الأجهزة
تأكل الحصرم والعمال يضرسون
بمناسبة
الأحكام بالسجن على عمال سوريين
في لبنان
بقلم
: محمد الحسناوي*
طوال نصف قرن من
التدخل والتقلب في الشأن
اللبناني كان المطلوب من
الأطراف المعنية ولاسيما
الشقيقة سورية .. رأب الصدع ،
وتعزيز الأخوة اللبنانية
السورية ، فضلاً عن إعمار لبنان
واستئنافه الصيغة اللبنانية
الفريدة ، وليس الذنب دائماً
على الطليان ، أو المواطنين
العاديين الذين انخدعوا
بالشعارات ، واكتشفوا الزيف
جهاراً نهاراً ، ورضوا بالعودة
إلى الصيغة القديمة بعد أن
اكتووا بالصيغ ( الجديدة)
المؤبدة !
مناسبة الحديث عن
الجرح اللبناني المفتوح ليس
قرار مجلس الأمن ( 1559) بإخراج
القوات السورية من لبنان ، الذي
دوّل القضية بعد أن كان شأناً
إقليمياً ، سقفه سورية عملياً ،
وما يسمى قوات الردع عربياً ،
إنما أحد جذور الأزمة ألا وهو
تدخل الأجهزة الأمنية السورية ،
وإصرارها على هذا التدخل
بتفاصيل الحياة اللبنانية
سلطوياً واستفزازياً
وابتزازياً أيضاً ، متعامية عن
الفرق بين قمع الأغلبية
المناهضة للصهيونية والإدارة
الأمريكية في سورية ، وبين شعب
لبنان الشقيق الذي يلقى
اهتماماً مشروعاً وغير مشروع من
الأطراف الدولية ، يزداد مع
ازدياد التطبيقات الجديدة
لخرائط الشرق الكبير .
نظام الحكم
السوري هو نظام حكم حزب قومي ،
لكن ممارساته غير قومية بدءاً
من لبنان وانتهاء
به ، وهذا أحد وجوه المفارقة
والمأساة ، وسبب رئيس في تفاقم
الوضع السوري واللبناني
والعربي . فإذا لم يستطع هذا
الحزب توحيد قطرين يحكمهما (سابقاً
) الحزب نفسه ، فعلى الأقل أن لا
يُنفّر الجار الشقيق المتميز
لبنان من هذه الأخوة ، فضلاً عن
أن يكسبه بالحسنى ، لا بالقمع
ونهب الخيرات وتهجير السكان .
يبدو أن هذه النصائح المخلصة
فات أوانها في المسألة السورية
اللبنانية بعد تدويلها ، ونخشى
أن يفوت الأوان للإنقاذ السوري
المنشود أيضا !!
دعونا بالمناسبة
نحلل الواقعة الأخيرة : المحكمة
العسكرية اللبنانية تصدر
أحكامها بالسجن على 19 عاملاً
سورياً ، متهمين بالاعتداء على
رجال الأمن بالعنف والشدة
والتظاهر وإثارة الشغب
والتخريب ، وذلك على خلفية
عمليات تحرش واعتداء ، تعرض لها
بعض السوريين انتقاماً لمقتل
المغدور بيار عفارة في محلة برج
حمود ، على يد مواطن كردي سوري
قبل أسبوع تقريباً ) ( الشرق
الأوسط 23/9/2004 ) .
ظاهر الأمر أن
الجريمة جنائية ، فاتخذ القضاء
مجراه ، في الحكم بالسجن ثلاث
سنوات على تسعة متهمين ، وشهرين
على أربعة ، وعشرين يوماً على
البقية وهم خمسة . وباطن الواقعة
بل جذورها سياسية محضة . حين
تكون الجريمة جنائية ينتهي
أمرها ، أما إذا كانت ذات جذور
أو طبيعة سياسية ، فهي (دُمّل) أو
(خُراج) قابل للتكرار بل التفاقم
، والمعلوم أن مسألة العمال
السوريين في لبنان ، لها
مضاعفاتها العنفية المتكررة :
من حوادث تفجير ، وقتل ،
ومصادمات ، وتعميق للاختناقات
السورية اللبنانية على مختلف
المستويات . والواقعة المؤسفة
التي نحن بصددها ليست الأولى
والأخرى من نوعها ، بل هو مسلسل
، يطل برأسه بين حين وآخر .
