أبعد
من مجرد إمامة امرأة لصلاة
مختلطة وخطبة جمعة..
بل
هو منهج لنقض الإسلام عروة عروة
أسامة
أبو ارشيد*
يخطأ
من يظن أن الزوبعة التي أثارتها
الدكتورة آمنة ودود وجماعتها،
حول حق المرأة في إمامة الصلاة
المختلطة، بشكل عام، وإمامة
الجمعة، بشكل خاص، إنما تندرج
فقط ضمن مطالبات بعض التيارات
النسوية والعلمانية بمساواة
المرأة بالرجل، أو كما عبرت عنه
ودود نفسها بالقول: هدفي هو "إعادة
المساواة وإعادة الدين
الإسلامي إلى مبدئه الرئيس وهو
المساواة".. فالقضية أبعد من
ذلك، إذ أنها تندرج في سياق نقض
عرى الإسلام عروة عروة، كما حذر
رسول الله صلى الله عليه وسلم،
في الحديث الذي يرويه أبي أمامة
الباهلي رضي الله عنه: "لتنقضن
عرى الإسلام عُرْوة عُروة،
فكلَّما انْتَقَضَتْ عروة،
تشبّث الناس بالتي تليها،
وأولهن نقضاً الحكم، وآخرهن
الصلاة"، (رواه ابن حنبل في
مسنده، وابن حبان في صحيحه،
والحاكم في المستدرك).
ويخطأ
من يظن أيضا أن ودود ومن حولها
معنيون فعلا بوجود سند فقهي
وتاريخي لدعوتهم غير المسبوقة،
فالقضية بالنسبة لهم، وجد
الدليل أم لم يوجد تحصيل حاصل،
وهي وجماعتها كانوا مصرين على
خطوة التحدي هذه، بل أبعد من
ذلك، وجدنا أن منظمي الصلاة
يصرون على أن تكون المرأة التي
تنادي للصلاة (ترفع الأذان)
حاسرة الرأس، والهدف طبعا لا
يخفى على أي لبيب، فالقضية ليست
قضية إمامة صلاة وخطبة جمعة،
بقدر ما هي سياق من كسر المحرمات
وإحداث صدمة عنيفة لوعي المسلم
الأمريكي، ليسهل بعد ذلك تجريعه
قضايا أخرى، لعله سيكون منها
يوما زواج المثليين. وفقط
للتذكير فإن هناك جماعة تدعي
الإسلام في أمريكا، تطلق على
نفسها "جماعة يوسف" وتروس
موقعها الإلكتروني الهابط
بآيات من سورة يوسف، تلمح إلى أن
سيدنا يوسف عليه الصلاة
والسلام، كان والعياذ بالله،
شاذا جنسيا، ومن ثمّ فإن هذه
الجماعة تريد غطاء شرعيا مزعوما
لجنوحها.
وأنا
في هذا المقام لا يعنيني ودود
ومن حولها، فهم مهما فعلوا
فإنهم يبقون فئة معزولة منبوذة
داخل جسد الجالية المسلمة
الأمريكية، فضلا عن جسد هذه
الأمة الإسلامية. وشخصيا فأنا
لست خائفا أو متوترا من خطوة هذه
المرأة ومن يقف ورائها لأن الله
عز وجل يعلمنا "فَأَمَّا
الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً
وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ
النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي
الْأَرْضِ"، (الرعد: 17). إذن
أين الخطورة؟ إن الخطورة ليست
في دعوة ودود والقلة القليلة
المنبوذة التي حولها، ولا هي
تكمن في أحشائها، بقدر ما أنها
تكمن في بعض ممن استحفظوا على
الذكر من أئمتنا وفقهائنا هنا
في الولايات المتحدة. صحيح أن
أغلب أئمتنا وفقهائنا، إن لم
يكونوا كلهم، وقفوا وقفة مشرفة..
