومن قبل
المنظمات والحكومات.
في المؤدى الأخير، ما يبرر
وجود هيئات المجتمع المدني
ويكسبها ثقة لدى سائر الناس هو
ما تؤديه من عمل في وضح النهار:
عملٍ بإمكان الجميع لمس أثره
وتثمين عائد نفعه على الصالح
الوطني.
3)
دور الحوار وطنيا في نشاطات
هيئات المجتمع المدني
لدى
هيئات المجتمع المدني المعنية
تحديدا بتوطيد السلام وتعزيز
توجهات التعايش والتعاون يشكل
الحوار الوسيلة المركزية
لتحقيق أهدافها، أكان ضمن
الدولة الواحدة أو ما بين الدول.
ضمن الدولة الواحدة هي ترى
الحوار ضرورة مستديمة للحفاظ
على الوفاق الوطني، كونَ الحوار
آلية ناجعة لبلورة وفاق شعبي
حول السياسات المتبعة داخليا
وخارجيا من خلال اجتهاد وطني
ممارس على نحو شفاف، موضوعي،
ومنصف. المجتمعات
المعاصرة في غالبها متعددة
الأعراق والأديان والمذاهب،
إلى جانب كونها متعددة الرؤى
ومتشعبة المصالح والاهتمامات،
وهي لذلك ليست في غنى عن ممارسة
حوار وطني صريح، نشط، ومتواصل -
حوار يحاجج بالمنطق، يزيل
الشبهات، يعري الحقائق، يوطد
الثقة، وفي جميع الأحوال يحتكم
إلى مقتضيات الصالح العام.
في غياب حوار وطني كهذا
تنقلب التعددية في أيما مجتمع
إلى تشرذم سرعان ما يولد نزوعا
طائفيا، هو في أيسر آثاره يجهض
المجهود الوطني وفي أسوء عواقبه
يفجر صراعات
أهلية يصعب إخمادها قبل أن
تسبب دمارا
فادحا على الصعيد الوطني.
هنالك شواهد عديدة في سِيَر
المجتمعات، قديما وفي التاريخ
الحديث، حيث تعطيل الحوار
الوطني وقفل باب اجتهاد جماعي،
مؤسسي وشعبي معا، لأمد طويل،
أدى إلى تفاقم أزمات بدأت صغيرة
وانتهت حروبا أهلية منهكة.
الحوار
الوطني طبعا لا يلقى مجالا أو
متنفسا في غياب حرية التعبير.
حرية التعبير بدورها تتطلب
صحافة حرة نشطة ومنابر حوارية
مفتوحة، كما تتطلب وجود حرية
التنظم مدنيا لأجل إنجاز غرض
مشروع. هيئات
المجتمع المدني هي تنظيمات
مؤسسية معنية بإنجاز مهام وطنية
مشروعة ومفيدة: من هذه الهيئات
من يعنى بقضايا السياسة أو
الاقتصاد أو الثقافة أو التعليم
أو الصحة أو حقوق الإنسان أو حقل
حيوي آخر من حقول الشأن الوطني.
كأمر طبيعي، في جميع هذه
القضايا تتباين قناعات
المواطنين، بل ومرارا ما تتعارض
ما بينهم المصالح بحكم رؤى
نابعة من خصوصيات طائفية أو
فئوية. من
هنا أهمية الحوار الوطني كآلية
مشروعة وممارسة بشكل متواصل،
متجاوزةٍ الرؤى الضيقة إلى
منظور وطني شرح يبني ويعضد
الوفاق الوطني.
من هنا أيضا مبرر ظهور عدد
متزايد من هيئات المجتمع المدني
في عصرنا في سائر المجتمعات،
مهمتها تفعيل مثل هذا الحوار
وتيسيرُه، وتوفيرُ وسائله
وتعميمُ فرصه، أكان عَبر كتابات
أو ندوات أو برامج توعية هادفة،
أو حواراتٍ مباشرة بين الهيئات
المدنية والحكومات، بحيث تصب
هذه الفاعليات كافة آخر الأمر
في تعريض الفهم وتعميقه حول
القضايا الوطنية وبلورة إجماعٍ
أو شبه أجماع حول ما ينبغي أن
ينتهج إزاء تلك القضايا من
سياسات وتنشَدَ لها من حلول هي،
كأمر أول، تعتمد على تقييم
معرفي وموضوعي للأمور، وكأمر
أخير، تحتكم
إلى الصالح الوطني.
