غازي
كنعان:
وزير
غامض وأجندة صعبة
الطاهر
إبراهيم*
كتب احد صحافيي جريدة النهار
البيروتية مرة، معلقا على نقل
اللواء غازي كنعان من لبنان الى
رئاسة جهاز الامن السياسي في
سوريا: في لبنان لا يقال: هل هناك
من لا يعرف غازي كنعان؟ بل الاصح
ان يقال هل هناك لبناني لا يعرفه
غازي كنعان؟ .
ومع ان جهاز الامن السياسي هو
اقدم الاجهزة الامنية في سوريا،
وكان ولا يزال يسمى الشعبة
السياسية تذكيرا بأنه وارث
المكتب الثاني في عهد عبد
الحميد السراج ، الا ان هذا
الجهاز فقد اهميته لمصلحة
الاجهزة الامنية الكثيرة التي
تم استحداثها منذ آذار 1963 ليبلغ
عددها اكثر من سبعة عشر جهازا.
اخذ كل منها اهميته من اهمية
الشخص الذي من اجله انشئ هذا
الجهاز ليكون رئيسا له.
وقد تم تسريب الكثير من الاخبار
عند نقل اللواء كنعان من رئيس
لفرع الامن والاستطلاع للقوات
السورية العاملة في لبنان الى
جهاز الامن السياسي. فقد قيل انه
اشترط ان يكون لجهازه كل ما كان
له قبل انقلاب آذار 1963. وايا
كانت الحقيقة فان اللواء كنعان
قام بنفض الغبار المتراكم على
هذا الجهاز طوال اربعة عقود،
واعاد له الكثير مما سلبته منه
الاجهزة الاخرى من صلاحيات،
تتعلق بما يندرج في نطاق عمل
وزارة الداخلية.
ولعل الحادثة الاشهر التي تذكر
في هذا المجال هي قيام رجال
الامن السياسي، بعدما ترأسه
كنعان قبل عامين، باعتقال مندوب
احدى الصحف العربية المهاجرة في
دمشق، بعد نشره خبرا مفاده ان
السلطات السورية تهيئ على
الحدود الشرقية اماكن ايواء
لعراقيين، يتوقع ان يهربوا من
العراق اثناء الاجتياح
الاميركي القريب، مع ان الذي
سرب الخبر لهذا الصحافي المسكين
هو جهاز امن سوري آخر.
ولم يكن جهاز الامن السياسي قبل
كنعان، الوحيد الذي خسر كثيرا
من صلاحياته. فوزارة الداخلية
نفسها تقلصت صلاحياتها كثيرا
على مدى اكثر من اربعة عقود،
بعدما قضمت اجهزة الامن
المختلفة الكثير منها، حتى غدت
معظم ادارات هذه الوزارة هياكل
من دون مضمون. فادارة الهجرة
والجوازات كاحدى اهم تلك
الادارات، والتي تقوم باصدار
جوازات السفر كما يدل على ذلك
اسمها، تقلصت مهمتها حتى انحصرت
في كتابة جوازات السفر بعد
الحصول على الموافقة الامنية من
جهاز الامن العسكري.
اجهزة امنية كثيرة ومرجعيات
مختلفة
وكما هو معلـوم، فقد ورث عهد
الرئيس بشـار الاســــد كمّاً
كبيرا من الاجهــزة الامنية، لا
يضبط صلاحياتها ضابط محدد. بل
كثيرا ما تتداخل مهماتها مما
يؤدي الى صدام بين عناصرها.
ويزيد في تعقيد الصلاحيات التي
اشرنا اليها وتشابهها ان
مرجعيات تلك الاجهزة الامنية
تختلف من جهاز لآخر. فجهاز امن
الدولة يتبع نظريا على الاقل
مكتب الامن القومي في القيادة
القطرية، والشعبة السياسية
تتبع شكليا وزارة الداخلية،
والامن العسكري يتبع وزارة
الدفاع، وهكذا...
وكما اسلفت فان هذه التبعية
شكلية فقط. اما من حيث الواقع
فان كل جهاز امني هو دولة قائمة
بذاتها، ولا يأتمر الا بأمر
رئيس الجهاز. ولعل اوضح مثال على
ذلك صدور قرارات رئاسية
بالافراج عن معتقلين، يتم
ترحيلهم الى ادارة الاجهزة التي
اعتقلتهم، فتقوم تلك الاجهزة
بالاحتفاظ بهم في سجونها الخاصة
بها. وهذا ما يفسر ما كان يبشّر
به معتقلون مفرج عنهم اسر زملاء
لهم بأن ابناءها يحزمون حقائبهم.