وقفة من أوتي العلم دفاعا عن
حرمات الله عز وجل، فكانوا لنا
فخرا ونبراسا نقتدي ونهتدي بهم،
ولكني أخشى ما أخشاه هو ذلك
الباب المشرع الذي لا يحسب حساب
العقابيل والمآلات، ولا يرى
خلفيات المواقف وأبعادها،
والقادم من قبل بعض أئمتنا
وفقهائنا الذين نحترمهم
ونقدرهم. مرة أخرى أحب أن أذكر
أن ودود ومن حولها لا يعنيهم
أبدا أن القرآن والسنة قد أباحا
أو قد حرما، فالقضية بالنسبة
لهم أبعد من ذلك، إنها قضية نهج
لقلب الإسلام من داخله، ولكن
أنَّا لهم هذا!. أقول إن مصدر
الخطر قادم من قبل بعض قليل من
أئمتنا وفقهائنا هنا في
الولايات المتحدة، والذين لا
نشكك في دينهم وتقواهم وعلمهم،
ولكننا نتخوف من إدراكهم للأمور
ومآلاتها. إنه لمن المؤسف حقا أن
نجد بعضا من أئمتنا وفقهائنا من
يعيي نفسه في البحث عن كل رأي
شريد، وطريد، وشاذ، و"منخنق"،
و"موقوذ"، و"مترد"، و"منطوح"،
لتبرير هذه الخطوة التي لها ما
بعدها في ذهن القائمين عليها.
صحيح أن هؤلاء الفقهاء أبدوا
امتعاضهم من خطوة ودود هذه،
ولكن مجرد البحث عن رأي فقهي
يؤيد فعلتها ويؤصله، هو نصر لها
ولجماعتها. إنه مكسب لهم
لإخراجهم من عفن الظلمة إلى
فسحة النور. إنها هدية مجانية
يقدمها بعض أهل العلم الجادين
المجدين لأناس لم يرهقوا أنفسهم
أصلا في البحث في خفايا وكواليس
ومجاهل وكهوف الآراء الشاذة في
تراثنا الفقهي. وبالمناسبة،
فإنه حتى غياب الرأي الشاذ
المؤيد لفعلتهم لن يردعهم،
فلماذا إذن نوفر لهم حجة أو رأيا
ليتكئوا عليه!؟ أليس من الغريب
أن يجمع فقهاء المشرق الإسلامي
من أقصاه إلى أقصاه على إدانة
ورفض خطوة ودود وجماعتها هذه،
وأن يقدموا لنا رزما من الفتاوى
المؤصلة التي لا نجد في ثناياها
أي مدخل أو مبرر، حتى ولو قلَّ،
لفعلة ودود وجماعتها، في حين
يجد بعض-قليل-من أئمتنا هنا بعض
الآراء الشاذة ويكرروها أمام
مسامعنا!؟. أنا لا أقول أنهم
تبنوا أو يتبنون هذه الآراء
الشاذة، ولكن مجرد التوكؤ على
رأي شاذ أو ذكره، يعد خطيئة بحد
ذاته في هذا الوقت.
فليسمح
لي بعض أهل العلم في أمريكا
والذين كانت إدانتهم مواربة أو
غير قاطعة أن أقول: عندما تصل
الأمور إلى العبادات والقطعيات
والثوابت.. عندما تصل الأمور إلى
المعلوم من الدين بالضرورة..
عندما تصل الأمور إلى ما توافقت
عليه الأمة عبر قرونها
وأجيالها، فإنه لا مجال
للأعذار، ولا مجال للمساومات.
عندما تأتي القضية إلى هوية
الأمة وكينونتها وحقيقة دينها
تهون الحياة نفسها. فلا سجن
يخيف، ولا تهميش يهم، ولا حملة
إعلامية تعني أي شيء، ولا إلصاق
تهم التحجر والتقوقع والتطرف
يصبح لها أي معنى.. إن الخوف من
الله فوق الخوف من سلطان
السياسة أو الأمن أو الإعلام.
ولا أراني أجد المسلم مضطرا أن
يشرح للعالم حقيقة كون عباداته
توقيفية. وأحب أن أذكر هنا أن
الدستور الأمريكي ينص على أن
الدولة لا تتدخل في أمور الدين،
ومن ثمَّ فإن من حقنا كمسلمين
أمريكيين أن نمارس شعائرنا كما
نؤمن أنا أمرنا بها من ربنا عز
وعلى.