في
أدبيات هيئات المجتمع المدني
المعنية بتطوير الحوار الوطني
نأتي على شروح وافية للأساليب
الحوارية الأكثر تلاؤما لحل
مختلف القضايا الخلافية في
المجتمع الوطني.
مثلاً، التنبيه إلى وجود
مشاكلَ وطنيةٍ قائمةٍ أو
متفاقمة، إبرازُ ضرورة
تداركها، واقتراحُ صيغ معالجات
صائبة وناجعة لها مرارا ما يأتي
من أبحاث دُور الفكر والمعاهد
العلمية التي تُعنى بالقضايا
الوطنية وتقيّم أداء الحكومات
إزاء مختلف مهام الشأن الوطني
من خلال رصد دائب.
دُور الفكر والمعاهد
العلمية مؤسسات غير ربحية
مستقلة، وهي بذلك تندرج ضمن
هيئات المجتمع المدني.
من استنباطاتها تولد بحوث
تبتعث حوارا وطنيا تعرض فيه رؤى
متباينة، بل وأحيانا متضاربة.
في المؤدى الأخير، من خلال
مثل هذا الحوار الوطني، الممارس
عبر مختلف وسائل الإعلام، وعبر
مؤتمرات وندوات وأبحاث
ومحاضرات، ترجح قناعات تأخذ
مجراها تباعا في صياغة الخيارات
الوطنية.
مشكلات
هذا العصر آخذة في التشعب
والتعقيد يوما بعد يوم، لذا
معالجاتها تتطلب حراكا
اجتهاديا موسعا على الصعيد
الوطني ككل.
مثل هذا الاجتهاد الحرك،
المتطور بتطور المعرفة
المعاصرة في شتى الحقول،
والمستوعب خبرات مختلف مجتمعات
هذا العصر، لا يمكن أن يُركن
لنظر الحكومات وحدها، ولا هو في
واقع الأمر هكذا يُركن لدى
الدول الأكثر تقدما في العلم
والتنظيم السياسى-الاجتماعي
والإقتصاد.
عالم اليوم يتزاحم بمشكلات
لا الشعوب ولا الحكومات عهدت
مثلها في سابق الخبرات، لذا
الحاجة لاجتهاد جماعي.
وسط هذا التزاحم بالجديد
والمستجد، الصالح منه والطالح،
مبادرات هيئات المجتمع المدني
تسهم إسهاما كبيرا في تبصير
الاجتهاد الوطني نحو سياسات
أرشد وحلول أوفق.
طبعا، كلما كانت مشكلة ما
أعمق تجذرا وأكثر تعقيدا كلما
احتاج حلها إلى نفَس أطول وجهد
أكبر. لكن
المهم في جميع الحالات
ممارسة الحوار لاستنباط
أوفق الحلول وأكثرها رجاحة في
النظر الجماعي. هيئات
المجتمع المدني تؤدي دورا
جديرا، بل وحيويا، في تفعيل مثل
هذا الحوار الوطني، إنضاجه،
وإثماره. إنها
من حيث تأكيدها الدائم على
منهجيات التعايش والتعاون،
وعلى عدم التفريط بالوفاق
الوطني مطلقا، تُعنى دأبا
بمواصلة الحوار تحت جميع الظروف
لدرء اللجوء للعنف، بالأخص حين
تتعثر المساعي مكررا ويتعسر
طويلا التوصل للحلول.
في
مجال التحاور بين هيئات المجتمع
المدني والحكومات مهم جدا بناء
بواعث ثقة متبادلة وإلفة شخصية
بين المتحاورين. يُنجز
هذا باتباع منهاج حواري ودي،
منضبط، ومنظم، ومن منطلق
الإحساس بمسؤولية وطنية مشتركة
في صيانة الوفاق الوطني وخدمة
الصالح العام.
