حالة
الطوارئ والأحكام العرفية
والاستثنائية
تضعف الوطن وتخدم العدو
المهندس:
شاهر أحمد نصر
/ طرطوس
من المسائل والتحديات المصيرية
التي تواجه البلدان العربية
وتؤثر على حاضرها ومستقبلها؛ مسألة
بناء الدولة القانونية العصرية…
ولما كانت الدولة في
أحد
أبعادها، تعد، من المنظور
التاريخي، نتاج تطور السلطة
التي تنظم العلاقات الاجتماعية
بين أبناء المجتمع؛ فللسلطة دور
هام ومقرر في تطور الدولة.. وهي
إما تكون عوناً على نمو وتطور المجتمع
والدولة، أو تلعب دوراً
معرقلاً، يجعلها في تعارض
مع المجتمع، ومع
متطلبات النمو والتطور، فتصل
والمجتمع إلى حالة الأزمة التي
يتعلق مستقبل
البلاد بكيفية حلها… فما هو حال
السلطة في البلدان العربية؟
ليس سراً أنّ السلطة في أغلب
البلدان العربية هي في جوهرها
وجذورها التاريخية، نتاج انقلابات، بنت
أنظمة حكم، ولم تبن دولاً
بالمعنى القانوني العصري
للكلمة… ولعل حالة
الطوارئ والأحكام العرفية
والاستثنائية، هي الوسيلة
الجامعة والمشتركة
بين أغلب هذه الأنظمة، التي
حاولت إضفاء الصبغة القانونية
على هذه الحالة… وهنا يتبادر سؤال حول
الأسباب التي دعت إلى ممارسة
الحكم وفق حالة الطوارئ،
وهل تلك الأسباب لم
تزل موجودة، وهل كانت هذه
الحالة في صالح المجتمع، أم
أنّها لعبت
وتلعب دوراً سلبياً، وعرقلت
النمو والتطور، وقدمت خدمة
للعدو، في الوقت الذي أعلن أنّها سنت لتحصين البلاد في
مواجهته؟!
من المعلوم أنّ حالة الطوارئ،
والأحكام العرفية أعلنت في أغلب البلاد العربية بعد وصول العسكر
إلى السلطة، عن طريق
الانقلابات، وكانت الغاية منها
حماية
تلك الأنظمة، وأرفقت بمجموعة من
المبررات الأخرى، كحماية
منجزات الثورة الاشتراكية،
وضرب أعداء الثورة بيد من حديد،
وإحباط مخططات العدو وضرب
العملاء والخونة… فهل حمت تلك الحالة
والأحكام النظام (الاشتراكي)
فعلاً؟
وإلى أي مدى ساهمت حالة الطوارئ في
الانتصار على العدو؟!
إنّ جلّ ما نتج عن هذه الآلية من
الحكم هو التأسيس لبنية دولة "تسلطية"، تحكم من قبل قلة
مهيمنة بالقوة، تتكون من تحالف
طغم مالية وعسكرية
وسياسية لها مصالح
مشتركة، وتربطها علاقة
القرابة، أو التعصب الفئوي
لفكرة أو
لمصلحة،
وتقودها مراكز تشكلت على أسس
يُشك في شرعيتها، هيمنت على
مصادر القرار في مختلف مجالات الحياة، أي شلت
الحياة الديموقراطية في
البلدان التي حكمتها، وتجلى
ذلك، في إلغاء
الدساتير التي تدعو إلى
التعددية وتداول السلطات، إن
وجدت،
واستبدالها
بأخرى تفصل على قياس السلطة
الجديدة، وتعطيل قوانين
الأحزاب وقوانين الانتخابات الديموقراطية، وحل
البرلمانات، وتعيين مجالس من
المصفقين في الأرض، مع
العمل على تعليب
المجتمع في بنى توجهها أجهزة
الدولة الأمنية، كل ذلك في ظل
حالة الطوارئ
والأحكام العرفية
والاستثنائية، التي تزرع حالة
من الخوف والرعب في نفوس المواطنين، عن طريق الاستدعاءات
الأمنية، والسجون والملاحقات،
التي قد تصل إلى
التصفية الجسدية
والاختفاء، لتخلق حالة "لا
يعرف فيها الدبان (الذباب)
الأزرق أين أنت"،
(كناية عن درجة الرعب والقدرة
على التمثيل بالضحية)، كما يحب
رجالات وأبواق الدولة الأمنية أن يتبجحوا!
