لسنا
مخابرات سورية !!
أحمد
ريحاوي
موقف حدث معي منذ
عام 1982، في إحدى مدن ألمانيا
الشمالية، وكان قد مضى على
مغادرتي سورية نحو أربعة عشر
شهراً، وصرت قادراً على التحدث
بالألمانية بدرجة مقبولة.
مازلت أذكر ذلك
الموقف بأسى وحزن. ليس لأنه موقف
حزين بنفسه، ولكن لأنه حرك في
نفسي مشاعر الأسى لما نكبت به
أمتنا منذ تمكن المغامرون ورجال
العصابات من فرض سيطرتهم
بانقلاب عسكري في آذار 1963،
وإعلانهم حالة الطوارئ
والأحكام العرفية، وحكم الحزب
الفرد القائد، حزب الـ..
بينما كنت أتناول
طعام الفطور في صبيحة يوم دافئ
من أيام أيار عام 1982، رن جرس
الباب، وخرجت فإذا رجلان شابان،
يبدو أحدهما في أواخر العقد
الثالث من عمره، ويحمل بيده
جهاز لاسلكي، والآخر يكبره ببضع
سنوات.
ارتجف قلبي للمشهد،
وحاولت أن أتظاهر بالتماسك
ورابطة الجأش.
ابتدأ أحدهما
بالكلام:
ـ صباح الخير
ـ صباح الخير
ـ نحن من رجال الأمن
(وأخرج كل منهما هوية تثبت
انتماءه إلى المخابرات
الألمانية)، ونحب أن نجلس معك
مدة ربع ساعة! هل تسمح لنا
بالدخول؟!
أدركت في نفسي أن
هذا الأسلوب المهذب منهما لا
يعني شيئاً. فهما، كما يظهر
عليهما، بل كما صرحا، من رجال
الأمن، أي من المخابرات. وهذا
يعني أنهما سيدخلان البيت شئت
أو أبيت، بل قد يعرضاني للضرب
والإهانة، وقد يسوقانني معهما
إلى المعتقل.. وأنا ما خرجت من
سورية إلا هرباً من دخول
المعتقل!! سبحان الله، هل كتب
علي أن أتلقى أذى المخابرات
أينما ذهبت؟ لقد تعرضت للاعتقال
في بلدي أكثر من مرة، وإذا فلست
بحاجة إلى من يعرفني بأساليب
المخابرات وإرهابها وظلمها.
هذه التداعيات مرت
في خاطري خلال ثانية واحدة، أو
خلال سنة كاملة. فلقد شعرت أن
هذه الثانية تعادل فعلاً سنة
كاملة. لكن الموقف لا يحتمل
التأخر في الإجابة. قلت لهما:
تفضلا.
جلسا على أريكة
أمامي، وبدءا يسألانني عن اسمي،
وعمري، ومكان إقامتي في سورية،
ووضعي العائلي، وعن مراحل
حياتي، وعن انتمائي السياسي،
وعن السبب الذي جعلني أترك بلدي
وآتي إلى ألمانيا.
ومع أن أسلوبهما
كان مهذباً، بعيداً عن
الاستفزاز، مصوغاً بعبارات
موضوعية، ليس فيه ما يجرح
الكرامة أو يسيء.. فإن مظاهر
القلق والارتباك كانت تبدو على
صوتي المرتجف، وإن كنت أحاول أن
أخفيها عن هذين الضيفين.
لقد أدركا من لهجتي
المترددة، ومن ثقافتهما
ومعرفتهما بأساليب مخابرات
بلدنا، أنني لا أتكلم براحة
واطمئنان، لذلك قال لي كبيرهما:
(أيها السيد، نحن
نلاحظ عليك الاضطراب
والارتباك، ونحن لا نحب أن
نحرجك. لقد دخلنا البيت بإذنك،
أنت صاحب البيت، وأنت سيد
الموقف. بإمكانك أن تمتنع عن
الإجابة على أي سؤال. بل بإمكانك
أن تأمرنا فنخرج من البيت، إذ
ليس من حقنا أن نؤذي مشاعرك، أو
أن نبقى في بيتك بغير رضاك.
بالخلاصة: نحن رجال مخابرات
ألمانية، ولسنا رجال مخابرات
سورية. وأن هدفنا من زيارتك هو
معرفة درجة الخطر الذي قد تتعرض
له، حتى نؤمن لك الحراسة
المناسبة).
كان لكلام هذا
الضابط أثران متناقضان في نفسي.
أثر مريح أزاح عني بالفعل كل
ارتباك واضطراب جعلني أسترد
هدوئي النفسي.. وأثر محزن مؤسف:
لماذا أستطيع الشعور
بالاطمئنان أمام ضابطي أمن
أجنبيين، يخالفانني في عقيدتي
وجنسيتي واتجاهي السياسي.. ولا
أحصل على مثل هذا الشعور عندما
أجلس أمام المحقق في بلدي؟!
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|