نعيد إلى الأذهان
البحوث والندوات اللبنانية
التي خصصت لموضوع العمال
السوريين في لبنان ، وأثرها على
هجرة المواطنين اللبنانيين أو
الأمن اللبناني ، أو العلاقة
الأخوية بين الشعبين الشقيقين
بل التوءمين . فذهب بعض الدارسين
اللبنانيين إلى تقدير عدد
العمال السوريين بمليون ونصف
المليون نسمة استناداً إلى
سجلات الحدود ( محاضرة بعنوان :
الاتفاقات الاجتماعية
وانعكاساتها الديموغرافية في
العلاقات اللبنانية – السورية
، محاولة تقويمية ، قدمها
الدكتور بسام الهاشم أثناء
انعقاد المؤتمر الوطني عن
العلاقات السورية – اللبنانية
، برعاية الحركة الثقافية في
انطلياس بتاريخ 14-15/11/2000م) ، وردّ
عليهم بعض الدارسين السوريين
بأنهم لا يزيدون عن نصف هذا
الرقم ، لأن قسماً من العمال ،
عملهم موسمي أو يومي أو يعودون
بعد إنجاز ما جاؤوا من أجله أو
في الأعياد ، يدخلون ويخرجون (
تقدير العمال السوريين في لبنان
بمليون ونصف ..بحث سياسي عن رقم
ذهبي – لمحمد علي الأتاسي –
جريدة الحياة 18/4/2001م) . كما ذكرت
الدراسات أن الأعمال التي يقوم
بها السوريون غالباً هي الأعمال
التي يرفض العمال اللبنانيون
القيام بها ، لمشقتها كأعمال
البناء والزراعة ، أو يأنفون من
عملها كالخدمات والكناسة
والنواطير وما
شاكلها . وذكرت أن العامل
السوري ينافس اللبناني بأجره
المحدود ، وطواعيته .
والسؤال : لماذا
يضطر العامل السوري إلى هجر
حقله أو مصنعه ، وترك أمه وأبيه
، أو أولاده وزوجته ليعمل
مغترباً في غير بلده ، وفي ظروف
قاسية أو جاسية ، ويقبل بالأجر
المحدود ، والعمل
الوسخ ؟ ولماذا بلغ هذا
العدد الضخم من العمال ، وظهرت
الحساسيات مع الأشقاء
اللبنانيين والوصول إلى حدّ
المصادمات ، وارتكاب الجرائم
الجنائية المتبادلة ، ولم يعرف
ذلك من قبل إلا منذ دخول القوات
السورية إلى لبنان ؟
الجواب البسيط :
أن العامل السوري يعاني من
البطالة داخل سورية ( %30 من اليد
العاملة . كل عام ربع مليون عامل
يضاف على قطاع العاطلين ) ،
وارتفاع مستوى الأسعار ،
وانخفاض قيمة الليرة السورية ،
وأنواعاً من الاضطهاد الفئوي أو
الأمني أو العنصري ، أو من مجموع
ذلك وغيره وأمثاله ، فنص
الدستور والمادة رقم 8 يشرع
التمييز بين المواطن الحزبي
وغير الحزبي : وابن الست وابن
الجارية ، وفي الممارسة اليومية
يأتي التطبيق أقسى وأشدّ حين ،
يُعضد أو يُنفذ بوسائل أجهزة
القمع الخمسة عشر الحضارية جداً
: القبول بالجامعات ، البعثات
الدراسية ، فرص العمل ، مزايا
العمل الحزبي والمؤسسات
المشتقة منه ، اتحاد شبيبة
الثورة ، الاتحاد الطلابي ،
المليشيات المسلحة ، الحرس
الجمهوري ، الوحدات الخاصة ،
سرايا الدفاع ، وأخيراً لا
آخراً النخبة المتنفذة في مفاصل
الأجهزة السيادية في الدولة .
والهجرة إلى لبنان الشقيق أقرب
وطعامها أطيب . أما المهاجرون
القسريون إلى دول الخليج العربي
، وبقية أرجاء المعمورة ،
لاسيما بعد أحداث الثمانينات من
القرن المنصرم ، فقدّر عددهم
بالملايين ، وبعضهم ، جعل حجمهم
يساوي حجم الباقي من المواطنين (
المستكينين) للأقدار !
