ولكنّ
السوريين لا بواكيَ لهم ...
الطاهر
إبراهيم*
إن من ذاق مرارة الظلم لساعة
واحدة، يفرح عندما يرى مظلوما -ولو
كان في آخر الدنيا- قد تخلص مما
لحقه من الظلم. ومن لم يذق الظلم
،ولو لمرة واحدة، قد لا يدرك مدى
القهر الذي يعتصر قلوب
المظلومين وهم يتلفتون يمينا
وشمالا لعلهم يجدون من يسارع
لنجدتهم وتخليصهم من جبروت
ظالمهم. ولا يدرك كم هو قاهرٌ
ومذلٌ ظلمُ أخٍ لأخيه في الوطن،
إلا من تعرض لمثل ما تعرض له هذا
المظلوم.
المواطن المضطهد يشعر بالانكسار
وهو يرى أخوة له غير آبهين بما
لحق به من ظلم. ولعل الأقسى من
ذلك أن يرى مواطنين يبشون في وجه
الظالم ويأخذونه بالأحضان،
ولعله قبل أن يلقاهم كان قد وقع
أمرا باعتقال آلاف المواطنين.أما
الذين يملأون صفحات الجرائد في
مدح الظالم، ويملأون شاشات
الفضائيات بصور بطولاته
الكاذبة، فقد انسلخوا عن كل
شعور نبيل يربطهم بأخوتهم
المظلومين.
المواطن السوري عاش مسحوقا على
مدى أربعة عقود، يأوي إلى بيته
والخوف يملأ قلبه من ليلة تأتيه
بزوار الليل يقودونه إلى ظلام
المعتقلات. ويستيقظ صباحا يحمد
الله أن مرت ليلته على خير. وليس
هذا كل شيء فقد اضطر أن يعيش هذه
العقود الأربعة على هامش الحياة
بعد أن استولى أباطرة الفساد
على كل شيء في سورية.
وليقل أصحاب الشعارات الكاذبة ما
يقولون، فإن إعلان الرئيس بشار
الأسد عن سحب القوات السورية من
لبنان خطوة في تصحيح العلاقة
بين سورية ولبنان، وخطوة أخرى
تسحب البساط من تحت أرجل
الأجهزة الأمنية السورية
واللبنانية في لبنان، مما يجعل
الروح تتردد من جديد في صدر
المواطن السوري بأن وقت خلاصه
من سطوة أجهزة الأمن السورية قد
قرب وبات قاب قوسين أو أدنى.
ويبقى هناك ما ينغص المواطن
السوري هو شعوره أن ما يعانيه
ليس محل الاهتمام كما هو حال
المواطن اللبناني. فلأول مرة
تتطابق وجهتا نظر أمريكا وفرنسا
على قضية منذ عهد "ديغول"،وهي
إخراج الجيش
السوري من لبنان.كما أن
كثيرا من الدول العربية تتسابق
لتقديم النصيحة للرئيس السوري
حتى يبادر بإخراج نفسه من
المستنقع اللبناني. أما جماعات
حقوق الإنسان وهيئات المجتمع
المدني فإنها تؤكد أن من حق
الشعب اللبناني أن لا تفرض عليه
الوصاية من خارج وطنه.
ولئن كان لبنان قد عاش عقدا ونصفا
تحت نفوذ بعثي منقوص،وعاش عقدا
ونصفا في ظل نفوذ بعثي كامل، لكن
الشعب اللبناني بقي يتمتع ببعض
الحرية، وإن كان سقفها منخفضا.كما
أنه كان في لبنان صحف موالية
للنظام السوري، ولكن كان هناك
أيضا صحف معارضة تتكلم بصوت
عالٍ حتى في أيام العميد "غازي
كنعان". بينما لم يكن في سورية
خلال أربعة عقود إلا صحيفة
البعث وأختاها تشرين والثورة،
اللواتي كان شعارهن السكوت من
ذهب.
ولقد أفرزت أول انتخابات نيابية
لبنانية بعد الطائف في ظل
النفوذ السوري أكثرية من
الموالين، فقد كان هناك مجموعة
معارضة لها صوتها المرتفع في
مجلس النواب.بينما بقي مجلس
الشعب السوري على مدى ثلاثة
عقود يعين فيه ثلثا أعضاء
المجلس من قبل القيادة القطرية
والثلث الباقي من المستقلين
المحسوبين بشكل أو بآخر على بعض
النافذين في القيادة القطرية.
