حماقة
الحرب الإستباقية
محمد
أحمد النابلسي
لم
يكن بوش ليحظى بمبدأ يناسب
قدراته السياسية والذكائية
أفضل من مبدأ "الحرب
الإستباقية". التي تحولت بفضل
سحرة البنتاغون ،وعلى رأسهم بول
وولفويتز، الى طلسم يدعى ب "مبدأ
بوش". ومن المعروف والمنشور
صحفياً أن الرئيس يحتاج الى من
يبسط له الأمور المعقدة. ولقد
إختار له والده المساعدين على
هذا الأساس وليس على أساس
قدراتهم الفعلية. فالإبن يحتاج
الى من يلقنه المعادلات المعقدة
لحكم الولايات المتحدة
وصفة
الحرب الإستباقية كانت سحرية
بالنسبة لبوش. فهي أفهمته
الصراعات التي قامت عليها
سياسات القرن الماضي. وأوحت له
بأن القوة هي الطريق لتغيير
التاريخ والدخول فيه. شرط أن
تستخدم هذه القوة قبل فوات
الأوان. فالعالم يتسلح بسرعة
والدول تتسابق لشراء الأسلحة
والأدمغة السوفياتية السابقة.
لذا يجب إستخدام القوة
الأميركية قبل أن يصبح إحتواء
النفوذ مستحيلاً. وبالإستناد
الى سوابق هتلر وستالين
والقياصرة الروس يمكن لأميركا
بوش أن تمارس حروبها على أشخاص
مثل بن لادن وصدام حسين وهيغو
شافيز ومعمر القذافي وغيرهم.
وهذا يوفر عليها
عناء البحث عن عدو لا تجده. كما أنه
يجنبها الصدام مع الدول القوية.
إذ يكفي التركيز على الدول
النفطية وجوارها للسيطرة على
النفط وعبره على الأقوياء بمن
فيهم المرشحين لعداء أميركا
مستقبلاً.
هكذا
فهم بوش الحرب الإستباقية
وإعتمدها مبدأً له. ظاناً أنه
يضع بذلك استراتيجية طويلة
الأمد لبلاده. أو هكذا أقنعه
وولفويتز على الأقل!؟. وصحيح أن
كثيرين من كبار الاستراتيجيين
الأميركيين قد عارضوا هذه
الحماقة الإستباقية. لكن هؤلاء
لم يملكوا موهبة تبسيط الأمور
المعقدة
وتقريبها الى فهم الرئيس وقدرته
الإستيعابية. وهي قدرة محدودة
بشهادة الصحافة الأميركية
والنيوزويك خصوصاً. لذلك عاند
بوش وسار في طريق لا رجعة منه هو
طريق الحرب الإستباقية. وهو لم
يتوقف لحظة للسؤال عن إمتناع
سلفه كلينتون عن إعتماد هذا
المبدأ الذي عرض عليه مع خطط
حروب جاهزة منذ العام 1997. وربما
أقنعه الصقور بغباء كلينتون
وجبنه وأن هذه الحروب تحتاج الى
تضحيات رجل مميز مثله. فهي تنقذ
أميركا والعالم من لاعدالة
ملكية الشعوب المتخلفة للنفط
والمواد الأولية. فهذه المواد
يجب أن تكون في متناول الشعوب
المحتاجة اليها لتحقيق العدالة
المطلقة. وهو تحقيق لا يتم إلا
على أيدي ماشيح مخلص مثل بوش!؟.
وتقمص هذا الأخير الدور لغاية
الإنصهار الكلي فيه ولدرجة
التعامل بصفاقة غير مسبوقة مع
أصدقاء أميركا مع تهديده
لمصالحهم ولمستقبل علاقاتهم مع
اميركا. وذلك بحيث أصبحت
السيطرة على الشرق المسلم
النفطي هدفاً إنتقائياً للحروب
الإستباقية لإدارة بوش.
