أدب
السجون في سورية
الداخل
مفقود والخارج مولود .. انجُ سعد
فقد هلك سعيد
بقلم
: خالد السمان *
أدب المهجر يشغل مساحة واسعة
في الأدب العربي الحديث ، وأدب
السجون في الوطن العربي وسورية
بالذات لا تقل المساحة التي
يشغلها عن مساحة أدب المهجر ،
ومثلما شهدنا عواطف صادقة
وحنيناً جارفاً وحباً للوطن
ولكل من فيه وما فيه ، فضلاً عن
التجديد في الأشكال والموضوعات
في أدب المهجر .. سوف نلحظ
الظواهر نفسها في أدب السجون
السورية .
الأديب السوري محمد الحسناوي
( المولود في جسر الشغور1938م) صدر
له ما لا يقل عن كتابين في أدب
السجون : الأول ديوان شعر بعنوان
( في غيابة الجب ) عن مكتبة
الأقصى – الأردن – 1968م ،
والثاني رواية بعنوان ( خطوات في
الليل ) عن دار الشفق- بيروت – 1985
.
أما ديوان الشعر فهو شعر حديث
أو ما يسمى شعر التفعيلة ، يعكس
تجربة الشاعر التي عاناها في
اعتقاله لمدة شهر واحد في سجون
المخابرات العسكرية في مدينة
حلب ، بمناسبة اعتقالات الرأي
التي جاءت على أثر الإضرابات
العامة ، احتجاجاُ على مقالة
إبراهيم خلاص ( من الحزب الحاكم )
المنشورة في مجلة (جيش الشعب )
نيسان 1967م ، تطاول فيها على
المقدسات والذات الإلهية ، ثم
أطلق سراح الشاعر مع مئات
المعتقلين الجدد والقدامى (
معتقلي قيادات حزبية منذ 1965 )
، بمناسبة هزيمة حزيران
وسقوط جبهة الجولان المنيعة ،
بعد أن اعتذر لهم محافظ حلب عبد
الغني السعداوي بقوله ليلة
الإفراج : ( باسم القيادة أعتذر
إليكم . نحن أبناء وطن واحد ،
والخطر يتهددنا الآن جميعاً ) .
وهذه بعض مرويات الحسناوي
لمعارفه ، وكتبه توثق ذلك .
أول ما يلفت النظر أن الشاعر
الحسناوي قبل سجنه هذا لم يكن
ينظم على شعر التفعيلة ، ويبدو
أن حب الحرية الذي اشتعل في صدره
على أثر تجربة السجن المرة كانت
السبب المباشر لاختياره
التعبير الحر هذا ، فكم لسجون
الرأي من فوائد! يقول في قصيدة
بعنوان ( الهواء ) : ( أنعشني
الهواء / ذكَّرني حريتي
القديمةْ /عارية ، ناجية بجلدها
/ وحيدة ..تنعم بالسكينة /
بالكلمة العذراء ../ هاربة من
أعين الجريمةْ / حيث مُدى
الجريمةْ ../ تطوف في الآفاق .. في
الأحداق/ تقتحم البيوت / تكمن
للوسواس / حيث مُدى الجريمةْ /
تمسخني والناس كالبهيمةْ / ما
أعطر الإحساس بالهواء../ لو يخرس
الخفير !)
من التجديد في الديوان غير
الالتزام بعروض شعر التفعيلة ..
ارتباط مجموعة القصائد كلها
برباط واحد هو تجربة السجن
وحدها ، من بداية الاعتقال إلى
الإفراج ، بل ظل الشاعر يحمل
عاهة السجن معه بعد الإفراج حيث
يقول في القصيدة الأخيرة ( هل
الكرات قدري ) : ( أُحسّها في زحمة
الركّاب / ينتقدون ، يشتمون
صادقين / نفسي تودّ لو تشاطر
السباب / لو تشتم الدرب
المحفَّرْ / لو تغمز الوحش
المُهندَمْ / لكنَّ شيئاً يا
حفيظْ / يفغر فاهُ من جديدْ ) .
