العلاقة
الأمريكية السورية إلى أين؟
غموض
بناء أم مواجهة مؤجلة؟
الطاهر
إبراهيم*
ورث
العهد الجديد ،الذي بدأ مع
الرئيس بشارالأسد بعد خطاب
القسم في 17 تموز 2000 ، تركة ثقيلة
عن فترة حكم حزب البعث في عهد
والده الرئيس حافظ الأسد، حيث
كان هذا الحزب يعتمد على رصيد
سياسي وأمني مضمون الدفع من
أمريكا، بعد أن ضمن لها أن لا
يقف في وجه سياستها في المنطقة،
على كل الصعد. ولا بأس ،بعد ذلك،
لدى أمريكا، أن يظهر الحزب
عداوته لها في أجهزة إعلامه ليل
نهار، وأن يعلن تحقيق الانتصار
عليها تلو الانتصار.
وقد
بقي هذا التعاون طي الكتمان إلى
أن خرج هذا التنسيق إلى العلن
عند ما ذهب الجيش السوري ليقف
تحت راية الجيش الأمريكي ضد
الجيش العراقي في "حفر الباطن"،
عام 1991 في عهد الأسد الأب.
وقد
استمر هذا التعاون بين الطرفين،
رغم التوتر الذي ساد العلاقة
بسبب دعم سورية لحزب الله في
جنوب لبنان. وظهر إلى العلن مرة
أخرى عندما سمحت الأجهزة
الأمنية السورية لأربعين عنصرا
من عناصر أل (سي،آي،إي) أن
تستبيح حمى الوطن السوري،
بتتبعها آثار "محمد عطا"
الزعيم المزعوم لتفجيرات 11
أيلول عام2001 في مدينة حلب.
ولأن
معظم الحرس القديم الذي كان
يحيط بالرئيس حافظ الأسد قد
بقوا في مراكزهم مع الرئيس
بشار، يقدمون له المشورة، فقد
اعتقد هؤلاء المستشارون أن
الأوراق التي كان يلعب بها
النظام مع أمريكا ،فيما سبق، ما
زالت صالحة للاستعمال. وقد نسي
هؤلاء أن كل شيء تغير بعد وصول
"بوش" وأركان إدارته إلى
سدة الحكم، حيث عملت هذه
الإدارة على استغلال أحداث 11
أيلول لبسط نفوذ أمريكا على
العالم كله ،خصوصا منطقة الشرق
الأوسط. ولقد قام "المحافظون
الجدد" من صقور البنتاغون"
بتغيير قواعد اللعبة الأمريكية
في المنطقة، التي كانت تعتمد
أساسا على سياسة احتواء
الأنظمة، طالما أنها تؤدي ما هو
مطلوب منها أمريكيا.
وخوفا
من ظهور بديل محتمل للأنظمة
الحالية ،قد يباغت أميركا في
وصوله إلى الحكم بطريقة أو
بأخرى في غفلة عن أعينها، فقد
استبدلت جماعة "الصقور"في
البنتاغون سياسة احتواء
الأنظمة التي سادت المنطقة قبل
أحداث 11 أيلول من عام 2001،
واعتمدت بدلا منها سياسة "تغيير
الأنظمة". وقد اعتمدت هذه
السياسة الجديدة على تفكيك هذه
الأنظمة، لتستبدل بها أنظمة
أخرى هلامية تعتمد اعتمادا كليا
على أمريكا، بما فيه أمن قادة
هذه الأنظمة الجديدة، مثل ما هو
حاصل في أفغانستان، وكما هو
جارٍ العمل فيه حاليا مع
الحكومة المؤقتة في العراق.
هل
تكون سورية الهدف الجديد
لأمريكا؟
مع
انشغال إدارة "بوش" في
التحضير للانتخابات الرئاسية
في "نوفمبر" المقبل،
وتأجيل أي تفكير جديد للإدارة
الأمريكية في تطبيق الأنموذج
العراقي على أي من دول الجوار،
إلا أنه لا ينبغي استبعاد
تحركات من تحت الطاولة قد يهيأ
لها على نار هادئة، داخل هذه
الدولة أو تلك، بحيث يظهر وكأن
التغيير -إذا حصل- شأن داخلي،
ومن دون أي تدخل خارجي.
وبالرغم
من انخفاض وتيرة وحدة المواجهة
السياسية بين سورية وأمريكا
مؤخرا،فإن نائب وزير الخارجية
الأمريكي "ريتشارد أرميتاج"
وجه تهديدا مبطنا لسورية عندما
قال لمندوب "الحياة"يوم 6
آب "أغسطس"الجاري:"إن
الحكومة السورية لم تظهر
تجاوبا،ولم تتعلم درس العراق
وسقوط حزب البعث هناك..".وهذا
التهديد وجّه أشدّ منه"بول
وولفويتز" نائب وزير الدفاع
الأمريكي عندما قال: "إن
سورية تمثل تهديدا جديا
للولايات المتحدة في العراق ..لا
بد من التغيير..".