نحن
لا نشكك بأن هذه الرؤية هي واحدة
من جملة رؤى مطروحة في أوساط
القرار الأميركي. كما لا نشك
بقدررة أميركا على إحتلال
أفغانستان والعراق ومعهما
الشرق المسلم. لكن الإشارة تجب
الى كون هذه الحروب سهلة
البداية لكنها صعبة الإنتهاء.
كما نشير الى دفاعات اميركا
الاستراتيجية الصارمة. التي لا
تسمح عادة للرئيس وفريقه بتجاوز
خطوطها الحمر الموضوعة. بما
يستتبع السؤال عن كيفية نجاح
الإدارة في إختراق هذه الخطوط
وتجاوزها لغاية دفع أثمان
استراتيجية غير معقولة بالقياس
الى حجم الحروب الجارية.
لقد
رفض كلينتون تقديم أي ثمن
استراتيجي في الصراعات التي
قادها. فهو لم يستخدم أي سلاح
استراتيجي في كوسوفو أو في
السودان أو أفغانستان أو العراق.
إذ اكتفى بصواريخ التوما هوك
ولم يتجاوزها. مع أن يوغوسلافيا
كانت قوة عسكرية كبيرة
بالمقارنة مع افغانستان
والعراق. في المقابل استخدم بوش
كل الأسلحة المحرمة دولياً
والأسلحة الجديدة غير المعروفة
في مواجهة جيش عراقي لم يحارب
أصلاً. ولعل عدد القتلى
المدنيين العراقيين هو أفدح
الأثمان الاستراتيجية لتلك
الحرب. وذلك بالرغم من تسعيرة
القتيل الأفغاني بمئتي دولار في
مقابل تسعيرة انسان لوكربي
بعشرة ملايين دولار. وكذلك
بالرغم من التعتيم الأميركي على
العدد الفعلي للضحايا
العراقيين.
بناء
على هذه المعطيات نجد أن
المراجعة المنهجية للحرب
الاستباقية لم تعد بعيدة. خاصة
مع تصاعد الورطة الاميركية في
المستنقع العراقي. ونحن نعلم أن
هنالك من يخالف استنتاجنا هذا
بالقول بإمكانية هروب بوش الى
الأمام عبر حرب إستباقية جديدة
أو حتى عبر عمليات مخابراتية
قذرة وسوداء. الا أننا لانجد
المجال يتسع هنا لمناقشة الرفض
الأكيد للمواطن الأميركي لخوض
أية صراعات جديدة. ولكون هذا
الرفض قد يصل الى حدود تفجير
مواجهات واضطرابات اميركيية
داخلية محرجة وغير مسبوقة.
فالأهم في رأينا هو تبيان مستوى
حماقة الحرب الإستباقية. وهو
مستوى حددته نتائج تلك الحرب
بحيث لم نعد بحاجة لتقدييم
الأدلة عليه. وهذا ما يدفعنا
للتركيز على الثغرات الفكرية
المنهجية لهذه الحرب وهي في
رأينا التالية (للتعمق انظر
كتابنا "الحرب النفسية في
العراق"
):
1ـ أنها
تستهدف أشخاصاً يلخصون أنظمة
الحكم في بلادهم. مما يجبر
الولايات المتحدة على البقاء في
البلدان ،موضوع الحرب
الاستباقية، لغاية تأمين نظام
بديل. بما يعادل تأجيل نهاية
الحرب والتورط الأميركي في
التجاذبات الداخلية لتلك
البلدان.
2ـ الجهل
الأميركي لثقافة البلدان
المتعرضة للإستباق الأميركي.
وعنه يتفرع العجز عن التعامل مع
شعوبها وتنامي إحتمالات قيام
مقاومة مضادة لأميركا.
3ـ تحتاج
الحرب الاستباقية الى جهوزية
حربية غير متوافرة لدى الولايات
المتحدة. فهي تقتضي شن الحروب
على مصادر التهديد وفق سلسلة
حروب متتالية. واميركا تحتاج
الى موافقات معقدة (الكونغرس
والأمم المتحدة وحلف الأطلسي)
لشن كل من هذه الحروب. وتجاوز
الحرب العراقية لهذه الموافقات
غير قابل للتكرار. خاصة بعد
نتائج تلك الحرب.