وهكذا تحمي حالة الطوارئ،
والأحكام العرفية الاستثنائية،
سلطات اصطلح سياسياً على تسميتها
بالاستبدادية، لأنّها تقمع
الحريات، وتقلص أو تلغي
مشاركة المواطن في
شؤون الحياة السياسية خاصة،
وبالتالي تجهض حق المواطنة، وهو
أحد أهم
حقوق وشروط بناء المجتمعات
المدنية والدولة العصرية... وتدل
تصرفات تلك السلطة على عدم الثقة المتبادلة بينها
وبين شعبها، فضلاً عن تكريثها
حالة بائسة في الحكم
التي تعكس الجمود
والتخلف..
وعلى الصعيد الاقتصادي، عندما
تصبح القوى الحاكمة هي المتحكمة
في توزيع الموارد الاقتصادية
والمالية للبلاد، تقود حالة
الطوارئ إلى إيجاد تربة
مناسبة لظهور طبقة من
الطفيليين المقربين من الحكام
وزبانيتهم، تستغل مواقعها
لتكدس الأموال
الطائلة، ويصل نفوذها لدرجة
تجعلها تتحكم في صانع القرار
الاقتصادي، وتتدخل في دقائق الأمور، بما في ذلك أسعار
العملات، وسن القوانين
والأنظمة، المناسبة لها
لتنظيف الأموال التي
نهبتها، ومضاعفتها.. وتفرخ هذه
البنية آلية من الفساد الذي تعود
عوائده إلى هؤلاء المتنفذين
والمسؤولين الحكوميين، الذين
تصبح حماية الفساد إحدى مهامهم، وتتعزز هذه الآلية
بخلق بنى سياسية جديدة تتزعمها
طغم لا تتعدى نسبتها
5% من السكان تتحكم بـ 95%
من اقتصاد البلاد (الاشتراكي)،
تبني مجدها وأموالها وملكيتها
عن طريق الفساد، الذي يتحول إلى
أخطبوط ينهك البلاد والعباد،
الذين يزيد من يعيش تحت خط الفقر منهم عن 40% من
السكان، والعاطلين عن العمل عن
30%.. ويجردون
من كل إمكانية لمحاربة
الفساد، والمطالبة بمحاسبة
عموده الفقري من الفاسدين والمفسدين،
لأنّهم يلوذون بالحكام ذاتهم
الذين يلوحون صباح مساء بحالة
الطوارئ والأحكام العرفية، وتحميهم أجهزة
تروع المجتمع وتدعم الفاسدين بل
يصبح بعضها جزءاً
منهم... فيعيش الاقتصاد
حالة من الشلل والإرهاق الذي
يفقده أية إمكانية للنمو، فضلاً
عن قيام الطغمة الفاسدة بتهريب
أموالها خارج تلك البلدان لعدم
ثقتها بشعبها ووطنها، مع هروب الاستثمارات
المحلية والخارجية.. وتؤكد
الإحصائيات التي تقدمها حتى
الجهات الرسمية عن مدى
ضعف وتائر النمو الاقتصادي
والحالة الكارثية التي يعيشها الاقتصاد
في بلدان حالة الطوارئ، الذي لا
يمكن أن يساعد على الإطلاق في
مجابهة أي خطر خارجي.. أي إنّ حالة الطوارئ
حامية الفساد، تخلق اقتصاداً
عاجزاً، ليس عن
مجابهة العدو فحسب، بل
وعن إطعام الشعب..