مهم أيضا اختيار أشخاص
مناسبين للتحاور ممن يتحلون
برحابة الصدر، عُرض النظر،
ووفور المعرفة بأمور وإمكانات
هذا العصر. مهم
أيضا تجنب التطرف والتعصب في
الخطاب، الابتعاد
عن التهديد والخداع، وعدم
الاستخفاف باهتمامات الطرف
الآخر . مهم
أيضا إدراك أن الحوار وسيلة
غايته حل الخلاف واستعادة
الوئام، وأنه لا يوجد بديل
لحوار وطني صريح ورصين للتوصل
لحلول عادلة ودائمة يكسب بها
الجميع. مع
عملية الحوار مهم أيضا إنماء
حسن ظن متبادل بين المتحاورين
يسعف مثابرتهم إزاء استمرار
الخلاف وتعكر الأمزجة من حين
لآخر جراء صعوبة التفاهم وتراجع
فرص الوفاق.
أدبيات هيئات المجتمع،
المدني تزخر بتوصيف آليات إنجاح
الحوار الوطني والحوار ما بين
الدول بسواء، بالأخص في
الدراسات المعنية بحل النزاعات
conflict resolution studies والتي أضحت تلقى إقبالا متزايدا ضمن مناهج
العلوم السياسية والعلاقات
الدولية التي تدرس اليوم في
الجامعات.
4)
دور الحوار عالميا في نشاطات
هيئات المجتمع المدني
كما
على الصعيد الوطني، كذا على
الصعيد الدولي أضحى الحوار أداة
مركزية في نشاطات هيئات المجتمع
المدني، بعد أذ أخذت عديد من
الدول والمنظمات الدولية توكل
إلى هذه الهيئات بشكل متزايد
مهام تتعلق بالتنمية
الإنسانية، بحقوق الإنسان،
بأعمال الإغاثة، وبحل نزاعات
محلية، طارئة أو مزمنة.
كثير من منهجيات حل
النزاعات اليوم تأتي من خبرات
هئيات المجتمع
المدني: تحديدا من خبرات
الوساطات التي تقوم بها بين
أطراف متنازعة.
في أدبيات هذه الهيئات نقرأ
تحليلا لطبيعة النزاع وطرق
التعامل معه، أحيانا بأساليب
ترمي إلى إنهاء
النزاع مباشرة، conflict resolution وأحيانا، عند تعذر التوصل للحل بشكل
مباشر، بأساليب إدارة للأزمة crisis
management على نحو
يمنع تفاقم النزاع ريثما يتبلور
من خلال حوار متواصل مدخل إلى حل
مُرض للجميع.
طبعا
لا يحل دور هيئات المجتمع
المدني محل دور الدبلوماسية
التقليدية في التعامل مع
القضايا الخلافية بين الدول،
كما لا تغني منهجياتها لحل
النزاعات عن التفاوض
الدبلوماسي.
لكن ما يُشهد له في عمل
هيئات المجتمع المدني هو نجاحها
في التمهيد للتفاوض
الدبلوماسي، بل وإثرائه بأفكار
ومنهجيات جديدة في حل النزاعات.
عديد من طلاب العلوم
السياسية والعلاقات الدولية
الطامحين إلى احتراف العمل
الدبلوماسي يدرسون مناهج
مبتكرة في استراتيجيات حل
النزاعات. في
هذه المناهج روافد وفيرة من
خبرات هيئات المجتمع المدني
العاملة ميدانيا في مجال حل
النزاعات المعاصرة.
فيها مثلا أساليب كسر
الانطباعات السليية المتبادلة
مسبقا لدى أطراف النزاع، أساليب
ترويج ثقافة السلام والتعايش،
وأساليب التعاون وإنماء بواعث
الثقة والاحترام المتبادل بين
الأطراف. فيها
معالجات استباقية لمنع نشوب
أزمات محتملة، وإجراءات تطويق
أزمات مستجدة قبل أن تستفحل.