4ـ تقتضي
هذه الحروب تأمين الأمن والنظام
في البلدان المحتلة لغاية ايجاد
نظام بديل. وهذا يعني الحاجة
الأميركية لأعداد من الجنود
يتجاوز طاقتها التجنيدية.
5ـ إن
إعتماد مبدأ سلسلة الحروب يعادل
تحويل المجتمع الأميركي الى
مجتمع عسكري. وهو تحول مرفوض
قطعاً لتعارضه مع نمط الحياة
الأميركي.
6ـ أن
استراتيجية الإستباق قد تنجح في
الحروب السهلة لكنها تتحول الى
تهديد حقيقي للأمن الأميركي في
حالة الحروب الأصعب مثل كوريا
الشمالية.
7ـ تقتضي
الحرب الاستباقية التخلي عن
جملة ثوابت استراتيجية
الاميركية. ومنها عدم خوض حربين
متزامنتين. وتجنب الحروب
المفتوحة المؤجلة النهاية.
وأيضاً عدم إستخدام أسلحة
استراتيجية.
8ـ إستحالة
حماية امدادات النفط وغيرها من
المكاسب والمصالح الاميركية في
ظل إعلان الاحتلال بعد حرب
تعتمد على الصدمة والترويع.
9ـ تعارض
تقويم مستوى تهديد الدول
والأشخاص المتعرضين للإستباق.
وهو تعارض رأيناه داخل الكونغرس
ومجلس الأمن وحلف الأطلسي. كما
رأيناه في تحركات الرأي العام
الأميركي والعالمي.
10ـ أن الحرب
الإستباقية تأتي معاكسة للمجرى
المنطقي لتطور التعاطف العالمي.
حيث المفهوم الانساني للعولمة
يسير نحو إنهاء الحروب
والصراعات لصالح كرامة الانسان
والقضاء على المجاعات والإيدز
والأوبئة... الخ.
الآن وبعد الحرب العراقية يبدو أن مبدأ
بوش محكوم بلعنة مباديء الرؤساء
الأميركيين. فقد وقع في هذه
اللعنة أسلاف بوش من امثال
مونرو وولسون وايزنهاور ولن يشذ
بوش عن القاعدة. ولعل شخصية بوش
هي أحد أهم مسببات فشل مبدئه. إذ
تتصف شخصيته بالتبعية
Personalite
Dependante)
وتقبل الإيحاءات والعجز عن تحمل
الإحباطات والعزلة الدفاعية عن
حقائق العالم الخارجي. وهي صفات
تتحول الى كارثية لدى ترافقها
مع محدودية القدرات الذهنية (
أنظر التحليل النفسي لجورج ووكر
بوش في كتابنا الحرب النفسية في
العراق(.
وفي
عودة الى صفة التبعية فهي
المسؤولة عن وقوع بوش تحت سيطرة
نائبه تشيني ومعه فريق
المحافظين الجدد. ومن هذا
الفريق منظر الحرب الإستباقية
بول وولفويتز. مما دفع به للتورط
في حروب سهلة لكنها غير مرشحة
لنهايات قريبة. حيث لا يوجد من
يشكك بقدرة اميركا على احتلال
افغانستان والعراق لكن هنالك من
يتذكر ويذكر بالخروج الأميركي
الذليل من كوريا وفيتنام ولبنان
والصومال والبقية تأتي.
لقد
رفض كلينتون الحرب الاستباقية
لأنه رفض دفع ثمن استراتيجي
لحرب إقتصادية. حيث بينت حرب
العراق أن الجانب الاقتصادي هو
الدافع الوحيد لتلك الحرب (بعد
أن سقطت التبريرات الأخرى من
أسلحة دمار شامل وتهديد للجيران
وغيرها). ورفض كلينتون للاستباق
أتى في سياق رفضه التورط في اي
ثمن استراتيجي. فهو رفض انزال اي
جندي اميركي في كوسوفو قبل
نهاية الحرب فيها. كما أسعفه
ذكاءه لعدم التورط وحيداً في أي
صراع كان. فقد كان كلينتون يوظف
اصدقاءه وصداقاته لتعينه في
المواجهات. وهو كان يدفع ثمن ذلك
محتفظاً باستقلالية قراره (رفض
شن حرب على العراق العام 1998
بالرغم من الضغوطات الكبيرة
عليه لشنها) وبتقدير ذاته
والاحتفاظ بذمام المبادرة
والقدرة على المواجهة.