وتعمل السلطات الفاسدة في ظل حالة
الطوارئ على خلق إعلام يسبح بحمدها صباحاً وعشيا، يطرح أموراً
هامشية دون أن يلامس ملفات
الفساد الحقيقية، تحت
ذريعة ما يسمى بالخطوط
الحمراء، فيجري التأسيس لثقافة
الفساد وفكر الفساد، وبنية الفساد،
في أجواء الرعب والخوف.. فيظهر
إنسان اتكالي خنوع يجبر على
قبول الفقر والتهميش والذل والهوان.. لقد أثبت
العديد من علماء النفس، بعد
العديد من التجارب
التي أجروها، أنّ عيش
الإنسان في حالة محددة تتكرر
فيها الممارسات المعينة، يجعل هذه
الحالة تصبح جزءاً من لا شعور
الإنسان.. ولا أجد حاجة للتذكير
بتجارب بافلوف، بل تجدني ميال لتذكير بقصة ذلك
الطبيب العربي الذي أتى بظبية
وذئب، وربط كل منهما
مقابل الآخر.. ثم وفّرّ
لكل منهما كل متطلبات البقاء...
أحضر أفضل أنواع الغذاء للظبية..
إلاّ أنّها أصيبت بالنحول،
وأخذت تضمر إلى أن ماتت.. إنني
أشبه الحياة، في ظل قوانين الطوارئ، بحياة تلك
الظبية المربوطة بقرب الذئب،
والتي ماتت نتيجة خوفها
من الذئب..
أي إنّ فرض حالة الطوارئ في
المجتمعات العربية لفترات
طويلة، تصل إلى عشرات العقود (كما هو في بعض
البلدان)، والطموح ربما لبقائها
قروناً، تهدف إلى
أن يصبح الخوف والهلع
والجبن في جينات الإنسان العربي
وفي دمه يتوارثه، وتفقد عنده أية
إمكانية لمواجهة أي عدو، وإذا
أخذنا بعين الاعتبار وجود
المشروع الصهيوني في المنطقة، الذي يعد أساس نجاحه ضعف
العرب وجبنهم وتخلفهم.. فإننا
نستطيع تفسير سبب
فرض هذه الحالة لفترات
طويلة، والمستفيد الأساسي منها...
والدعم الذي تتلقاه
الأنظمة
التي تفرضها، مما يجعلها تتجاهل
بغطرسة أية دعوة لرفعها..
ولما كانت حالة الطوارئ تخول
مختلف أجهزة الدولة الأمنية
اعتقال أي مواطن، بحجة المحافظة على أمن
البلاد، ومع استفحال الفساد،
يستطيع المتنفذون شراء
بعض ضعاف النفوس من
الجهاز، واستئجارهم لاعتقال
مناوئيهم السياسيين أو
الاقتصاديين..
ولما كانت البنية السياسية
البائسة في حالة الطوارئ، تعتمد
على ضعاف النفوس والوصوليين
والانتهازيين، ولما كانت طبيعة
هؤلاء تسمح لهم في التعاون
والتعامل مع أية جهة
تحقق لهم مصالحهم، فمن الطبيعي
أن يسهل خرق هذه البنية من قبل العدو،
الذي لا يستبعد أن يتغلغل في
صفوفها، ويعمل على تنفيذ مآربه
من الداخل، والأمثلة كثيرة على ذلك... أي إنّ
حالة الطوارئ تخلق التربة
المناسبة لتغلغل العدو
في المفاصل الأساسية
الاقتصادية والاجتماعية
والسياسية في البلاد، التي
تهيمن فيها لفترة
طويلة.. وأعتقد أنّ الكثيرين
اطلعوا، على سبيل المثال، على
تبجح رئيس أركان إسرائيل بزيارته لمدن في عمق
بلدان تحتل إسرائيل أراضيها..
