ماذا
بقي من البعث السوري
بقلم:
محمد الحسناوي*
لم يبق إلا قمع
الشعب ، وليس القمع أساس الملك .
في حي الأسد في
العاصمة السورية دمشق ..يوجد
صالون حلاقة نظيف ونشيط ، يقصده
كبار الضباط ووجهاء الحي المترف
، ومع ذلك تظهر أمارات البؤس على
معلم الحلاقة فيه . تجرأ أحد
المواطنين المشفقين ، وسأل أبا
أحمد الحلاق عن التناقض بين
إقبال الزبائن وإفلاس ذات يده ،
فاعترف الشاب النشيط المحبوب
بأنه ليس صاحب الصالون ، بل هو (مجند)
عسكري ، يعمل في الصالون بدلاً
من الخدمة العسكرية ، وأن صاحب
صالون الحلاقة هو الضابط (فلان)
قائد الوحدة العسكرية المحسوب
عليها ، وعائدات الصالون تعود
لهذا الضابط وحده . ضحك المواطن
المشفق ضحكة ذات معنى ، وتذكر أن
عدداً من أبناء حارته المجندين
يعملون سائقي تكسي عمومي في
بيروت عند قائد القطعة العسكرية
التي يتبعون إليها !!
طوال أربعين
عاماً ، التي تربع فيها على
السلطة الحزب الحاكم ، وهو
يزاود بالسياسة الخارجية
اعتذاراً عن انهيارت السياسات
الداخلية : من حقوق إنسان وتنمية
وعلم وثقافة ومجتمع مدني ،
بدعوى أن
( لا صوت يعلو فوق صوت
المعركة ) ، وإعلامه يضج بشعارات
توحيد الأمة وتحريرها من
الاحتلال والاستعمار ونهب
الثروات ، مع العلم أنه اقترف في
الشؤون الخارجية ما اقترف من
تمزيق الصف العربي إلى شق
المقاومة الفلسطينية وضرب
قواها وتدمير مخيماتها ، ودخول
قواته إلى لبنان ، وذهابه إلى
حفر الباطن لمؤازرة دول العدوان
الثلاثيني ضد قطر عربي شقيق
مجاور ، والاشتراك بمؤتمر مدريد
للتسوية مع العدو الصهيوني . ومع
ذلك ، وبسبب المثالب التي تلف
بقية الأنظمة العربية
وسياساتها الخارجية المتخلفة ،
ظهر النظام السوري بأنه اقل
شراً في سياساته الخارجية ،
وترجم ذلك إلى ميزة تفوق على
أنظمة الأقطار الأخرى ، تمّ
توظيفها ، والنفخ فيها ، حتى صدق
من صدق هذه البروبوغندا .
اليوم حانت ساعة
الحقيقة ، فلم يعد للمزايدات
مفعول كافٍ ، لأن الاستحقاقات
واضحة وصريحة ، فالحدود السورية
العراقية تم ترتيبها وتوضيبها
بالمراقبة والخنادق
والاتفاقيات ، والقطيعة
السياسية رممت بتبادل التمثيل
السياسي ، ومكاتب المنظمات
الفلسطينية في دمشق قدرت الظروف
المستجدة فرحلت
(طواعية ) منها ، والتسوية
السلمية مع العدو الصهيوني بلا
شروط يطلبها النظام السوري
بإلحاح بعد تعديل ميثاق جبهته
الوطنية الحاكمة ، وبالعكس صار
الكيان الصهيوني يضع الشروط ،
وعلى الجولان وتحرير فلسطين
السلام .
فإذا كان الحزب
الحاكم وصل إلى السلطة واستمر
بها طوال أربعين عاماً بانقلاب
عسكري ليصلح الأوضاع الداخلية
والخارجية ، وما أصلح ، بل زاد
بالسوء والفساد ، فما معنى
استمراره ، وكيف يستمر بغير
القمع الذي جاء به واستمر،
وزادت حاجته إليه مجددا .
إن الحزب الحاكم
يعلم مدى وطنية شعبه وقواه
الوطنية ، وأنه لم ينس حتى الآن
التفريط بجبهة الجولان المنيعة
. وما كانت مزايدات النظام في
السياسة الخارجية والقضية
الفلسطينية بالذات إلا صدى
للمشاعر الشعبية السورية تجاه
فلسطين المقدسة والحرم الشريف ،
الذي يصنع منبره في الشام عادة ،
ويتم تحريره أكثر من مرة من
الشام ، وقبر صلاح الدين
الأيوبي في الشام .