وبقية القصائد تقص بنفس شعري
ملحمي أيام السجن وتجاربه المرة
، وعنواناتها تدل على مضموناتها
: ( تعال – إلى أين – خمس دقائق –
أسماء – العبور – ظلام – عبث –
هبوط – شيء بجيبي – تفجير – بعد
التحقيق – إذا كان – بسمة – عيد
أكبر – وردة – وراء الظل – في
الطريق – في الدرك الأسفل –
الهواء – حكمة – ليالي الجب –
هات خذ – الغرفة المجاورة –
خواطر – صفارة الإنذار – لا
تسحروا الأبصار – بُنيّ –
صباحكِ سُكَّر – قتيل الليل –
هل الكرات قدري ) ، أما أوجع
الآلام ففي القصيدة التي تصور
مشاعر السجين حين تم العدوان
الصهيوني في الخامس من حزيران ،
وحصلت الهزيمة النكسة ، والشاعر
في السجن ، فيقول : (علا نُباح
الحفنة اليهود /لم نسمع النباح
لكنِ الصدى / علا هديراً في صراخ
السادة العرب! / لقد مُنِعنا
العيشَ والصدى / ما أنكر الصدى /
والعيشَ .. بين العيش والردى . /
الضجةُ الصفراءُ تمخض المدينةْ
/ نسمعها تقرع أبواب الدهاليز
الحصينةْ / الطائراتُ في
الأحلام والمهاجعْ / الكهرباء
عُصِّبتْ عيناها / ليلَ نهارْ /
الرعبُ كذّب الدعاوى ، أسقط
الأصباغْ / ما أكذب
المذياعْ ! / أزيزه يشكّك
الأسماعْ / يُنذر بضياع الخفّ
ياحُنيَنْ / ( عاوي الكلاب لا
يعضّ / عاوي الكلاب خائر جبانْ ) /
أيتها الظنون ! / موتي ليحيا
شعبُنا المسكين/ نحن عرفنا
البدء والنهايةْ / نحن وضعنا
القيد في أرجلنا / لأننا لم
نُمهلِ الحُواةْ / لأننا صحنا
اكشفوا الأستارْ / أيتها
الظنون :/ نحن صدقنا شعبنا ، فلا
تصدِّقينا / لأجل كل حبة من
قمحنا / لأجل كل زهرة من روضنا /
كوني كما ترجو النساء ْ / كوني
كما ادّعى الدّجّالْ / وكذّبينا
/ ... أيتها الظنون : / ما أعذب
الحقيقة ! / ما أحمض الحقيقة ! ) .
أما رواية ( خطوات في الليل –
للحسناوي ) فيقول عنها الأديب
عبد الله عيسى السلامة في
المقدمة النقدية التي كتبها لها
: ( فكرة الرواية : داعية مسلم
مدرس مفكر أديب ، تنشأ في بلده
أحداث دامية بين السلطة الحاكمة
، ومجموعة معارضة للنظام ،
فتلاحقه أجهزة أمن السلطة ،
فيتوارى ، ثم يغادر بلاده
ليستقر في بلد مجاور لها ، ثم
يعتقل في هذا البلد ، ويحبس في
زنزانة لمدة ثلاثة أشهر تقريباً
.. وفي الزنزانة تتجمع في ذهنه
عناصر القصة ، وتتلاحم وتتفاعل
مع جو الزنزانة ، ليشكل الإطار
الفني العام ، في
عمومه ، وفي كثير من
خصوصياته ) ويضيف : ( الإطار
العام للتناول الفني الروائي-
الشكل الخارجي - : كتابة الرواية
على شكل مذكرات ، مؤرخة بأيام
وليال: ( النهار كذا ) .. ( الليلة
كذا ) . وعن (زمان الأحداث) يقول : (
هناك ثلاثة أزمنة ، زمنان
رئيسيان وآخر ثانوي : - الزمن
الرئيسي الأول : هو الفترة التي
قضاها : - الزمن الرئيسي الأول :
هو الفترة التي قضاها المؤلف في
السجن عام 1980م .. وهذا ىلزمن
الرئيسي الضيق هو زمن الأحداث
...- الزمن الثانوي : هو زمن كتابة
الرواية .. وقد جاء بعد خروج
المؤلف من السجن ، بحوالي خمس
سنوات ...المؤلف في السجن عام 1980م
..وهذا الزمن الضيق هو زمن تاريخ
الأحداث ... – الزمن الرئيسي
الثاني : هو حياة الكاتب برمتها
، وهي في حدود نصف قرن تقريباً ...