ما أنجح عمل هيئات المجتمع
المدني في هذا كله هو انضباطها
بدور طرف
محايد، وانطلاق مساعيها - خلاف
ما تنطلق منه الدبلوماسية
التفاوضية عادة من اعتبارات
سيادية وحسابات سياسية - من
اعتبارات موضوعية ودوافع
إنسانية هدفها تحقيق حلول يكسب
بها الجميع.
مع
ذلك تبقى ملاحظات حول أداء
هئيات المجتمع المدني لا يجدر
إغفال ذكرها في هذا السياق.
من هذه الملاحظات تساؤل حول
مدى حيادية هذه الهيئات وهي كما
نعلم تنطلق من رؤى فلسفية
معينة، ولها مرارا مواقف محددة
مسبقة إزاء قضايا النزاع.
تساؤل آخر: كم نستطيع أن
نطمئن إلى سلامة الوضعية
الداخلية لهذه الهيئات من حيث
احتمال وقوعها تحت تأثير جهات
خارجية قد تملي عليها تحيزا
لجانب دون آخر: أي، كم نستطيع أن
نركن إلى صدقية أداء هيئات
المجتمع المدني بشكل مستقل،
موضوعي، ومنصف.
تساؤل حول كفاءة الأداء: أهو
من مستوى مهني جيد مدعم بخبرات
جديرة، أم هو أداء سياسي دعائي
أكثر منه موضوعي. تساؤل
حول مدى مراعاة الهيئات
الخصوصيات الثقافية للمجتمعات
التي هي تعمل في وسطها أو تسعى
لحل نزاعات بين بعض منها وبعض
آخر. لهذه
التساؤلات ما يبررها بحكم أن
هيئات المجتمع المدني ليست كلها
من صنف واحد أو مستوى مماثل.
لذا في تقييم هذه الهيئات لا
الإشادة المطلقة ولا الإدانة
المطلقة حكم منطقي: هنا أيضا،
كما في أي أمر هام، لا غنى عن
تمحيص واختبار للتحقق من سلامة
وضعية أيما هئية مدنية يراد
الانتساب لها أو دعمها أو
التعاون معها في أيما شأن وطني
أو دولي.
لهذه
الملاحظات، كما قلت، ما يبررها
كأمر منهجي، إلا أن ما يبدىَ
فيها أحيانا من حذر شديد لا
يبرره كثيرا الانطباع الأيجابي
السائد عن أداء هيئات المجتمع
المدني. حتى
الآن، المشهود بشكل غالب هو
جدارة هذه الهيئات، حياديتها،
صدق اهتمامها بالموضوعات التي
تتبناها، وأهمية إسهاماتها
وطنيا وعلى الصعيد العالمي.
وطنيا، لا يخلو بلد اليوم من
هئيات مدنية ترصد حراك أهم
مجالات التنمية الإنسانية،
كالتعليم والصحة والرعاية
الاجتماعية والقضاء والإنتاج
الاقتصادي.
إلى جانب ذلك، ما عاد بلد
يخلو من هيئات مدنية ترصد معالم
التقدم الحضاري، كما في مجالات
الإصلاح السياسي، حقوق
الإنسان، حقوق المواطنة،
وتعميم اليسر المعيشي.
عالميا، جميع المنظمات
الدولية الكبرى اليوم تعمل
بتنسيق وتعاون وثيق مع هيئات
المجتمع المدني المعنية
بموضوعات إنسانية عالمية.
كل ذلك، وطنيا وعالميا،
يترتب ويجري في إطار الاعتراف
بشرعية وأهمية دور الهيئات
المدنية في المجتمعات المعاصرة
من حيث أنه دور مكمل وأحيانا
مقوم - وليس
دورا مناوئا ولا مسايراً
ولا منافسا -
لدور الحكومات والمنظمات
الدولية.
5)
ثقافة السلام من خلال ثقافة
الحوار
في
ميثاق منظمة اليونيسكو عبارة
تقول: بما
أن الحروب تبدأ في أذهان الناس،
إذن في أذهان الناس
يجب أن تبنى دفاعات السلام.