إذا كان الأمر
كذلك ، فأين يذهب الحزب الحاكم
وجبهته الحاكمة في المباحثات
السرية والعلنية مع الكيان
الصهيوني ؟
أولا : إن النظام
السوري لا يملك الشرعية
الدستورية لتمثيل شعبه ، لاسيما
في قضايا مصيرية ، مثل قضية
فلسطين وحق العودة والجولان .
وانتخابات ما يسمى مجلس الشعب
مسرحية معلومة لدى القاصي
والداني ، وكل ما يبنى على باطل
فهو باطل .
ثانياً : إن دعوى
تفاوت ميزان القوى بين القطر
والعدو .. مردود ، لأن إخراج
الشعب السوري من السياسة هو أول
الوهن في القوى ، وإن إعادة
السياسة للشعب السوري ، يقوي
الوحدة الوطنية والجبهة
الداخلية ، فتستعصي بالمقاومة
على أي تدخل أو احتلال من جهة ،
ويفتح الباب للقاء الشعوب في
الأقطار العربية الأخرى
والمواجهة العربية الإسلامية
العامة الموحدة للأخطار
الخارجية من جهة ثانية .
ثالثاُ : إن نظام
الحزب الحاكم ، بالرغم من كل
الفرص التي تمتع بها طوال
أربعين عاماً ، أثبت إخفاق هذا
النظام عندنا وعند الآخرين ،
وإن كثيراً من مظاهر ضعف القطر
وانحطاطه ناجم عن هذا النظام
الحديدي المتخلف .
رابعاً : إن
الحلول الرسمية ( مثل تغيير
الوزارات) المطروحة حتى الآن
للخروج من عنق الزجاجة ، لا
تتعدى المسكنات ، أو الإجراءات
الديكورية .
خامساً : إن منطق
التسويغ للانعطافات السياسية
المصيرية مئة وثمانين درجة ، أو
المراوغة في تمريرها درجة درجة
، كالسم الناقع في العسل المصفى
.. أمر لا يليق بمن أؤتمن على
الوطن أو فرض نفسه لهذه المهمة ،
كما أنه لم يعد يخفى على
المواطنين لشدة وضوحه ولازدياد
الوعي الشعبي .
يقول المواطن
السوري : على تقرأ مزاميرك يا
داود؟
بمعنى آخر يقول :
إن النظام الذي ارتكب مأساة (حماة)
و(تدمر) ومجازر تل الزعتر
والكرنتينا ، وذهب إلى حفر
الباطن ومؤتمر مدريد ، وفاوض
العدو سراً أكثر من مرة ، لا
يرجى منه خير . وبمعنى آخر : إن
حزب البعث المنادي بالوحدة
والتحرير والاشتراكية انتهى
منذ أن تحول من حزب معارض إلى
حزب حاكم وحيد ، بل إنه انقلب
على نفسه في الحكم مرات ومرات ،
وذهب قادته التاريخيون وأعضاؤه
العاملون ، وحل محلهم مجموعات
من المغامرين العسكريين
الريفيين ، الذين اتخذوا الحكم
تجارة ومقاولات وسمسرة .
سادساً : إن إفلاس
حزب إيديولوجي كالبعث في سورية
والعراق ، والشيوعية في دول
الاتحاد السوفياتي .. أعطى
انطباعاً عند بعض الناس بإفلاس
كل حزب أو سياسة إيديولوجية حتى
الإسلام ، وهذه كارثة أكبر من
كارثة حزب بعينه .