وتمضي الايام دون ان يخرج اولئك
الابناء.
وزير الداخلية الجديد
والمهمات الثقيلة
نقل بعض المطلعين ان الوزير
كنعان طلب في لقاء له مع الرئيس
بشار الاسد بعد دخوله وزارة
العطري الثانية، ان تكون وزارة
الداخلية مرجعية كل الاجهزة
الامنية.
ولعل هذا، ان تم، سيجعل اول تحدٍ
يواجه الوزير كنعان بعد ذلك، هو
تقليم مخالب اجهزة الامن
المختلفة، وضمها في جهاز واحد،
وتحت رئاسة مسؤول واحد يتبع
مباشرة لوزير الداخلية. كما
ينبغي تحديد صلاحيات هذا الجهاز
بما يخدم المواطن السوري، لا
اهانة كرامة هذا المواطن كما هو
جار حاليا.
ولن تكون مهمة التعامل مع اجهزة
الامن المتعددة سهلة امام
الوزير الجديد. لأن كلا من رؤساء
تلك الاجهزة قد بنى علاقات
معقدة مع نافذين في هرم السلطة.
ومن المؤكد ان تشهد اي خطوة
يخطوها الوزير كنعان لالحاق اي
جهاز امني بوزارة الداخلية،
مساومات صعبة، وربما رفض من
جانب النافذين في ذلك الجهاز،
الا ان تكون هناك خطة حازمة لدى
الرئيس بشار بتصفية تلك الاجهزة
لمصلحة تشديد قبضته على كثير من
المتفلتين منها. وعلى كل حال،
فان هذا الامر سيأخذ فترة
طويلة، ويتوقف ذلك على حسن
ادارة وزير الداخلية المكلف هذا
الملف.
وربما يسهل الامر بعض الشيء، ما
قيل من ان تحجيم اجهزة
المخابرات واعادة هيكلتها هو
احد المطالب الاوروبية السرية
لتوقيع اتفاقية الشراكة مع
سوريا، وان اكثر رؤساء الاجهزة
الامنية الحاليين سيبلغ السقف
العمري الذي اعتمده الرئيس بشار
الاسد بصفته قائدا اعلى للجيش
لتصفية الحرس القديم، العسكري
والامني، في فترة لا تتجاوز
اشهرا معدودة.
وزير غامض واجندة صعبة
وزير الداخلية الجديد، اللواء
غازي محمد كنعان، من مواليد 1942
في محافظة اللاذقية، خريج من
الكلية الحربية (1965) شغل منصب
رئيس فرع مخابرات المنطقة
الوسطى. ثم اصبح رئيسا لفرع
الامن والاستطلاع للقوات
العربية السورية العاملة في
لبنان حتى العام 2002 ثم رئيسا
لشعبة الامن السياسي، قبل ان
يصبح وزيرا للداخلية في التغيير
الوزاري الاخير. وباستثناء ذلك
لا يكاد يعرف الكثير عنه الا ما
كان ينشر في صحف لبنانية معارضة.
ولأن التسريبات اقلها صحيح،
واكثرها ضرب من التخمين غير
الخالي من الاغراض. فان ما
سنورده عنه، بعضه مستقى من
سيرته في لبنان، واكثره آمان
وآمال لا اكثر ولا اقل.
فمما لا شك فيه فان مدة تقارب
العقدين قضاهما الوزير كنعان في
لبنان جعلته يتعامل مع مواطنين
لبنانيين يملكون هامشا ولو ضيقا
من حرية القول والعمل، بينما
هذا الهامش غير موجود اطلاقا
عند المواطن السوري، خصوصا في
ثمانينات القرن العشرين
وتسعيناته.
واذا شكت صحف لبنانية عديدة من
انخفاض سقف الحرية الذي تعمل
تحته، الا ان هذا السقف يبدو
مرتفعا نسبيا، اذا ما قورن
بالسقف المعدوم للصحف السورية
الثلاث الناطقة باسم الحكومة
وحزب البعث.
