من
أجل هذا تحاكم الحركة الطلابية
المستقلة في سورية
محمد
عرب ومهند الدبسي مجرد رمز
رجاء
الناصر*
يوم
السادس والعشرين من أيلول 2004
بدات محاكمة الطالبين محمد عرب
ومهند دبسي أمام محكمة أمن
الدولة بتهمة معاداة ومناهضة
أهداف الثورة ( حركة الثامن من
آذار 1963 ) وبموجب إعلان حالة
الطورائ المعمول بها منذ
ذلك التاريخ.
محمد عرب ... ومهند الدبس من أبناء
حركة الثامن من آذار وتربيا في
طلائع البعث . خلال المرحلة
الدراسية الأولى . ومن ثم في
شبيبة الثورة في مرحلتي الدراسة
الثانوية والجامعية مثلهما ,
مثل غيرهم من معظم الطلبة في
سورية الذين أجبروا على
الانتساب إلى تلك المنظمات التي
يشرف عليهما حزب البعث , والتي
أصبح الأنتساب إليهما آلياً .
على سبيل العادة والتكيف , وعدم
منازعة السلطة , أو طمعاً في
امتيازات مستقبلية أو دفعاً لشر
متوقع لكل من يضع نفسه خارج إطار
السلطة الشمولية ..
لم تكن أبواب السياسة مفتوحة
أمام عرب والدبسي مثلهما مثل
معظم السوريين فقد صودرت
السياسة من المجتمع , واحتكر حزب
البعث النشاط السياسي في صفوف
الطلبة بموجب ميثاق الجبهة
الوطنية التقدمية التي يقودها
كما الدولة والمجتمع حزب البعث .
واستمر الحال حتى مطلع القرن
الحادي والعشرين , الذي شهد ثورة
الاتصالات فلم تعد صورة البعث
ونظامه الشمولي هي وحدها
المطروحة على أعين المواطنين ,
وانتهت من أذهان الطلائع
الشبابية بعض عقابيل الخوف
الكامن والناتج عن مرحلة
الثمانينات , وراحت الدعوة
الوطنية الديمقراطية تفرض
حضورها في الشارع السياسي ولو
بصوت ضعيف وخجول ومنهك من
إجراءات قمع منظم استمر لعقود
طويلة .
وعلى ايقاعات العمل الوطني
المعارض للاحتلال الصهيوني
والقمع المنظم ضد الأنتفاضة
الفلسطينية ومجازر نابلس وجنين
وغزة وغيرها , ومع العدوان
الأمريكي على العراق , راح محمد
عرب وبعض من رفاقه يدعون
للتضامن مع اشقائهم متأثرون
بثقافة عربية مقاومة وبخطاب
سياسي وطني مألوف في سورية ,
وبتصادم ذلك الخطاب مع ما بدا
وكأنه اختلاف في الممارسة مع
ذلك الخطاب , أو عدم ارتقاء تلك
الممارسة مع الخطاب السياسي
العام , وحاولوا أن يترجموا
تأييدهم للمقاومة ولصمود شعب
العراق عبر تحركات طلابية من
خلال منظمة أتحاد الطلبة
الرسمية والوحيدة والتي هم
أعضاء فيها , ومع بداية هذا
التحرك حدث انفصال بينهم وبين
قيادة تلك المؤسسات الرسمية
التي رفضت أي حركة لا تأتي عبر
الأوامر العليا ..الانفصال
النفسي بدأ شيئاً فشيئاً يتحول
إلى افتراق بين المؤسسة الرسمية
وبين تلك الطليعة التي بدأت
تلتمس تمايزها عن مؤسسات السلطة
. على ضوء هذا الافتراق ومحاولة
السلطة الدؤوبة لاحتواء حركة
هؤلاء الطلبة تم الانتقال من
الاحتواء إلى التهديد بدأ يتكون
وعي طالبي جديد يرتكز على
استحضار معالم خطاب وطني
ديمقراطي , وعلى شعور متنام
بالاستقلالية وهي استقلالية لم
تكن عن النظام السياسي فحسب , بل
أيضاً عن المعارضة السياسية رغم
المشاركة في كثير من مفردات
الوعي الجديد ..
في ظل هذه المناخات التي ترافقت
مع قلق واسع وكبير على المستقبل
الشخصي الناجم عن أزمة البطالة
الخانقة والمتزايدة والتي دفعت
بمئات الآلاف من خريجي الجامعات
إلى أسواق العاطلين عن العمل
ومع وعي آخر يربط بين الخطاب
الديمقراطي الوطني والاستقلالي
وبين الحاجات الفردية
الاقتصادية والاجتماعية , أخذت
تلك النخبة بالتوسع والانتشار
حاملة همومها وهموم الوطن معاً..