مشكلة
الولايات المتحدة اليوم هي قدرة
الصقور على اقناع بوش بان سلوك
كلينتون هو دليل ميوعة ونقص
القدرة على حسم الأمور. وإقتنع
بوش بذلك وسار في الاتجاه
المعاكس فأوصل اميركا الى
مأزقها الراهن. حيث تقاس نتائج
الحرب العراقية وفق المعيار
البراغماتي بحسب نتائجها. حيث
يصر الاعلام الاميركي على سلبية
هذه النتائج ومنها:
1ـ بلغت
تكاليفها حدود ال 50 مليار دولار
في ظل عجز في الميزانية
الاميركية يبلغ 455 مليار دولار.
2ـ أن
البقاء في العراق يحتاج راهناً
الى 30 % من عديد الجيش الاميركي.
وهو عدد مرشح للزيادة مع تنامي
المقاومة العراقية. بما يهدد
الدور الأميركي في البلقان
والشرق الأقصى وغيرها من
المناطق الاستراتيجية الحيوية
للمصالح الاميركية.
3ـ أن الوضع
في العراق وفي أفغانستان سيضع
اميركا قريباً امام احد ثلاث
إحتمالات. فإما الإنسحاب المذل
وإما ترك البلدان يبتلعان
الجنود الاميركيين وإما اللجوء
الى مباديء الإبادة الجماعية.
4ـ ان
الحصول على مكاسب النفط العراقي
مؤجل لفترة أطول كثيراً من كل
التوقعات السابقة للحرب. مع
التأكيد على أن العراقيين لن
يجدوا وسيلة للثأر ،من أي خطأ
اميركي, أفضل من أنابيب النفط
وآباره.
5ـ بدأ
الاعلان الأميركي عن فشل الحرب
الاستباقية والاعتراف بحماقتها.
وذلك عبر الطلب الاميركي
لمساعدة معارضي الحرب. بدءاً من
الأمم المتحدة وحتى فرنسا
والمانيا.
6ـ بعد
إنقشاع غبار حروب بوش يعاد طرح
السؤال: "هل تخلصت اميركا عبر
هذه الحروب من التهديدات
المستقبلية؟". فها هي كوريا
الشمالية تحتفظ بأسلحتها
والصين غير مستعجلة والجنرالات
الروس لا يزالوا مهددين. وها هي
اميركا بوش عاجزة عن تنفيذ
مسلسلات التهديد والحروب التي
وعدت
بها.
7ـ هل يمكن
لإدارة بوش اخفاء المجازر
الاميركية ضد المدنيين
العراقيين الى ما لا نهاية؟. وما
هي ردود الفعل المحتملة عربياً
وعالمياً على هذه المجازر؟.
8ـ أمام
الوضع الراهن لإدارة بوش نجد أن
تهمة الميوعة والفوضى
الاستراتيجية انقلبت لتنتقل من
كلينتون الى بوش. فالسؤال
المطروح بإلحاح هو: " الى متى
يمكن للولايات المتحدة أن تستمر
في اعتمادها لمبدأ بوش؟".
خاصة وأن بوش وفريقه تمكنوا من
إفقاد اميركا لكل أصدقائها.
خلاصة القول أن الحظ سيكون حليف الولايات
المتحدة لو نجحت في جعل بوش يدفع
بنفسه ثمن حماقاته. وسيكون من
سوء حظها أن ينجح بوش بالفوز في
دورة ثانية. فعندها ستدفع
أميركا كلها ثمن هذه الحماقات
وأولها حماقة الحرب الاستباقية.
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|