وهم على كل حال لا يخرجون عما
يريده رئيس المجلس.
هذا الهامش الضيق الذي كان يتمتع
به اللبناني كان معدوما عند
أخيه السوري. وذاك السقف
المنخفض من الحريات عند
اللبنانيين لم يكن موجودا أصلا
عند السوريين. ولذلك كان
المواطن السوري يتلفت يمينا
ويسارا متسائلا عما إذا كان قد
جاء من كوكب آخر فلا يبالي به
أحد. بل إنه لا يكاد يعرف شيئا عن
هذا المخلوق الخرافي الذي
يسمونه حرية، أو عن "ثامنة"
عجائب الدنيا السبع التي
يسمونها ديموقراطية.
لبنان وسورية يتمتعان بتوأمة قل
أن يتمتع بها قطران متجاوران.
الأسرة الواحدة يعيش نصفها في
دمشق والنصف الآخر في بيروت.
وكثير من الأسر اللبنانية أخذت
أسماءها من أسماء المدن السورية.
فهناك الحلبي والحمصي والحموي.
وكذلك هناك عائلات سورية كثيرة
بأسماء مدن لبنانية، فهناك آل
البيروتي وآل الطرابلسي وبيت
البقاعي.
ومع هذا التشابه الكبير بين
الشعبين السوري واللبناني، فإن
الاهتمام بهما مختلف. فأمريكا
تهدد وتتوعد النظام السوري إذا
لم يدع اللبنانيين وشأنهم.
وفرنسا تذرف دموع التماسيح على
الحرية الموءودة في لبنان. ووزيرٌ من دولة عربية
يذهب إلى دمشق، وأخرى تستقبل
الوزير الشرع. ودولة عربية
تستقبل الرئيس السوري، وأخرى
يأتي رئيسها إلى دمشق. وكل هؤلاء
يبحثون في شأن المواطن اللبناني.
ويقف المواطن السوري ليتساءل
"ما عدا مما بدا" حتى لا
يهتم به أحد ممن اهتموا بأخيه
اللبناني؟ "أم أن السوري لا
بواكيَ له".
ألا يستحق السوري بعض الاهتمام
من القادة العرب، وقد كان مضرب
المثل في مؤازرة إخوانه في
الدول العربية أيام كان بعضٌ
منها ترزح تحت الاحتلال الأجنبي.
فهذا "سليمان الحلبي" الذي
كان يدرس في الأزهر، قدم نفسه
شهيدا عندما أقدم على قتل "كليبر"
نائب "نابليون"في عام 1802. و"عز
الدين القسّام" جاء من الساحل
السوري إلى فلسطين ليقاتل
اليهود والإنكليز حتى سقط فيها
شهيدا.
ولعل من بقي جيل الخمسينيات ما
يزال يذكر كيف قام العمال
السوريون ،أثناء العدوان
الثلاثي على مصر، بتدمير خطوط
"التابلاين" التي كانت
تنقل البترول إلى أوروبا.
مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية
ولا يقولنّ أحد من القادة العرب
أنه لا يعرف مدى الذلّ الذي
يتعرض له المواطن السوري على
أيدي أجهزة الأمن.فليس هناك
دولة عربية إلا وفيها آلاف
السوريين الذين يعيشون على
أرضها بدون جوازات سفر بعد أن
حرمتهم أجهزة الأمن السورية من
تلك الوثيقة.
طالب عمره أقل من عشرين عاما، "سوى
وضعه" تحت ضغط حاجته إلى جواز
السفر ونزل إلى مدينته "حماة".
ولأن أباه "فلان" يعيش
منفيا عن وطنه، فقد أرسل رئيس
فرع المخابرات العسكرية في
مدينة حماة العميد ( أ. ح) من
اعتقل هذا الطالب وحوله إلى سجن
"تدمر" الرهيب" وقد كتب
بجانب اسمه: لا يطلق سراحه إلا
بمعرفة العميد (أ. ح). هذا العميد
قضى بعد أن اصطدمت سيارته مع
صهريج يحمل محروقات. فهل على هذا
الطالب المسكين أن ينتظر إلى
يوم القيامة، لأن من سيأمر
بإطلاق سراحه غادر إلى الدار
الآخرة.