من هنا تأتي أهمية
الرسالة السرية (العريضة) ، من
حيث المضمون والتوقيت والكيفية
، التي تقدم بها رجال الدين
العلويون (293 شخصية ينتمون إلى
مختلف العشائر في الطائفة
العلوية ) ،
إلى رئيس الجمهورية بشار الأسد
بتاريخ 26/11/2004 ، يطالبونه فيها
بمطلبين مهمين : أحدهما : ( أن لا
يسعى إلى إبرام اتفاق سلام مع <اسرائيل>
طالما أن علوياً على رأس الدولة
...إن من شأن أي اتفاق ...وسم هذه
الطائفة بالخيانة الوطنية
مستقبلاً ، وهي المتهمة أصلاً
بذلك من قبل أغلبية المسلمين
السنة) ، ثانيهما :
( الضرب بيد من حديد ، وبقلب
لا يعرف الرحمة ولا الشفقة
، على أيدي الذين أهلكوا
الزرع والضرع ، وزرعوا الفساد
في كل مفاصل البلاد ، وبالأخص
منهم بعض أفراد أسرتكم الكريمة
، الذين يسودون بأفعالهم
الشنعاء ، ما تتركه أياديكم
البيضاء في نفوس الخلق من
الرجال والنساء ) ( أخبار الشرق
27/11/2004 م ) .
إن من يعرف تركيبة
المجتمع السوري ونظامه الحاكم
يستطيع أن يقدر أهمية الرسالة
المشار إليها حق قدرها ، ويقدر
التداعيات التي سوف تنشأ عنها .
وعلى كل حال ، لا
يجهل أحد طبيعة النظام السوري ،
فهو على الرغم من كونه حكم حزب
واحد قائد للدولة والمجتمع بنص
المادة (8) من الدستور ، هو في
الوقت نفسه نظام رئاسي ، يجمع
السلطات الثلاث ( التشريعية
والقضائية والتنفيذية ) في وقت
واحد وبيد رئيس الجمهورية ( وحده
لا شريك له ) . من مواد الدستور
الجامعة ( المادة 91) : ( لا يكون
رئيس الجمهورية مسؤولاً عن
الأعمال التي يقوم بها في
مباشرة أعماله إلا في حالة
الخيانة العظمى ، ويكون طلب
اتهامه بناء على اقتراح من ثلث
مجلس الشعب على الأقل ، وقرار
مجلس الشعب بتصويت علني
وبأغلبية ثلثي أعضاء المجلس
بجلسة خاصة سرية ، ولا تجري
محاكمته إلا أمام المحكمة
الدستورية العليا) . فإذا كان
رئيس الجمهورية هو الذي يعين
أعضاء المحكمة العليا ويعفيهم
من مناصبهم
(حسب القانون) فما معنى
محاكمتهم له ؟
أما هيمنة رئيس
الجمهورية على السلطة
التنفيذية بما فيها ( القائد
العام للجيش والقوات المسلحة ) ،
فانظر مواد الدستور : ( 95و103وو109 )
وهذه الأخيرة تنص على مايلي : (
يعين رئيس الجمهورية الموظفين
المدنيين والعسكريين ، وينهي
خدماتهم وفقاً لقانون ) ، وأضيف
إلى ذلك مؤخراً نص المادة
الجديدة في قانون العمل ذات
الرقم (136) ( الحق لرئيس
الجمهورية بفصل أي موظف عامل في
الدولة بلا تعليل ، والقرار غير
قابل للطعن به أمام أي محكمة من
محاكم السورية ) .
أما سيطرة الرئيس
على السلطات التشريعية لاسيما
مجلس الشعب حلاً وتشكيلاً
وإصدار التشريعات في غياب
المجلس ووجوده وبين الدورتين
فانظر المواد : ( 107 و108 و111/1و111/2و111/4)
.
إذا كانت كل هذه
الصلاحيات بيد رئيس الجمهورية ،
ولم يستطع خلال مدة أربع سنوات
من ولايته ، أن يحقق شيئاً من
خطاب القسم الذي أداه يوم توليه
السلطة لأول مرة ، فكيف يستطيع
أن يتحمل مسؤولية القرارات
المصيرية كالصلح مع الكيان
الصهيوني . كان بوسعه إجراء
المصالحة الوطنية ، أو الشروع
بالعودة إلى الحياة الدستورية
بإصلاح السلطات الثلاث ، بعد
إصدار عفو عام عن سجناء الرأي ،
وإطلاق الحريات العامة
والسياسة للمجتمع ، إذا لم
يستطع شيئاً أي شيء من هذه
المتطلبات ، فإنه يستطيع أن
يتنحى لكيلا يبوء بأوزار
الاستحقاقات غير المشرفة .
يقول المواطن
السوري مرة أخرى : على من تقرأ
مزاميرك يا داود ، تقرأها على
عمر بن عبد العزيز أم على صلاح
الدين الأيوبي ؟
*
كاتب سوري وعضو رابطة أدباء
الشام
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|