بمعنى آخر، ثقافة السلام هي
التي تولد المنظور الذهني الذي
يرى منه المرء ضرورة التحول من
غشامة القوة الى رشاد العقل،
ومن مغبة الصراع والعنف إلى
سلامة الحوار والتعايش.
ثقافة السلام عندئذ تغدو
المناخ الذي يربو فيه عالَم
محتضن لجميع الثقافات
والحضارات، عالم متطور دأبا
للأمثل، عالم مهيئ لجميع
إمكانات الخير وصاد لجميع
إغراءات الشر، عالم مُسالم مع
نفسه ومتعاون مع بعضه: أمما
ودولا كبيرة وصغيرة.
لاستقدام
مثل هذا العالم مع حلول الألفية
الجديدة تبنت الأمم المتحدة في
آخر عام من الألفية الأخيرة -
عام 1999 - "إعلان
وبرنامج عمل لتفعيل ثقاقة
السلام".
ثقافة السلام، أو ثقافة نبذ
العنف، تقوم على الالتزام
والعمل بقيم الحرية والعدالة
والمساواة واحترام التعددية
الثقافية للأفراد وللشعوب.
قبل تبني الإعلان بعام، في
سبتمبر 1998، اقترحت إيران إشهار
العام الأول من الألفية
الجديدة، عام 2001،
عام حوار الحضارات.
جاء الاقتراح من السيد محمد
خاتمي، رئيس الجمهورية
الإسلامية حين ذاك، وجاء كأول
مبادرة عملية رادة على ما كان قد
شاع حتى ذلك الوقت من نذارة
مشؤومة بصراع الحضارات.
ليس
غريبا إذن أن هكذا تترابط
الدعوة إلى ثقافة السلام مع
الدعوة إلى ثقافة الحوار،
فتحقيق السلام لا يكون إلا من
خلال تفعيل الحوار.
الحوار هنا لا يعني مجرد بحث
آني لقضايا
خلافية عالقة، وإنما بعني
تحاورا بأعرض
مداه وأعمقه: أي تفاعلا فكريا
يلامس الخبرة الإنسانية لدى
مختلف الأمم في ألطف رؤاها
وأجدر خبراتها عبر العصور.
حوار الحضارات بهذا المعنى
يستدعي تفاعلا شاملا بين أهل
الحضارات المتحاورة: على مستوى
منه بين سائر الناس من شتى حقول
الحياة، و على مستوى آخر بين أهل
الصدارة من قادة ومفكرين وعلماء
وأدباء وأصحاب مختلف المهارات
والفنون.
الحوار
ممارسة إنسانية عريقة، من خلاله
تناقلت المعارف بين الحضارات
وتلاحقت الأفكار.
لا حضارة كبرى قامت بمعزل عن
روافد حضارات أخرى أثرت خبرتها
عن طريق تواصل وتحاور.
حيث غُيب الحوار انتكس
السلام وقامت حروب أتلفت كثيرا
من حرث ونسل، وعطلت مسيرة
التقدم الإنساني لقرون.
مع ذلك ليس الحوار سهلا،
وأصعب ما فيه استيعاب وجهة نظر
الشخص الآخر حين يأتيك الآخر من
خلفية ثقافية غريبة عليك.
لكن فهم المرء لعمومية
الحال الإنساني من وراء
التباينات الوطنية والدينية
والعرقية والثقافية
والإيديولوجية يساعد على كسر
الحاجز وإقامة الجسور.
بالتحاور يكون التجسير،
وبالتجسير تقوى صلات التعايش
والتعاون مشفوعة بحسن ظن
متبادل، ومدفوعة بطموح مشترك
إلى تحقيق عالم تظله ثقافة
السلام.
عالم
اليوم عالم اعتماد متبادل،
ومشاكل العصر لا تحل بدون تعارف
وتعاون. لا
أمة اليوم تستطيع أن تعيش في
عزلة عن سائر الأمم، ولا دولة
اليوم، كبرت أو صغرت، تستطيع أن
تدبر أمورها باستقلالية تامة،
أو أن توفر احتياجاتها باكتفاء
ذاتي. في
عالم اليوم تسري عولمة توحدت
بها أنماط العيش ونظم العمل
وقنوات التواصل ووسائل
التجارة، وترابطت بها المصالح
والمقاصد بين الناس في كل مكان.