إحدى
القضايا التي تغيظني كمسلم من
أبناء هذه الجالية له الحق
بالتذمر والشكوى والمراجعة، هو
أن بعضا من أئمتنا وفقهائنا
وناشطينا هنا، ينجرون بسهولة
إلى فخاخ ينصبها لهم من لا يحبهم
ولا يحب دينهم ولا رسالتهم،
وممن لا يعنيهم أصلا إن كان ثمة
تفسير منطقي للقضية (الفخ) محل
النقاش أم لا. أقول ينجر هؤلاء
إلى محاولات لتبرير قضايا فقهية
أو تاريخية، بل إن بعضا منها
تكون ممارسات للحبيب المصطفى
صلى الله عليه وسلم. من هذه
القضايا قضية زواج النبي صلى
الله عليه وسلم من عائشة رضي
الله عنها، وهي طفلة كما
يقولون، موحين أو معلنين أن
رسول الله انتهك طفولتها،
والعياذ بالله. أنا طبعا لا
أتكلم هنا عن سؤال الإنسان
العادي الذي يسأل للاستفسار
والتعلم، ولكنني أتحدث عن أولئك
الذين يسوقون هذه القصص بهدف
تشويه الإسلام ونبيه وأتباعه،
والذين للأسف يسقط كثير من
أئمتنا وناشطينا في حبائلهم في
محاولات التبرير التي لن تغني
شيئا. فبعضهم، يسعى إلى تكذيب
كتب السيرة والتاريخ والتشكيك
في دقتها بالنسبة لعمر عائشة
عند الزواج، وبعضهم الآخر يسعى
لتقديم تفسيرات بيولوجية لحالة
السيدة عائشة رضي الله عنها
فسيولوجيا.. الخ.. وكأنه مطلوب
مني كمسلم أن أقدم تبريرا أو
اعتذارا عن كل فعل أو ممارسة قام
بها خير البشرية محمد صلى الله
عليه وسلم. أنا لا أفهم، لماذا
ينبغي علي أن أبرر لحاقدين على
الإسلام ونبيه وأهله من أمثال
بات روبرتس وجيري فالويل وبيلي
غرام..الخ؟ لماذا لا يقدمون لي
هم أنفسهم تبريرات علمية
ومنطقية ومقنعة عن كيفية
ملابسات أبوة الله عز وجل لعيسى
عليه السلام، كما يعتقدون، وكيف
تحصل الأبوة من قبل الله،
والأمومة من ناحية مريم!؟ لماذا
علي أن أقدم لهم تبريرا لماذا لا
تؤم المرأة الصلاة المختلطة
عندنا، ولا يريد هو أن يقدم لي
تبريرا لماذا لا يكون بابا
الفاتيكان امرأة؟ لماذا علي أن
أبرر زواج الرسول عليه الصلاة
والسلام بأكثر من واحدة وغيري
ليس مضطرا لتبرير زعمه بأن لوطا
عليه الصلاة السلام ولج في
بناته بعد أن أسكروه!؟ لماذا علي
أنا المسلم أن أكون في موقع
الضعف والدفاع وغيري في موقع
النقد والهجوم!؟ إن هذا غيض من
فيض، ولا ينبغي لأئمتنا
وفقهائنا وناشطينا هنا أن
يغفلوا هذه الأمور، مع ضرورة
الاستدراك مرة أخرى، أنني أتحدث
بهذا المنطق مع من يهدف للمس
بالإسلام والانتقاص منه ببينة
ويغير بينة، لا في الحديث
ومحاورة من يسأل ويجادل يريد
حقا وحقيقية.