والاحزاب اللبنانية مهما قيل عن
محدودية فاعليتها بسبب الوجود
العسكري السوري في لبنان، الا
انها احزاب عريقة. وكثيرا ما كان
بعضها يجاهر بمعارضته لهذا
الوجود. ولا شك في ان العين
البصيرة لا بد ان تدرك ذلك
بالمقارنة مع انعدام الحياة
الحزبية في سوريا، الا لمن يريد
ان يغالط نفسه فيذكّر بأحزاب
الجبهة التقدمية مع انها احزاب
اقل من هامشية.
ولعل الحياة النيابية في لبنان
هي الاخرى (رغم مقاطعتها من بعض
الاحزاب والاتجاهات احيانا
بسبب النفوذ السوري في لبنان
الذي كان يؤثر حقيقة في
نتائج الانتخابات النيابية)،
تبدو معلما آخر من معالم ما
يتمتع به لبنان من حرية، اذا ما
قورن ذلك بالحياة النيابية
السورية المفصّلة على مقاس حزب
البعث.
هذه المظاهر وغيرها كثير،
كالاقتصاد الحر وتعدد منابر
الاعلام، لا بد انها خلقت
انطباعا عند الوزير اللواء
كنعان قد يجعله يفكر - في ظل رغبة
رئاسية بذلك كما نقل عن اللقاء
الذي تم مع كنعان بعد توليه
الوزارة بنقل التجربة
اللبنانية رغم محدوديتها الى
سوريا، من خلال نشاط وزارة
الداخلية الذي له علاقة عضوية
مع كل تلك النشاطات التي اشرنا
اليها.
ولعل اهم ما يمكن ان يحكم تصرف
كنعان المستقبلي هو ادراكه ان
معظم الشخصيات الامنية التي
تعاقبت على سوريا قد انطفأ
اسمها وخبا بريقها، بمجرد
ازاحتها عن المنصب، الذي استمر
عند بعض اباطرة الامن اكثر من
عقدين. بل ان تلك الشخصيات لم
تترك اثرا حسنا يذكره لها
المواطن السوري.
وهو يعرف بأن طموح تلك الشخصيات
قد توقف عند رئاسة جهاز امني،
ولم يستطع اي منها ان يرقى الى
رتبة وزير. وهو طموح يبدو
متواضعا عند من يملكون همة
تتطلع الى اكثر من ذلك، الامر
الذي يبدو واضحا عند الوزير
كنعان.
وهو يعرف ان القيادة السياسية في
اي قطر تتجنب ان ترفع القيادات
الامنية الى اكثر من ذلك، ربما
خوفا من ان تتطلع الى اكثر من
ذلك. وهو خوف مشروع عند من يصل
الى القيادة من طريق الانقلابات
او عند الذين ليس لديهم رصيد
شعبي يدعم مراكزهم.
اذن لا يبقى امام الوزير الجديد
الا الطريق الصحيح وهو كسب ثقة
المواطن السوري ورضاه من خلال
البحث عن الصعوبات الحقيقية
التي عاشها هذا المواطن مع
ممارسات الاجهزة الامنية على
مدى اكثر من اربعة عقود.
لقد كتب مفكرون وكتّاب سوريون
كبار العديد من المقالات التي
شرحوا فيها المعاناة التي كان
الشعب السوري يقاسيها. ولا
يحتاج الامر الى مزيد من تلك
المقالات، بقدر ما يحتاج الى
مسؤولين يحاولون رفع المعاناة
عن هذا الشعب.
المجال مفتوح الآن امام الوزير
الجديد اذا اراد ذلك. وربما يكون
الاولى ان يبدأ بتصفية مراكز
القوى في الاجهزة الامنية،
وباطلاق سراح باقي المعتقلين
بعد اغلاق السجون الا
للقضائيين، مرورا بشطب ارشيف
تلك الاجهزة في منع السفر
والتوظيف والترقية عن عدد كبير
من المواطنين، والغاء الاعتقال
التعسفي من دون اذن القاضي
المدني، والعمل على الغاء قانون
الطوارئ والمحاكم الاستثنائية
وفتح الحدود والمطارات امام
عشرات الوف الاسر التي ترغب في
العودة بعد منع دام اكثر من ربع
قرن.
فهل يفعل ذلك الوزير غازي كنعان؟
نرجو ذلك.
*
كاتب سوري يعيش في المنفى، عضو
مؤسس في رابطة أدباء الشام
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|