هل
دخلت السجن يوماً
بمناسبة
شهر التضامن مع سجناء الرأي في
سورية
من
سوريين ولبنانيين وفلسطينيين
وعرب آخرين
بقلم
: محمد الحسناوي*
الجواب بكل بساطة : نعم دخلت
سجن الرأي في بلادي مرتين في
الأقل ، وفي المرة الثالثة هربت
بجلدي عبر الحدود إلى قطر مجاور
مشياً على القدمين ، وإلا كنت
اليوم من شهداء سجن تدر
الصحراوي أو سجن الحلبوني أو
فرع فلسطين أو سجن القلعة ، أو
شهداء سجن المزة ، الذين تمت
تصفيتهم فيه بقبض الجلاد على
حنجرة الواحد منهم ، وسحقها أو
قطعها كحنجرة الدجاجة أو
العصفور ، أو الشنق بالتعليق
على درج السجن بالسلك المعدني (
الكابل ) . ومن يدري لعلني كنت
استرحت من هذا المنفى الإجباري
الذي أعاني منه وزوجتي وأولادي
وحفدتي ، منذ أكثر من ربع قرن ،
بل ربما دخلت الجنة بسلام مع
الداخلين . هل يقول ذلك مواطن
سوري ، بل كل مواطن سوري مغترب
بالإكراه عن وطنه ومسقط رأسه
وأمه وأبيه وأقاربه وأصدقائه
ومعارفه ، وعن القيام ببعض
الواجب في بناء الوطن أو حمايته
؟؟
ودخلت سجن الرأي أيضاً في
ثلاثة أقطار عربية مجاورة ،
اثنان منهما في سجن المطار بسبب
حملي بيانات عن انتهاك حقوق
الإنسان في سورية في الثمانينات
، والثالث مدة ثلاثة أشهر في سجن
المخابرات العامة ، والسبب –
كما قال قاضي التحقيق الأمني
ساعة الإفراج عنا وقد كنا خمسة
– سببان : أحدهما لتعلم أجهزة
الأمن التي اعتقلتنا من نحن ؟
وما عملنا في أرضها ؟ وما مدى
تأثيرنا على شعبها ؟ وبعدها
استجدّ سبب ثانٍ – فاعجب – وهو
لحمايتنا من عمليات الاغتيال
التي كادت تنزل بنا على أيدي
سفراء من قطرنا ووطننا الحبيب !
أما كيفيات الاعتقال ومشاعر
السجن ، فحديث حافل بالعجائب
والمفارقات والمرارات ،
وسأختار بعض المواقف المعبرة ،
لا من باب الدعاية الشخصية ، بل
للتضامن مع معتقلي الرأي في
السجون السورية بشكل خاص ،
وسجون الاحتلالين الصهيوني
والأمريكي لأوطاننا المقدسة ،
وإهدارهما لكرامة شعوبنا
وتدنيس مقدساتنا الشخصية
والجماعية على حد سواء . وليس من
باب التذاكي السياسي القول : إن
اعتقال الشعوب ، وتعطيل حرياتها
خدمة مجانية ، أو مقبوضة الأجر
من دول الاحتلال والعدوان
الكبرى والصغرى.
اعتقالي الأول كان في ليلة من
شهر نيسان من عام 1963م بسبب منع
التجول ليلاً بحلب في ظل حكومة
المرحوم صلاح البيطار ، بعد أن
أودعت زوجتي في مستشفى التوليد
، لتضع ولدي البكر (
محموداً ) ، وليس من اللائق –
كما قال الطبيب المناوب – بقائي
في المستشفى بين الممرضات ، أو
أن أنام على إحدى أرائك
المستشفى ، فقضيت تلك الليلة
على أرضية القبو العفن البارد
في مخفر ( شرطة شارع اسكندرون )
مع المخمورين وزعران الليل
والأبرياء الآخرين من أمثالي ،
يتحكم بنا عريف حقود :
( اخرسوا ، اصعدوا ، اهبطوا ،
كلوا ...) ، ولعل المؤلم غير هذه
التفصيلات ، هو الحجز لما بعد
منتصف النهار ، وزوجتي وأهلها
في المستشفى لا يعلمون سبب
غيابي ، وعدم حضوري العاجل ،
والمناسبة ولادة أول طفل للأسرة
.
أما اعتقالي الثاني مع عشرات
من المدرسين والمحامين
والمهندسين في نيسان أيضاً من
عام 1967م بسبب فتنة ( إبراهيم
خلاص ) ، الذي كتب مقالة تسفه
الأديان السماوية ، والذات
الإلهية ، وقمع الإضراب العام
الشعبي الاحتجاجي على هذا
المقال المأفون ..وذلك لمدة شهر
تقريباً .
النقاط البارزة في ذلك
الاعتقال ، أنه وقع ولم أنل حظاً
كافياً من النوم ، أي مقدار ساعة
أو أقل ، وهو لون من العذاب شديد
عليّ ، بعد نهار حافل بالنشاط
الجسدي والفكري على حدّ سواء .
