من
دفاتر حزب البعث في الستينيات
"محسوبك"
حرس قومي
الطاهر
إبراهيم*
يخطئ
كثير من الناس عندما يضعون فئة
من الناس ،قبيلة أو أسرة أو حزب
في "سلة" واحدة، ويعممون
عليها الحكم من دون استثناء. قد
يكون الأغلبية أو الأكثرية
الساحقة يمكن أن تجري عليهم
حكما واحدا، ولكن لا بد من
الاستثناء، وهو ما يسمى في علم
المنطق "صيانة الاحتمال".
واستطرادا
فإنه لا يجوز ،عقلا، أن نضع
البعثيين السوريين ،الذين
استلموا مناصب معينة خلال أكثر
من أربعة عقود، في خانة واحدة ،
وحتى من وضعوا في خانة واحدة
تتفاوت النظرة إليهم بين شخص
منظور وآخر، وكذلك بين شخص ناظر
وآخر.
حسن
الخطيب الذي عرفته مدينة "معرة
النعمان" مدرسا قديرا،وقبلها
عرفته قرية "كفرنبل"
(عشرة
كيلو مترات غرب معرة النعمان)
طالبا مشاكسا، انتقل منها إلى
"معرة النعمان" طالبا في
ثانوية "أبي العلاء المعري"
يقود مظاهرات الطلاب البعثيين
في خمسينيات القرن العشرين في
مواجهة الإخوان المسلمين،
الذين كان يقودهم زميل له نضرب
صفحا عن ذكر اسمه لأنه ما يزال
في الأحياء ،أمد الله في عمره.
عين
حسن الخطيب مديرا للتربية
والتعليم في محافظة"إدلب"
في بدايات حكم حزب البعث. صحيح
أن اختياره جاء أولا بسبب
انتمائه البعثي، ولكن الصحيح
أنه كان يتمتع ببعض الصفات التي
يحتاجها من يتصدى لولاية عامة.
عرض
عليه ،يوما، البريد اليومي
لتوقيعه، فاستوقفه في البريد
كتاب استقالة من مدير أحد
المدارس الابتدائية في منطقة
"حارم"(بلدة شمال ادلب على
حدود تركيا كان نسبة البعثيين
فيها أكثر من باقي مناطق
المحافظة)، فوضع كتاب الاستقالة
جانبا، وطلب من رئيس الديوان أن
يبلغ المدير المستقيل أن يحضر
في اليوم التالي، لمقابلته
شخصيا.
حاول
مدير المدرسة المستقيل أن يخفي
السبب الحقيقي وراء استقالته.ولكن
حسن الخطيب الخبير في مثل هذه
الحالات بحكم منصبه، استطاع أن
يعرف السبب الحقيقي وراء طلب
الاستقالة. وملخصه أن آذن
المدرسة (الفرّاش) كان بعثيا،
وكان يرفض تلبية الطلبات التي
هي من صميم عمله، (عمل شاي
للضيوف، كنس غرف المدرسة تأدية
بعض الخدمات الرسمية لمدير
المدرسة). وفي كل مرة كان يتبع
رفضه بتعبير "محسوبك حرس قومي".
(لمن لا يعرف خفايا تلك الفترة،
فقد شكل حزب البعث من بين
منتسبيه "ميليشيا" يحمل
أفرادها السلاح خارج أوقات
الدوام الرسمي ويرتدون ثيابا
شبه عسكرية، وكانوا يشيعون عدم
الاستقرار في نفوس كل من يحتكون
به). و"محسوبك" في التعبير
السوري، تعني محدثك، -في بعض
المناطق السورية يستعملون بدلا
منها كلمة "داعيك"- دون أن
يلحق بالمعنى ما تتضمنه كلمة
"محاسيب" التي تعني أتباع
ومقربين.
استدعى
مدير التربية والتعليم ،"حسن
الخطيب"، آذن المدرسة
لمقابلته، وأجلسه بجانبه، وقد
أغلق باب المكتب عليهما،
وابتدأه الحديث فقال: يطلب منك
مدير المدرسة كنس الغرف، فتأبى
عليه ذلك وتقول له "محسوبك"
حرس قومي. يسألك أن تعمل الشاي
للمدرسين أو الضيوف فتقول له
"محسوبك" حرس قومي. ومحسوبك
الجالس أمامك حرس قومي وأحضر
إلى مديرية التربية في الساعة
الثامنة صباحا. ومحسوبك الجالس
أمامك يأمر بنقلك إلى قرية "بنش"
( شرق ادلب على مسافة خمسة
كيلومترات). وإن كررت فعلتك هذه
مرة ثانية فإن محسوبك الجالس
أمامك ينقلك إلى "القامشلي"
(في أقصى شرق سورية على الحدود
التركية)، ولن يستطيع "جميل
حداد" (محافظ إدلب في ذلك
الوقت) أن يعيدك إلى محافظة إدلب.
ومن
مآثر حسن الخطيب هذا، أنه زعم–وكان
قد أصبح وزيرا للتربية والتعليم
في أوائل سبعينيات القرن
العشرين- أن أحدا لم يظلم عنده
أثناء توليه الوزارة. فأرسل
إليه مدرس من
بلدة "التل" (شمال دمشق
وأصبحت الآن كأنها أحد أحيائها)
عن طريق شخص ثالث أنه في عهده
حرم حقه. فاستدعاه وسأله عن
مظلمته فقال: أنا أحمل إجازة في
الشريعة وأحضر لشهادة
الماجستير، ومن حقي أن أدرّس في
بلدتي لوجود الشاغر، وقد
نقلتموني إلى قرية "بيت جن"
في جنوب الجولان غير المحتل.
وزاد في طنبور النقل التعسفي
هذا، أن مدير المدرسة البعثي
أصر على أن أدرس رياضة وموسيقى
فقط حتى لا أفسد عليهم –حسب
زعمه- عقول الناشئة بإرشاداتي،
مع وجود كثير من المواد يمكن أن
أنفع فيها أكثر.
لم
تغب عن فطنة وزير التربية
والتعليم أسباب هذا التعسف بحق
هذا المدرس المعروف جيدا في
بلدته "التل". فقال له يا
أستاذ "مشكلتك أكبر مني واسمع
ما أقوله لك! هذا الوطن هو لك
وهبه لنا، فليس لك عيش فيه في ظل
هذه الأوضاع! وهذا ما كان. فإن
صاحبنا المدرس غادر إلى
السعودية، وما يزال فيها حتى
الآن.
*
كاتب سوري ـ
عضو مؤسس في رابطة أدباء الشام
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|