مذبحة
جسر الشـغور
خالد
الأحمـد*
في
أوائل عام (1980) كانت الطليعة
المقاتلة في أوج تقدمها العسكري
، وارتبك نظام الأقلية في سوريا
، وظهر ذلك واضحاً في خطاب
الرئيس حافظ الأسد يوم(8/3/1980م) ،
وعندئذ طلب نظام الأقلية في
سوريا من الخبراء السوفييت
المتخصصين في قمع الشعوب ،
والذين ساعدوا ستالين على ذبـح
ملايين المسلمين ، طلب منهم
حافظ الأسـد دراسة الحالة
السورية ، وتقديم النصائح
للنظام ، ووصل عدد من هؤلاء
الخبراء المجرمين ، وتجولوا في
حماة وغيرها ، وتعرفوا على
أوقات وأماكن اغتيال عناصر السلطة ؛الذي كان يومياً في
حماة وحلب ، وبعد تفهم الموقف من
قبل هؤلاء المجرمين ( اليهود)
السوفييت قدموا نصيحتهم وهي :
أن يقتل
النظام خمسين مواطناً على الأقل
في المكان والزمان الذي تقع فيه
حادثة الاغتيال ، فلعل القاتل
يكون أحد هؤلاء الخمسين . وبدأ
نظام الأقلية الطاغي
الديكتاتوري يطبق هذه النصيحة
السـتالينية اعتباراً من نهاية
الربع الأول من عام (1980م) . ومن
تطبيقاته لها ما فعله في جسر
الشغور :
تقع
بلدة جسر الشغور في نهاية سـهل
الغاب ، قبل أن يدخل نهر العاصي
لواء اسكندرونة ، وتتوسط
المسافة بين حلب وحماة
واللاذقية ، ويمتاز أهلها
بالمحافظة على دينهم وعاداتهم
العربية الإسلامية ، وقد هبت
هذه البلدة مع حماة وحلب وإدلب
وحمص في آذار ( 1980 م ) ، حيث
انتفضت هذه البلدان تعلن رفضها
لنظام أسـد ، وتؤيد مجاهدي
الطليعة المقاتلة الذين
أنهكوا وحدات الأمن الأسـدية
أنذاك ، قبل أن يتسلم الجيش
العقائدي المهمة من وحدات الأمن
ويخمد انتفاضة الشـعب بالدبابة
والصاروخ والمدفع .
أضربت
بلدة جسر الشغور يومي السبت
والأحد ، وفي يوم الاثنين ( 10/3/1980م
) خرجت مظاهرة بدأها طلاب
المدرسة الثانوية ، وانضم إليهم
عدد كبير من المواطنين ، فجابت
الشارع الرئيسي في البلدة
يهتفون ( ياأسـد مانك منا ، خذ
كلابك وارحل عنا ) .
هاجمت
المظاهرة المؤسسة الاستهلاكية
رمز الجوع والحرمان في النظام
الأسدي ، وحرقتها ، ثم توجه
المتظاهرون إلى مكتب حزب البعث
ففـر البعثيون وتركوا أسلحتهم
التي غنمها المتظاهرون ، وكذلك
أخذوا أسلحة مخفر الشرطة . (
ولابد من القول أن الإخوان
المسلمين كانوا غير راضين عن
هذه الأفعال ، لتوقعهم الجرائم
التي سيرتكبها النظام في رده
على هذه المظاهرة ،ولم يشاركوا
بهذه المظاهرة ، وإنما حركها
عدة تيارات من الشعب كالناصريين
والشيوعيين والبعثيين القوميين
) .
ومع
العصر وصلت أكثر من خمس وعشرين
طائرة عمودية محملة بجنود
الوحدات الخاصة يقودهم العميد
علي حيدر ، ويعاونه عدنان عاصي
،قائد مخابرات إدلب ، وتوفيق
صالحة ،محافظ إدلب وصلت هذه
الطائرات المحملة بالرجال
والعتاد إلى جسر الشغور وليس
إلى الجولان ، ولما أقلعت هذه
الطائرات اتجهت شمالاً ، وكان
المفروض أن تتجه جنوباً نحو
العدو الصهيوني ، ولكن البعثيين
أعلنوا ذلك صريحاً منذ أن
استلموا الحكم في سوريا ، قالوا
أن القضاء على الرجعية ( الإسلام
والعلماء والدعاة والحركة
الإسلامية ) قبل محاربة
الصهيونية ، وهاهم اليوم
يفاوضون الصهاينة من أجل تطبيع
العلاقات معهم ، وكي يتعاونوا
معهم على القضاء على الأصولية
كما يريد معلمهم الأكبر ( أمريكا
) .
نزلت
الطائرات حول البلدة ( في معمل
السكر ، والثانوية ، وطريق حمام
الشيخ عيسى ، وساحة البريد ،
ومحطة القطار ... ) ، ونامت البلدة
بعد أن طوقتها الوحدات الخاصة
وفرضت منع التجول .