في عالم اليوم توحدت أيضا
مناهل المعرفة ومناهجها،
فالعلوم، طبيعية أو إنسانية، هي
ذاتها التي تطور باجتهاد إنساني
مشترك وتدرس في المعاهد
والجامعات في كل بلد.
في عالم اليوم في أيما مجتمع
يتحقق تقدم وينشأ خير يغدو
تقدما ويعود خيرا للإنسانية
جمعاء، والعكس صحيح.
لذا في عالم اليوم التحاور
والتعاطي والتقابس بين
المجتمعات، مهما تنوعت
ثقافاتها، تباعدت أوطانها،
تفاوتت رؤاها الفكرية، ومهما
جرت بينها من خصومات أو صدامات
في ماضي العهود، أمر حتمي، مطلب
حيوي، وضرورة مشتركة لأجل وأد
الخصام وخلق فرص نفع متبادل.
عالمنا،
بما وصفناه، إذن يتطلب منا
عناية فائقة في إدارة علاقات
الأمم بعضها ببعض.
إنه يطالبنا بحوار حضاري
يُحل الوئامَ محل الخصام،
الوفاقَ محل الخلاف، الوفاءَ
محل الجفاء، التعاونَ محل
التنافر، التعايشَ محل الصراع.
بذلك نصنع ثقافة السلام
لتصوغ ليس العلاقات ما بين
الأمم فحسب، بل أيضا العلائق ما
بين الأفراد ضمن كل أمة ووطن.
لأجل ذلك جدير أن نعنى
بتربية الأجيال الصاعدة على
ثقافة السلام، في المنازل كما
في المدارس، كشق أصيل من ثقافة
كل مجتمع. ابتداء
تكون التربية على الاستقامة
الشخصية، التحلي بمكارم
الأخلاق، وعلى نبذ العنف
واعتماد الحوار في حل المنازعات
كتصرف إنساني قويم ونبيل.
لاحقا تكون التوعية بكرامة
الإنسان، بحقوق وواجبات
المواطنة، بالتكافؤ أمام
القانون، بقيمة التعاون بين
الأفراد كما بين الأمم، وبضرورة
التنمية الإنسانية لأجل خلق
اليسر في أرزاق الناس كافة
وتوطيد الاستقرار السياسي
وطنيا وعالميا على نحو مستدام.
خاتمه
هيئات
المجتمع المدني المعنية
بالحوار كعملية أساسية في حل
النزاعات وخلق الوئام والوفاق
وطنيا وعالميا
إذن تؤدي وظيفة هامة في دعم
ثقافة السلام، لذا هي جديرة
بالتشجيع والدعم من قبل
الحكومات والمنظمات الدولية،
كما من قبل سائر المواطنين.
ولأن الحال البشري واحد،
بمعنى أن في المؤدى الأخير ما
يصدق في حال فرد يصدق في حال
مجتمع، وما يصدق في حال أي فرد
أو مجتمع يصدق في حال سائر
الأفراد والمجتمعات، فإن ذلك
يؤكد ضرورة الحوار كوسيلة تقابس
مستنير بين الأفراد في الوطن
الواحد كما بين الأمم.
أيضا، بما
أن العوامل التي تؤثر
أيجابا أو سلبا في أحوال
الأفراد والأمم هي نفسها
بالنسبة للناس في كل زمان
ومكان، بصرف النظر عن فارق دين
أو ثقافة أو عرق أو إيديولوجية،
فإن ذلك يؤكد عقم التخاصم
والتصادم بدافع عصبيات من أي
نوع، ويجعل صلاح الأفراد
وفلاح الأمم، مهما اختلفوا،
في التعايش والتعاون في جميع
الأحوال.