– الزمن الثانوي : هو زمن كتابة
الرواية ... وقد جاء بعد خروج
المؤلف من السجن ، بحوالي خمس
سنوات ...) وعن مناخ الرواية يقول
السلامة : ( هناك ثلاثة مناخات
للرواية كذلك : - مناخ الزنزانة
بكل ما فيه من أحداث ومواقف
وعلاقات ومشاعر وأفكار وضغوط
وسجانين وأخيلة وأشواق .. وهو
مناخ ضيق محدود بحدود الزنزانة
، ثم حدود المبنى العام الذي يضم
الزنزانة ..- مناخ الحياة : أي
الحياة الحرة الطليقة ، التي
كان الكاتب يحياها قبل دخوله
السجن .. بكل ما فيها من حرية
وانطلاق ، وضغط وملاحقة ،
وأعداء وأصدقاء ، وزوج وولد
وبيت ، ومدارس وجامعات ، وسياسة
وأدب ، وأحلام وذكريات ...وهذا هو
المناخ الواسع العريض ،
المترامي الحدود والأبعاد ، في
الزمان والمكان ...- مناخ التفاعل
الطريف بين المناخين السابقين :
وهو مناخ ذهني نفسي عاشه الكاتب
بالساعة واللحظة داخل زنزانته ..
فصاغ منه عالماً فنياً زاخراً
بالمفارقات والمتناقضات : حرية
أسر ، وطن اغتراب ..) ، وعن البعد
الفني يقول كاتب المقدمة : ( إن
هذه الرواية هي مدرسة بنفسها ،
إذ ليس لها – بحسب اطلاعنا
المحدود – مدرسة أدبية تنتمي
إليها من الناحية الفنية . ثمة
أسلوب مميز في مزج العناصر
الفنية ، وأسلوب مميز في عرض هذا
المزج ...إن هذه الرواية ميدان
خصب مثير ـ لتحليلات أنماط من
المحترفين والهواة ... معرفة
أحلام الداعية المسلم : أحلام
اليقظة وأحلام النوم .. ومعرفة
لأنماط من الصراعات والمفارقات
والموافقات بين أنواع من
الشرائح الاجتماعية والسياسية .
ومعرفة كيف يفكر ابن الخمسين ،
الإنسان ، والرجل ، والداعية ،
والمفكر ، والأديب ، والمنفي ،
والسجين. ثم معرفة أسلوب جديد من
أساليب الكتابة الروائية ) .
أشرنا في مطلع المقالة إلى أن
الأديب الحسناوي .. له في الأقل
كتابان في أدب السجون ، أما من
حيث الدقة فإن كل ما كتبه
الحسناوي من قصص ومسرحيات
ودراسات أدبية أو نقدية ، أو
نظمه من شعر للكبار وللأطفال
منذ خروجه منفياً من وطنه عام 1980
م حتى يومنا هذا .. يعدّ من أدب
السجون ، لأن النفي عن الوطن سجن
من نوع آخر . وبوسع السادة
القراء أن يتخيلوا مدى معاناة
المنفي ومعاناة أسرته وأولاده
وأحفاده ، المكتوب عليهم المصير
نفسه بلا ذنب ، لدرجة الحرمان من
وثائق السفر ، ومثل ذلك معاناة
الآلالف المؤلفة أمثاله من
المهجرين القسريين .
وإذا كان لابد من التخصيص
فعلى الأقل ننوه بمجموعته
القصصية التي بعنوان ( قصص راعفة
)، نشر معظمها ، والآن يعاد
نشرها في موقع ( رابطة أدباء
الشام ) الإلكتروني .
وبالمناسبة ندعو السادة
القراء والكتاب للاهتمام بأدب
السجون ، لما فيه من جماليات
وتجارب إنسانية كبيرة ، كما
ندعوهم إلى التضامن مع سجناء
الرأي أدباء وغير أدباء – وما
أكثرهم ، وما أشقى مصائرهم –
وإن مثل هذا التضامن يخفف من
آلامهم ، كما يمكن أن يكون
ضاغطاً على الطغاة للإفراج عنهم
! ويكفي أن تتصور نفسك واحداً
منهم ، أو في مكانهم ، فماذا تحس
وتشعر وتطلب وتتمنى ؟ ولا أرغب
لأحد منكم مثل هذا المصير ، لكن
من يدري كيف يدور الزمان ؟
* كاتب سوري
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|