مرة
أخرى أعود وأقول: خطوة ودود ومن
حولها، لا تندرج في إطار البحث
عن مساواة يزعم أنها ضائعة في
الفضاء الإسلامي، كلا، فالقضية
أبعد من ذلك، إنها عروة تنقض،
لتتبعها عرى أخرى، إن سمحنا
لهذا الأمر أن يمر وبحثنا له عن
مبررات وحجج. ولا أحب أن اختم
هنا دون تسجيل استدراكين. الأول:
إن وهنَّ مبررات ودود وجماعتها،
لا يعني أنه لا توجد مشكلة في
تصورنا لوضعية المرأة كمسلمين،
ولكن المشكلة لا تنحصر من
ناحية، وهذا هو الأهم، في قيم
الإسلام وتعاليمه وأحكامه،
بقدر ما أنها تنحصر في أعراف
الناس وتقاليدهم، والتي هي
تضييق لواسع فسحه الإسلام في
شأن المرأة. ومن ناحية أخرى، فإن
إشكالية المرأة المسلمة في سياق
الأعراف والتقاليد السائدة
المناقضة في كثير من جوانبها
لفسحة الإسلام ورحمته، لا تتمثل
في إمامة الصلاة المختلطة، فهذه
قضية عباداتية توقيفية، ليس
للرجل ولا للمرأة رأي فيها. أما
الاستدراك الثاني، فيتمثل في
موقفنا من ودود ومن حولها، ومن
سيبرز غدا لينتقص من هذا الدين
أيضا، فهذه أصبحت موضة العصر،
ومتطلب أولي من متطلبات رضى
الآخر عنا، ولعلها من مفارقات
القدر أن تعلن أستراليا في خضم
هذه المعمعة أنها ستقبل لجوء
بعضا ممن ردتهم عن سواحلها من
المسلمين، بعد أن تنكروا
للإسلام ونكصوا ظهورهم له.
أقول، في قضية موقفنا من ودود
أنها ينبغي أن تنحصر في توضيح
حكم الإسلام في هذه المسألة
وتحذير الناس من أن يضل بهم
الطريق أو أن يقودهم الهوى، أما
هي وجماعتها فليستمروا بما
يؤمنون به، فإنهم قاضون
والإسلام باق، وغدا يندثرون
وحدهم كما اندثرت من قبلهم أمم
بأكملها، دع عنك جماعات وفرق
ضالة حادت عن طريق الله، وإن كنا
نسأل الله لها ولجماعتها
الهداية.
وكلمة
أخيرة لعلمائنا وأئمتنا
وناشطينا هنا في الولايات
المتحدة، لا تخلطوا بين ضعفنا
واستضعافنا كجالية مسلمة
أمريكية، وبين حالة الأمة ككل،
وفوق ذلك كله حالة الإسلام.
فالأمة أكبر من ثمانية مليون
مسلم أمريكي، والإسلام أكبر من
قرابة مليار ونصف إنسان إذا ما
تعلقت القضية بثابت من ثوابت
هذا الدين. الإسلام لا ينبغي أن
يكون رهينة لظروف أي أحد.. ونحن
لسنا بحاجة إلى فقه تبريري
ذرائعي اعتذاري. إنه لأمر مؤلم
ذلك الحال الذي وصل إليه بعض
أئمتنا وفقهائنا هنا في أمريكا
بعد كارثة الحادي عشر من أيلول/سبتمبر
2001، فبعضهم جعل من التنازلات
ديدنه، كحال ذلك المفكر
الإسلامي المعروف، صاحب الكتب
الكثيرة، والذي أطل علينا قبل
أشهر عبر فضائية الجزيرة في
برنامج "من واشنطن"، ليزعم
تعقيبا على فيلم آلام المسيح
لميل غيبسون، أن المسيح عيسى
عليه الصلاة والسلام قد صلب! في
حين أن رب العزة جلَّّ وعلى يقول
في محكم التنزيل: "وَقَوْلِهِمْ
إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ
عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ
اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا
صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ
لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ
اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ
مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ
عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ
الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ
يَقِينًا"، (النساء: 157). وها
هو يطل علينا هو نفسه مرة أخرى،
ومن ذات البرنامج، ليجد لجماعة
ودود العذر والسند الفقهي!.
فلنتق الله في هذا
الدين، وأنتم يا أئمتنا
وعلمائنا، فلتتقوا الله بما
استحفظكم عليه من علم وأمانة،
فأنتم ورثة الأنبياء، وقناديل
الهدى التي تضيء لنا الطريق
ونهتدي بها. إن هذا المقال ليس
اتهاما لأحد، ولا يزعم أن أحدا
من أئمتنا وفقهائنا هنا في
الولايات المتحدة قد تورط في
هذه القضية، ولكنها دعوة للتبصر
والتفكر في مآلات وطرائق طرح
آرائهم. والله من وراء القصد وهو
الهادي إلى سواء السبيل.
*
رئيس تحرير صحيفة الميزان-واشنطن
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|