طبعا
ليس هذا بكشف جديد أو بأمرٍ
يُستغرب، فلطالما أخبرت عن وحدة
الحال البشري، وعن القسط الكوني
الذي يحكمه، أدبياتُ مختلف
الأمم، أصيغت في دين أو في فكر
فلسفي. من
بين فلاسفة الإغريق، مثلا، نجد
أن سقراط وأفلاطون،
في تنظيرهما حول مسألة الأخلاق،
رأيا الحال البشري حالا
مشتركاً، وأبصرا، من وراء تعدد
خبرات الناس ومكتسباتهم، وحدةً
جوهرية من حيث قدرة الناس جميعا
على الإدراك عقلا
لما يصلح ويرقي به حالُ
الإنسان وما يفسد ويتدنى به،
فرداً ومجتمعا، أياً كان
الإنسان وأياً كانت بيئته
وخلفيته. لدى
الرومان نقرأ للأمبراطور
الفيلسوف ماركس أوريليوس
قناعته بوجود مسار واحد للناس
كافةً صعوداً
وهبوطاً على السلم الحضاري –
"مسارٍ واحد لكائنات تتماثل
جسماً وعقلا"، على حد تعبيره.
مثلَ
ذلك نرى
عند أهل الحكمة الدينية في
الهند قديماً، بشقيه الهندوسي
والبوذي، إذ قالوا بفكرة أن كل
فرد أو مجتمع يرقى أو يهبط في
إنسانيته بأثر ما
يأتي من عمل صالح أو طالح.
على مثل ذلك أيضا نعثر لدى
أهل الحكمة الأخلاقية قديما في
الصين، كما عند كنفيوشس وشيعته،
الذين ربطوا فلاح الأفراد
والمجتمعات بمدى الالتزام
بالضابط الخُلقي.
وقال المسيح
في خطبة الجبل موجزا منظومة
مكارم الأخلاق، ومؤكداً الحالَ
البشري الواحد الموجبَ للتعامل
بالمثل: في
كافة الأمور ما تود أن يعمل
الناس لأجلك اعمل لأجلهم -
تلك هي سنة الأنبياء.
أما
الاسلام فبأصالة نظره في النفس
البشرية والفطرة التي فطرت
عليها، وفي السنن الكونية
الحاكمة أمرها، نراه قد عُنى
بصلاح البشرية دون استثناء،
أفراداً وأمماً، لذا خاطب الناس
كافة بما هو بينهم أصيل وعام،
وخاطبهم بلسان نبي أرسل رحمة
للعالمين. من
خصوصيات شعوب وقبائل
حدا القرآن الحكيم البشرية
إلى عمومية حال حضاري، مذكراً
بوحدة الرب ووحدة النفس،
ومبيناً، بمحجة العقل، ما يُصلح
الإنسان وما يُفسده، ما يُجديه
نفعا وما يصيبه بضرر، ما يمكنه
من التفكير السليم الموصل له
إلى فهم سديد لحقائق الوجود،
وما يعطب عليه تفكيره فيؤدي به
إلى سوء فهم وخطل رأي.
وقد أبدى لنا القرأن
الكريم، فيما أبدى مما أودع
الله من إمكانات التآلف في
البشر، إمكانية أن نحول عدوا
إلى صديق – إلى ولي حميم - إذا
دفعنا بالتي هي أحسن بالقول
والعمل. كما أبلغنا أمرَ الله
بالعدل والإحسان، وندبَه إلى
الصفح الجميل، مذكرا بكرامة
الإنسانية على الإطلاق،
وبأكرمية الأفراد عند الله
بالتقوى. من
هدي هذه التبصرة إذن ليكن
خيارنا العمل على توطيد ثقافة
السلام والتعايش والتعاون من
خلال تفعيل ثقافة الحوار، ضمن
الأمة ومع جميع الأمم.
ولنفسحْ في ذلك دورا رائدا
لهيئات المجتمع المدني لنثري
باسهاماتها اجتهادنا الوطني،
لنوسع من خلال نشاطاتها تواصلنا
مع العالم، ولنكثف باقتباساتها
المعرفية استفادتنا من خبرات
مختلف الأمم.
*رئيس
المجلس الاستشاري لمركز الحوار
العربي، واشنطن، الولايات
المتحدة
نزوى،
سلطنة عمان: 12 – 15 أغسطس 2006
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|