وقد
يحار المرء في فهم فحوى هذا
التهديد الذي تشكله سورية على
أمريكا، مع أنها لم تسجل من قبل
أي خروج فعلي على سياسة أمريكا.
ولكن هذه الحيرة ستزول، إذا
تمعنا في خطاب بوش الذي بشر
بمنطقة ديموقراطية على الطريقة
الأمريكية تمتد من طهران إلى
دمشق وربما إلى لبنان في نسختها
العراقية التي ترسخ لها حاليا
في العراق.
إن
الأجندة التي تعشش في عقل "وولفويتز"
واضحة وبسيطة، فها هي ماثلة
للأذهان في المنطقة . فكما أرسل
"برايمر" إلى العراق،
فهناك برايمر آخر "تحت الطبع"
لسورية، وبرايمر ثالث لإيران
وهلم جرا.
وبناء
على هذه النظرية المبسطة فإن
الخدمات التي كان يقايض عليها
النظام السوري مع أمريكا أصبحت
"منتهية الصلاحية"، ولم
تعد صالحة للاستعمال. ولذلك
وجدنا أنه في كل مرة كان مسئول
سوري يعلن استعداد سورية الذهاب
إلى النهاية مع أمريكا في
مكافحة الإرهاب، كنا نسمع هذا
الرمز الأمريكي أو ذاك يقول: بأن
هذا لا يكفي، وإن سورية تعرف ما
هو مطلوب منها. ما يعني أن هذا
السخاء السوري لم يصل إلى ما هو
مطلوب أمريكيا. ولقد لخص
الأستاذ "فاروق الشرع" هذا
المطلوب الأمريكي بجملة واحدة
بقوله"إن ما تطلبه إدارة بوش
فوق الطاقة والتصور".
الأوراق
السورية انتهت صلاحيتها
إن
الأوراق التي يراهن عليها سدنة
حزب البعث للمساومة عليها حاليا
مع أمريكا، كالتي ذكرها اللواء
"بهجت سليمان" في مقاله
الذي نشرته له "السفير"
البيروتية في 15 أيار من العام
الماضي،(وهذه الأوراق على سبيل
المثال لا الحصر: احتواء
المنظمات الفلسطينية العشر
التي تتخذ لها مكاتب في دمشق،
تحجيم حزب الله عند اللزوم، كسر
شوكة الحركة الإسلامية كما حصل
في ثمانينيات القرن
الماضي،المحافظة على هدوء جبهة
الجولان... وأوراق أخرى بعضها
معروف وبعضها لم تظهر إلى العلن)
هي نسخة طبق الأصل للأوراق التي
كان يناور بها الرئيس حافظ
الأسد. ومن هنا جاء الوهم الذي
وقع فيه بهجت سليمان،لأن هذه
الأوراق قد استنفدت أغراضها ولم
تعد تشبع غرور بوش. والأهم من
ذلك أن المرحلة التي يعد لها "المحافظون
الجدد" قد تجاوزت كل تلك
المعطيات وتلك الأوراق.
ومع
كل وضوح التهديد الأمريكي، فإن
معظم رموز حزب البعث السوري لا
يعتقدون أن إدارة بوش جادة في
تهديداتها، وأن ما يصدر عن رموز
هذه الإدارة، ما هو إلا "فزاعة"
لإخافة سورية كي تتوقف عن تقديم
الدعم المعنوي للشعب
الفلسطيني، وتثني دمشق عن تقديم
المساعدة للشعب العراقي.
إن
ما تريده أمريكا من سورية لن يقف
عند حد إلا بعد أن يصل بالحكم
السوري إلى الموقع الذي وقفه
"القذافي" بإعلانه "ليبيا"
بلدا مستباحا للتفتيش عن أسلحة
الدمار الشامل. وهذا ما صرح به
"كولن باول" منذ أربعة أشهر
بأن "على سورية أن تقتدي بما
فعله القذافي". وأكثر من ذلك
فإنه ،عدا عما هو مطلوب من سورية
عراقيا، فإنه مطلوب الآن من
الرئيس بشار أن يقتدي بالسادات
ويذهب إلى القدس المحتلة ،كما
صرح بذلك الرئيس الإسرائيلي"كتساف"..
.."وما في حدا أحسن من حدا".