لقد شخص
الأكاديمي الاقتصادي السوري
الدكتور عارف دليلة أزمة
المأساة الاقتصادية بأن %5 من
المواطنين يستولون على مانسبته
%80 من الدخل السوري ، وأن ما ينفق
من مال مهدور على سيارات
المسؤولين وأسرهم وأزلامهم من
الأموال العامة في السنة
الواحدة ، يكفي لرفع رواتب
موظفي الدولة خمس عشرة سنة ،
فكان جزاؤه المحاكمة الصورية
أمام محكمة عسكرية ، والحكم
بسجنه عشر سنوات ، بعد الاعتداء
عليه وتسريحه ، وإهمال معالجة
أمراضه الصحية . أما البرلماني
السوري ...حمصي ، فقد تصدى لأحد
المليارديرات الجدد ابن خال
الرئيس فادي مخلوف في صفقة
الخليوي ، التي كلفت خزينة
الدولة مئات الملايين من
الدولارات ، ودفع ثمن ذلك منصبه
، وحوكم أيضاً وحكم عليه بضع
سنوات من السجن برغم اعتلال
صحته . أما أخو الرئيس رفعت الذي
شارك في صفقة نفق بحر المانش مع
حكومتي فرنسة وبريطانية ، ونفذ
مجزرة تدمر الكارثية في
الثمانينات ، فهو ما يزال يسرح
ويمرح في مرابع ماربيا الخيالية
آمناً مطمئناً ( صحته حديد) كما
يفيد ! فماذا يستطيع العامل
السوري أن يفعل غير الهجرة ...أو
الانخراط في
(الإرهاب ) ؟ أو ممارسة
النوعين في لبنان المفتوح الجرح
...
هذا هو الوجه
الأول من مأساة العامل السوري
في مسقط رأسه ، أما وجهها الثاني
فهو في الأرض اللبنانية ، حيث
الغربة والتقشف ، والسكن القميء
المزدحم إن وجد ، والأجر الزهيد
،وانتفاء التأمين الاجتماعي أو
الصحي والتعويض عن إصابات العمل
، أوالخضوع للابتزاز الأمني من
الأجهزة الأمنية السورية ..بدءاً
بالتجسس ، مروراً بزراعة الحشيش
في مزارع البقاع وغيرها ،
انتهاء في عصابات السلب
والإتاوات
بأنواعها .
في تفاصيل
الواقعة الأخيرة ( في برج حمود )
جاء ما يلي : ( ثلاثة من زملائكم
العمال دخلوا اليوم منطقة برج
حمود ليجمعوا النفايات منها ،
فاعترضتهم مجموعة من
اللبنانيين ، وقصت أذن واحد
منهم وكسرت رجل الثاني . وكان
للنبأ وقع الصاعقة على عمال
سيوكلين الذين انتفضوا ، وخرجوا
إلى الطريق العام ، يطلبون
الثار ، وما إن قطعوا الطريق ،
ووصلت أخبارهم إلى القوى
الأمنية حتى وصلت مجموعة
المؤازرة من عمال سوريين ، تردد
أنهم أتوا من صيدا ومناطق أخرى .
مع وصول القوات الأمنية إلى
المكان كان التجمع العمالي بدأ
يأخذ شكل تظاهرة احتجاجية مع
نزع العمال ملابسهم الفوقية ،
وترديد شعارات سياسية من قبيل (
بدنا الجيش السوري وبس ) ( بشار
وبس ) ( وبالروح بالدم نفديك يا
بشار ) ( سوريا سوريا سوريا ) ...(
جريدة النهار 20/9/2004 ) .
من يصدق أن
المواطن السوري الكردي ،
المحروم من الجنسية السورية ومن
حقوق المواطنة الدنيا في مسقط
رأسه غرب سورية القامشلي ، و
يهتف بسقوط الرئيس بشار والنظام
السوري ، يضطر إلى الهتاف باسم
بشار و النظام السوري شرقاً في
الأرض اللبنانية ؟ وفوق ذلك
يرتكب جناية قتل ، ويحكم عليه
بالسجن ؟ إنها صناعة (سورية) كما
يقال : بامتياز .
الإدارة
الأمريكية تقول للنظام السوري :
إما أن تكون كنظام صدام حسين
وطالبان أو أن تكون كنظام
القذافي ومشرّف . والنظام
السوري يقول للمواطن السوري :
إما أن تكون حزبياً عميلا أو
سجينا أو شريدأً أو قتيلاً .
إنها العقلية الأمنية التي
تتلبس العالم من راسه إلى أساسه
!! فبؤسى لهذا العالم .
*
كاتب سوري
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|