ومع انسداد سبل الإصلاح الوطني
والاجتماعي وفشل وعود مكافحة
البطالة والفساد بدأت مشاعر
الإحباط تنمو وتتسع ولتتحول إلى
دعوة للتغيير وإلى تحمل
المسؤولية , وجاء مرسوم إلغاء
التزام الدولة بتعيين خريجي
كليات الهندسة بمثابة طلقة
الرحمة لمحاربة البطالة , فقد
كان التعيين الإلزامي يمنع
عشرات الآلاف من خريجي كليات
الهندسة المختلفة والمعاهد
التابعة لها من الولوج إلى
قوافل العاطلين , رغم أن رواتب
تعيين هؤلاء المتخرجين لم تتعد (
المئة يورو ) شهرياً وهي تكاد لا
تكفي المصروف الشخصي ناهيك عن
مصاريف المعيشة وطومحات بناء
الأسرة , فكانت الدعوة لاعتصام
طالبي في جامعة حلب شكلاً من
أشكال التعبير عن الاحتجاج ,
ونوعاً من أنواع المشاركة في
الحياة السياسية والاجتماعية ,
وكان هذا الاعتصام الذي ضم بضعة
مئات من الطلبة , الصاعقة التي
ألهبت الرؤوس الحامية في السلطة
والتي رأت فيه مؤشراً خطيراً
على تصاعد استقلالية الحركة
الطلابية وانخراطها في العمل
الوطني ... وبدل أن تعمل على
احتواء تلك الحركة عبر تلبية
مطالبها المحقة وعبر حوار هادئ
لا يأخذ شكل الوصاية والتقريع
والتهديد , أخذت السلطة بالمنهج
الأمني المألوف والمعتاد ,
فطردت مئات الطلبة من منظمة
اتحاد الطلاب لمنع سيطرة
المعارضين عليها , وتبعتها بطرد
العشرات من الطلبة من الجامعات
وحرمتهم من متابعة دراستهم بما
يشبه عملية إعدام معنوية وراحت
بالتضييق عليهم وعلى ذويهم ,
ولتعلن من جهتها الخصومة مع
هؤلاء الطلبة ووضعتهم في خانة
الإعداء ثم توجت ذلك كله
باعتقال لنشطاء تلك المجاميع
الطلابية , في حرب استباقية لمنع
انتشار ذلك الوعي الطالبي
المستقل , ولتقوم الأجهزة
الأمنية بإحالة الطالبين محمد
عرب من جامعة حلب ( طالب دراسات
عليا في كلية الطب ) ومهند دبسي
من دمشق , إلى محكمة أمن الدولة
بتهمة معاداة ومناهضة أهداف
ثورة الثامن من آذار وهي التهمة
التي اعتادت توجيهها لنشطاء
الحركة الديمقراطية ولكل
المعارضين السياسيين باعتبارها
التهمة التي لا تحتاج إلى أي
إثبات وليس لها أي معيار سوى
تقرير الجهاز الأمني والتي تصل
عقوبتها إلى السجن المؤبد , وفي
ظروف خاصة الإعدام .
ومن المهم أن نؤكد أن محمد عرب
ومهند الدبسي لا يزالان يحملان
في وعيهما فكر ثورة الثامن من
آذار المعلن , فهما ضد الاستعمار
وساهما بدور نشط في الاعتصام
تأييداً لفلسطين والعراق وضد
التهديدات الصهيونية الأمريكية
لسورية , وهما يطرحان الفكر
القومي ويؤمنان بالعدالة
الأجتماعية , ويتمسكان بما نص
عليه الدستور السوري حول
العروبة والاشتراكية والوحدة ..
وهما لا ينتميان إلى أي حزب من
أحزاب المعارضة , ويدعوان
للوحدة الوطنية ضد أي تفكير
بالتقسيم والانفصال ويؤمنان
بالديمقراطية وحقوق المواطن ...
تلك هي القضية التي يحاكمان من
أجلها أمام محكمة قانون الطوارئ
.. أنها قضية الاستقلال عن
السلطة ولو كان هذا الاستقلال
لا يصل إلى حد القطعية أو
التصادم معها , قضية حقوق
الإنسان والديمقراطية وحق
التعبير , ولعل هذا هو السبب
الحقيقي لتلك المحاكمة التي
تأتي كخطوة استباقية ضد ظهور
حركة طلابية ديمقراطية وطنية
تساهم بصنع مستقبل الوطن .
*كاتب وباحث
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|