ولماذا نذهب بعيدا. فقد أرسل
مواطن سوري يعيش في السعودية،
برقية إلى الرئيس بشار كتب فيها
أن ابنه يعاني من مرض عضال،
والقنصل السوري في"جدة"
يرفض منح الولد جواز سفر بعد أن
اطلع على حاله، وهو يرجو الرئيس
الإيعاز لمن يلزم بتلبية طلب
ابنه. وقد مضت سنة ولم تصدر "المكرمة
الرئاسية" حتى الآن.
بعض القادة العرب نصحوا الرئيس
بشار الأسد بأن يسحب الجنود
السوريين من لبنان. ومن قبيل
الأسوة فالشعب السوري يتوجه إلى
هؤلاء القادة –وهو عندما يفعل
ذلك لا يستجدي ولكنه يطالب بحق
الأخوّة-أن ينصحوه مرة ثانية
بأن يصطلح مع الشعب،وأن يفرج عن
الديموقراطية المعتقلة بموجب
قانون الطوارئ سيء السمعة،قبل
أن ترتد عليه أمريكا بحجة أنه
يقف في وجه الديموقراطية في
الشرق الأوسط الكبير.
لقد بقي الشعب السوري على مدى
أربعة عقود مغيبا عن قضاياه
الوطنية، بعد أن فرض نظام حزب
البعث نفسه حاكما لسورية، وفرضت
فئة من هذا النظام الوصاية على
الشعب السوري، وقامت بمغامرات -لا
ناقة للشعب السوري بها ولا جمل-
منها إدخال الجيش السوري إلى
لبنان، ما أدى إلى أن يجد بعض
اللبنانيين في أنفسهم، ليس تجاه
النظام البعثي فحسب بل وتجاه
الشعب السوري الشقيق أيضا.
قد يبدو للوهلة الأولى أن هناك من
اللبنانيين من يقف مع النظام
السوري، -وبعض هؤلاء في واقع
الأمر يقفون مع أنفسهم ضد
أمريكا التي تستهدفهم مثل حزب
الله-أما الشعب السوري رغم كل
الاستفتاءات المزورة، فلا أحد
منه مع هذا النظام،إلا ما كان من
القلة الذين استنزفوا خيرات
الشعب وحولوها إلى دولارات
سائلة توضع في البنوك الأوروبية.
وبهذه المناسبة يجب أن لايلوم
النظام السوري اللبنانيين
الذين انتفضوا يطالبون بانسحاب
الجيش السوري من لبنان، فمكان
هذا الجيش الطبيعي هو على
الحدود بمحاذاة الجولان
المحتل، لا في لبنان.ومع ذلك فشل
في المهمة التي يزعم النظام أنه
موجود من أجلها في لبنان،وآخرها
اغتيال المرحوم رفيق الحريري
تحت سمع وبصر أجهزة الأمن
اللبنانية والسورية.
ولقد أرسل الرئيس حافظ الأسد
وحدات من الجيش السوري إلى "حفر
الباطن" لتقاتل تحت راية
أمريكا لإخراج الجيش العراقي من
الكويت. وقياسا على هذا الموقف
يجب على النظام السوري سحب
الجيش السوري من لبنان. بل عليه
أن يقدم اعتذاره للشعب
اللبناني، لعل بهذا الاعتذار
تطيب نفوس اللبنانيين ويزول كل
أثر غير محبب خلفه الوجود
السوري في لبنان. فالشعب السوري
لا مصلحة له في المغامرات التي
أقحم فيها الجيش السوري في
لبنان.
أخيرا: فإن الشعب السوري أكبر
وأشرف من أن يطلب من أمريكا أن
تغزو سورية -كما فعلت في العراق-
لإنهاء حكم حزب البعث. أما إذا
فعلت أمريكا ذلك من تلقاء
نفسها، فلن يقف ليدافع عن هذا
النظام.ولكنه سيهب في اليوم
التالي ليرفع السلاح في وجه
أمريكا لإخراجها من سورية كما
يفعل أشقاؤه في العراق،،،،،
* كاتب سوري يعيش في
المنفى / عضو مؤسس في رابطة
أدباء الشام
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|