وحتى لو ذهب إلى القدس كما فعل
السادات، فإن شارون غير مستعد
لإعادة الجولان كاملة إلى سورية.
فقد نقلت "الشرق الأوسط"
اللندنية في 20/1/2004 ، ما أعلنه
مصدر برلماني إسرائيلي من "أن
أرييل شارون حذر النواب
الإسرائيليين أمس من أن إجراء
محادثات مع دمشق يعني "في
نهاية الأمر" إعادة هضبة
الجولان السورية التي تحتلها
الدولة العبرية منذ 1967 إلى دمشق".
ومما
يؤسف له أننا ،ويوما بعد يوم،
نرى مساحة الانحسار في المواقف
السورية المعلنة تتسع، والصمود
الوطني يتلاشى. فعلى الجانب
الفلسطيني انتهى الموقف السوري
إلى "القبول بما يوافق عليه
الأخوة الفلسطينيون".واستُقبِل
رئيس الوزراء العراقي "إياد
علاوي" بالأحضان من قبل رئيس
الوزراء السوري "محمد ناجي
العطري".ولئن كان موقف دمشق
من الموضوع الفلسطيني قد أجل
المواجهة مع أمريكا إلى حين،
فإن استقبال "إياد علاوي"
في دمشق سجل تراجعا في الموقف
السوري، وهو على كل حال لن يرضي
أمريكا التي تعرف "من أين
تؤكل كتف" الأنظمة التي لا
تتمتع بتأييد شعبها.
الرئيس
السوري الدكتور بشار الأسد يدرك
تماما المأزق الذي وضع فيه. فهو
من جهة، يشعر بأن ما يطلبه منه
"الأمريكي" أفظع من أن
يستطيع الموافقة عليه. ومن جهة
أخرى، فإن الحرس القديم ،الذين
يعز عليهم أن يصبحوا خارج
اللعبة، يحذرون سرا، -ويكابرون
جهرا- من مغبة الرفض ،الذي قد
يكون نتيجته أن توضع صورهم
وأسماؤهم على أوراق "الكوتشينة"،
كما فعل بأشياعهم في العراق.
ولذلك فإنهم يدفعون باتجاه
تزيين "الموت السياسي"
خوفا من الموت الحقيقي. وربما
أشار بعضهم إلى ما كان يفعله
الرئيس حافظ الأسد الذي لم يكن
ليدع الأمور تصل إلى حافة
الهاوية، كما حصل مع قواعد حزب
العمال الكردستاني في البقاع،
عند ما أحس بالتهديد التركي
باجتياح الحدود السورية، ما
اضطره إلى إغلاق تلك القواعد
وطرد "أوجلان" من "البقاع"
في لبنان .
وخشية
من أن يصل إلى موقف يشبه موقف
أبيه من موضوع أوجلان، فإن
الرئيس بشار الأسد يفكر مليا
قبل كل جملة يقولها في لقاءاته
مع أعضاء الكونغرس الأمريكي،
وفي مقابلاته مع الصحف العربية
والعالمية.
وحتى
يخرج من هذا الاستعصاء، فهو
يلجأ إلى سياسة "الباب
الموارب" والتعابير التي
تحمل أكثر من معنى ولا تقطع
بموقف محدد.
فعلى
سبيل المثال، عندما سئل عن
موقفه من خارطة الطريق قال:نحن
مع ما يوافق عليه الفلسطينيون،
ثم يستدرك قائلا: لكن
الفلسطينيين غير مجمعين على
قبول هذه الخارطة.
وفي
الشأن العراق، قال الرئيس
السوري في حديثه الأخير للشرق
الأوسط: "نحن نقبل بما يقبل به
العراقيون لأنهم هم المعنيون
بشؤونهم قبل الجميع ويعرفون
الواقع أكثرمن الجميع .ولكن ما
لمسناه من لقاءاتنا مع مختلف
الشرائح العراقية، أنهم ضد كل
ما من شأنه أن يؤدي إلى تقسيم
العراق..".
فهل
يقبل "المحافظون الجدد" -إذا
أعيد انتخاب بوش- هذه السياسة
السورية على طريقة الباب
الموارب؟ أم أنهم ماضون في
المخطط إلى النهاية وحتى لو قبل
النظام السوري بما هو مطلوب
أمريكيا.
إن
ما قاله بوش عشية الحرب على
العراق "إننا ذاهبون إلى
العراق حتى لو تخلى صدام عن
الحكم وترك العراق..."، ليؤكد
أن طلبات إدارة بوش تتجاوز ناقة
"البسوس"إلى دم "كليب"،
وقد يكون ما خفي أعظم.
*
كاتب سوري يعيش في المنفى / عضو
مؤسس في رابطة أدباء الشام
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|