كما كانت زوجتي يومها خارج
المنزل تعمل (قابلة ) في مستشفى
توليد ، وأنا لست مع عمل المرأة
ولديها طفل في البيت ، لكن ذلك
من توقع الاعتقال ، والحرمان من
الراتب الشهري ، وهو مصدر العيش
الوحيد . بسب المفاجأة لم أفطن
لتوديع ولدي الطفل لحظة
الاعتقال . والاعتقال كان على
أيدي مدنيين مسلحين ، وكنت أخشى
من عملية انتقام أحد الأحزاب ،
لأنني هاجمت ارتباطه العلني
بجهات أجنبية علناً في حفل
جماهيري . زد على ذلك أننا لم
توجه إلينا أية تهمة طوال مدة
الاعتقال ، وتمّ الإفراج عنا
بسبب هزيمة حزيران ، كما هو
معلوم .
أحد أقارب زوجتي كان يعمل
آنذاك في متجر حلبي ، وعرف أن (
سعيد ..) المشرف على مصادرة
المتجر آنذاك وإدارته .. هو من
أبناء بلدتي جسر الشغور
، ومن معارفي السابقين ،
فتلطف إليه هذا
القريب ، والتمس منه
المساعدة في الإفراج عني ، فكان
جوابه : ما دمنا نحن في الحكم ،
فلا تحلم بهذا
الحلم . أما ضابط الأمن الذي
راجعته زوجتي بالنيابة عن
زميلاتها من زوجات المعتقلين ،
فأجابها : أنصحك وزميلاتك أن
تبحثن عن أزواج آخرين .
ومن مرارات ذلك الاعتقال
ازدحام زنزانتنا الجماعية
ليالي العدوان الصهيوني ،
وحشرنا مع معتقلين يهود
ومشبوهين وآخرين من رواد القمار
والمواخير . ولما حصل الإفراج في
صباح يوم باكر كئيب ، طرقت باب
بيتي ، فلم يجب أحد ، وبعد اليأس
اضطررت إلى التسلق عبر السطح
لبناء شاهق من خمسة طوابق ،
لأتسلل إلى داخل البيت ، فأجده
مقلوباً رأساً على عقب بسبب
ظروف الحرب ، وهجرة الأسرة إلى
عند أقارب الزوجة !
في اعتقالي الأول في مطار
عربي اعتدى عليّ ثلاثة عناصر
أمنية بالصفع واللكم والرفس ،
وأنا فوق الأربعين من عمري ، لكي
أعترف بأن جواز سفري مزور ، مما
يلحق الضرر بالآلالف من أبناء بلدي . قال المحقق :
إذا لم تعترف فسوف نسلمك
لحكومة بلدك ، فقال المحقق
الثاني : لكن ليست لنا علاقة
دبلوماسية الآن بحكومته ، فرد
الأول : نسلمه إذن لقوات الردع
في لبنان !
وفي اعتقالي الذي امتد ثلاثة
أشهر في قطر مجاور ، كانت ليلة
الاعتقال هي تاريخ ذكرى اليوم
الخامس من حزيران ، وتساءلت
ساعتها : هل هناك أدنى علاقة في
اختيار التوقيت ؟ أما الشعور
الأهم ساعة الاعتقال والانتقال
( أي من مدينة قرب العاصمة) إلى
سجن المخابرات العامة داخل
العاصمة ، فهو الخوف من أن يكون
هناك تعاون بين مخابرات البلدين
، فنسلم إلى مخابرات بلدنا ، حيث
الحكم الفوري بالإعدام ، بنا
على القانون(49) الصادر بحق
المنتسبين إلى جماعة الإخوان
المسلمين ، أي المحاسبة على
الرأي ، وحسب ! وبالفعل قبل
اعتقالنا بشهور حصل مثل هذا
التسليم . وطوال أيام التحقيق
الأولى كان التهديد الأهم هو
بتسليمنا لسلطات بلادنا ما لم
نتعاون في التحقيق . ومع ذلك
اعتصمت بالتكتم والإنكار ،
مضمراً في نفسي إذا وصل التهديد
بالتنفيذ والانتقال .. إلى
الحدود السورية ، فساعتها سوف
أعترف بهويتي الشخصية لوقف
التسليم . ولأعترف بأن مرارة
الاعتقال في بلد غريب ، على ما
فيها من آلام ، كنت أراها أفضل
من التسليم لسلطات بلدنا بكثير
، بل بدرجات لا يمكن تصورها ،
لأنها الفرق بين الموت والحياة
، بين التحقيق بالتي هي أحسن ،
والتحقيق بالتي هي ألعن !!