يحاول البعض أن يبرر الحكم بموجب
حالة الطوارئ بحالة المجتمعات العربية وثقافتها، التي يعدها
البعض حاملة للاستبداد.. وفي هذا
المجال لا بد من
التنويه، من جهة، على
أنّ فرض حالة الطوارئ، لفترات
محددة، وفي أماكن محددة من البلاد،
لأسباب كارثية أمر مبرر، إنما
الأمر غير المبرر هو الحكم
بموجبها لفترات غير محددة المدة.. من الضروري
تحديد مدة سريان مفعولها في حال
فرضها والأسباب
الموجبة لذلك.. ومن جهة
أخرى نذكر بأنّ الشعوب العربية
والثقافة العربية، مثلها مثل جميع
شعوب العالم وثقافاتهم، مرت
بمراحل مختلفة من الصعود
والانحطاط، وتحمل في طياتها كثير مما هو متحضر ومتنور
فضلاً عن المتخلف..
وللذين يبررون فرض حالة الطوارئ
بحالة الحرب، وضرورات مواجهة
العدو، نقول فضلاً عمّا ذكرناه آنفاً من
حجج تثبت أنّها تضعف البلاد
والأوطان في مواجهة
العدو، من المنطقي
التساؤل عن أية حالة حرب يجري
الحديث، مع العلم بأنّ إسرائيل، أثناء
حروبها التي احتلت خلالها
الأراضي العربية، بمساعدة
الولايات المتحدة الأمريكية، لم تعش حالة الطوارئ
التي فرضت على الدول العربية،
كما أنّ الشعبين
العربيين اللذين
استطاعا تحقيق انتصارات في
المواجهة المباشرة مع العدو، في
أواخر القرن
العشرين، هما الشعب الفلسطيني
والشعب اللبناني، وربما كان أحد
أسباب قدرتهما على المواجهة المباشرة للعدو، هو
عدم وجود حالة طوارئ تكبلهما..
وفي هذا السياق من
المفيد
القول، بأنّه لا المقاومة
اللبنانية ولا المقاومة
الفلسطينية استطاعت أن تحقق أية انتصارات على العدو،
لولا صمود الشعبين الفلسطيني
واللبناني، فلو لم يتمسك
الشعب اللبناني
بمختلف طوائفه بأرضه، لتعامل
العدو مع المقاومة بشكل آخر..
فالذي يتحمل
تبعات المقاومة هو الشعب، وجلّ
ما يخافه أي عدو هو مواجهة
الشعوب، والأمثلة التاريخية كثيرة على ذلك، ولهذا
السبب تجده يريد التعامل مع
الأنظمة وليس مع
الشعوب، وكم يسعده أن
تتسلح تلك الأنظمة بحالات
الطوارئ والأحكام العرفية،
التي تقمع
أية إمكانية لفكر المقاومة...
من كل ما تقدم يتبين أنّ حالة
الطوارئ، والأحكام العرفية
تضعف البلاد اقتصادياً واجتماعياً
وسياسياً، كما أنّها تكبل
الشعوب، وتخلق أجيالاً من
الضعفاء الخانعين،
وتعطل أية إمكانية للحياة
السياسية السليمة في البلاد..
وكما أنّ أي
إصلاح اقتصادي لا يترافق مع
الإصلاح السياسي لن يصل إلى
مبتغاه، فإنّ أي إصلاح سياسي في ظل حالة الطوارئ
والأحكام العرفية والقوانين
الاستثنائية لن يلبي متطلبات
بناء
المجتمع السياسي والحياة
السياسية السليمة.
لقد أصبحت مسألة إلغاء حالة
الطوارئ ووقف العمل بالأحكام
العرفية والقوانين الاستثنائية، وفسح
المجال أمام التطور
الديموقراطي الحر، وبناء دولة
القانون
الدستورية التداولية مهمة
اقتصادية وسياسية واجتماعية
وثقافية وأخلاقية ووطنية
من الدرجة الأولى.
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|