على أن الفاجعة التي كان لها
وقع الصاعقة على نفوسنا ، فهي
تبليغنا لحظة الإفراج عنا
بتفاصيل مجزرة ( تدمر ) الصحراوي
، التي وقعت ونحن داخل المعتقل
بتاريخ 27حزيران عام 1980م . أولاً
لم نستطع تصديق الخبر لهوله
وفظاعته : ألف سجين من المدنيين
العزل ..من الرجال والشباب وحتى
الأطفال ..من العلماء والأدباء
والمفكرين يذبحون ذبح النعاج ،
خلال نصف ساعة ، ثم يوارون
التراب في خنادق الصحراء ،
وجراحهم تنزف وبعضهم لم يفارق
الحياة بعد . ثانياً : لم نشعر
بطعم الحياة ولا الحرية ساعة
إطلاق سراحنا ، وذكرى إخواننا
شهداء تدمر ، تنتصب أمام
مخيلتنا ، لأن الكثيرين منهم
نعرفهم
بأسمائهم , وأشخاصهم
ومواقعهم الاجتماعية والعلمية
، كالأديب إبراهيم عاصي والكاتب
الدكتور عبد الودود يوسف ،
والمدرس الجامعي المهندس في
الذرة النووية الدكتور محمد
حسين ، والمدرس عدنان شيخوني ،
وفرقة الإنشاد الحلبية
، وطلاب تظاهرة دير الزور (
من الشباب ) ، وبعضهم مراهقون .
ثالثاً : مؤشر تدهور الوضع
السوري عامة لدرجة حصول مثل هذه
المجزرة الجماعية ، غير
المسبوقة في تاريخ سورية القديم
ولا الحديث ، ولا في أيام
الاستعمار .
ويسألونك : هل دخلت السجن ؟
وأنا أتساءل: هل خرجت أنا منه ؟
فعلاً : كان أول سؤال لضابط
التحقيق خارج سورية : هل سبق أن
اعتقلت يوماً ؟ وغرضه أن يستكشف
سبب ضبطي لأعصابي على حد قوله .
والسبب الحقيقي لتماسكي هو أنني
أمام جهة أقل ظلماً من أبناء
بلدي الأدنَين ، تعتمد على
العقل والمنطق أكثر من التهديد .
تتمة الصورة : ما مصير منزل
العمر الذي اشتريته بعرق الدروس
الإضافية ، والمكتبة التي تشغل
إحدى غرفه الواسعة من السقف إلى
الأرض بنوادر الكتب وأغلاها
وأحلاها على قلبي ! والفرش الذي
لم يتح لي يوم عرسي ، وأنا خريج
جامعي مفلس ، فأعدت الفرش
والتأثيث للبيت كبيت العرسان ،
واقتنيت خط هاتف ، وأنا مقيم في
ضاحية المدينة لأن زوجتي قابلة
، تتمتع بحق الخط الاستثنائي .
كل ذلك صار كأن لم يكن ، فقد
استولى عليه ضابط أمن بغير قرار
مصادرة رسمي . المنزل الجديد لم
يكن مسجلاً بعد باسمي ، فعمد
الضابط إلى تهديد البائعَين
بالتنازل عن البيت لدى دائرة
العقارات بحلب ، وتسجيله باسمه
غير الشريف
، ثم بيعه إلى جهة ثالثة . ومع
تطاول الزمن مات البائعان ،
وبقيت بيدي ورقة البيع العادية
، كما بقيت الظروف الاستثنائية :
من قانون طواريء ، وحكم الحزب
القائد ، وتغول الأجهزة الأمنية
، وغربتي الدائمة خارج الحدود ،
وحرماني من حضور جنازة والدي
وأخواتي وكل الأحباب .
لم يكن بودي تصديع رؤوس
القراء بمأساتي الشخصية ، وقد
سطرت الكثير من جوانبها فنياً
في ديوان ( في غيابة الجب ) وفي
رواية ( خطوات في الليل )
المنشورتين ، أقول : ولو كانت
رمزاً لمأساة الآلاف من
المواطنين أمثالي ، لكنني شعرت
بواجب التضامن مع معتقلي الرأي
السوريين وغير السوريين ، الذين
خصص لهم ( مركز الشرق العربي
للدراسات الحضارية
والاستراتيجية ) .. شهراً
للتضامن معهم . ولا بد من
معلومات موثقة ، وليس أوثق
وأصدق من المعلومات التي تتعلق
بك ، توضح أبعاد هذه المأساة ،
وخصوصاً مأساة الذين ، اعتقلوا
بلا سبب كالرهائن ، أو بسبب
الرأي ، أو الذين صدرت بحقهم
أحكام عرفية
، وقضوا مدة حكمهم ، ولم يتم
الإفراج عنهم ، وبعضهم أمضى
أكثر من ربع قرن ، بل ضرب الرقم
القياسي في مدة الاعتقال
عالمياً ، مثل الناشط عبد
العزيز الخير. ناهيك بالمفقودين
، والمهجرين قسرياً ،
والمحرومين من حقوقهم المدنية
بعد الإفراج عنهم . ولك أن
تتساءل : أين نعيش ؟ وفي أي عصر ؟
وإلى متى هذا الكابوس الهمجي ؟
* كاتب سوري عضو
رابطة أدباء الشام
|