مذابح
الليلة الأولى
وبدأت
الوحدات الخاصة تعتقل كل من تصل
يدها له وتقتله في الحال ، دون
معرفة شيء عنه ، وهكذا قتلوا
قرابة خمسين مواطناً مسلماً
ومسيحياً وكل من وقع في يدهم
خلال الليلة الأولى . كما أنهم
أحرقوا قرابة ثلاثين محلاً
تجارياً للمواطنين بعد أن نهبوا
مافيها من البضائع ، ومنها
محلات الذهب ، ومحلات الأقمشة
ومحلات الأدوات الكهربائية ،
ومكتبة داسوا مصاحفها ومزقوها
قبل حرقها ، في الشارع الرئيسي
للبلدة .
مذابح
اليوم الثاني
بدلت
الكتيبة الأولى بعد أن ذبحت
خمسين مواطناً ، لاذنب لهم سـوى
أنهم من أهالي جسر الشغور ،
واستلمت كتيبة ثانية صارت تعتقل
الرجال من البيوت ويجمعونهم في
مراكز تمركز الوحدات الخاصة ،
ثم يسومونهم أقسى أنواع التعذيب
كالضرب بالكابلات الحديدية ،
ويحرقون لحاهم ، ويصعقونهم
بالكهرباء ...إلخ .
وكانوا
يسألون الرجال المعتقلين من هم
من طلاب الجامعات ، فيقتلونهم
حالاً دون تحقيق معهم ، وكأن
جريمتهم أنهم من طلاب الجامعات
، وقد استشهد قرابة خمسة عشر
طالباً من طلاب الجامعات بعضهم
من آل الشيخ ، والحلي ، وغيرهم .
وفي
اليوم الثاني أو الثالث قامت
الجرافات بتحميل الجثث من
الشوارع ودفنوها في حفر جماعية
بدون كفن أو صلاة جنازة .
حفلة
الوداع قبل نقل الرجال إلى إدلب
:
وبعد
النحقيق المبدئي ، والتعذيب
الرهيب نقلوا عدداً كبيراً من
رجال الجسر إلى إدلب ، وبعد
تحميلهم في السيارات مكبلة
أيديهم وأرجلهم بالأسلاك
الشائكة ، يضربونهم ضرباً
شديداً وكأن الوحدات الخاصة
تودعهم قبل أن تسلمهم للمخابرات
العسكرية لتكمل معهم التحقيق .
ويصل الضرب إلى حد الإغماء
فيظنون أنه مات لذلك يتركونه
وينشغلون بغيره .
الوحدات
الخاصة تفتش القرى المحيطة بجسر
الشغور
وفي
اليوم الثالث ذهبت الوحدات
الخاصة بطائراتها العمودية إلى
القرى المحيطة بجسر الشغور مثل
الجانودية ، وزرزور ، والحمامة
، والشغر ، وخربة الجوز ،
وبكسريا ( حيث قتلوا معلم
المدرسة في هذه الأخيرة ) .
أســكتوا
المؤذن
وفي
قرية الحمامة نزلت الطائرات مع
آذان العصر ، فأمر الضابط جنوده
( أسكتوا هذا الحمار حالاً )
فأسرع الجنود إلى المسجد وهددوا
المؤذن بالقتل إذا هو أكمل
الأذان فتوقف المؤذن ولم يكمل
الأذان ، ثم تناول الضابط مكبر
الصوت في المسجد ونادى أهل
القرية أن يسرعوا ويجتمعوا عنده
أمام المسجد حالاً ، ثم قال
الضابط : كل من يسمع إسمه يأتي
إلى عندي ، وأخرج ورقة كتب فيها
عدة أسماء حصل عليها من
البعثيين في جسر الشغور ، شملت
كل المواطنين المتدينيين ، وبعض
البعثيين القوميين ، وحتى
البعثيين المحافظين على صلاتهم
( وكأنه توجد حزازات شخصية بينهم
وبين رفاقهم فاتهموهم بأخطر
تهمة وهي أنهم إخوان مسلمون ) ،
وصار الضابط ينادي على أسماء
معظمهم من المجاهدين المعتصمين
بالجبل ، وبعضهم معتقل قبل
يومين في جسر الشغور ، ولما لم
يتقدم أحد غضب الضابط ، وقال :كل
ما ناديت على واحد يتقدم واحد
منكم ، الشخص نفسه ، أو أخوه أو
والده أو ابنه ، وإذا لم يتقدم
أحد فسأقتلكم جميعاً الآن ...
وهكذا تقدم أقرباء المجاهدين
خوفاً على الأطفال والنساء من
الذبح ، وبعد الانتهاء من
القائمة ، عذب الباقين بما
يحلوله ، ثم صرفهم ، وقامت
الوحدات بتفتيش بيوت هؤلاء
المواطنين ومعظمهم رهائن
تقدموا بدلاً من أقاربهم ، ثم
قامت الوحدات الخاصة بضربهم حتى
ملوا من ضربهم ، ثم نقلوهم إلى
إدلب وسلموهم إلى المخابرات
العسكرية لتكمل معهم الضرب
والتعذيب ، ثم تودعهم السجون
حيث مات بعضهم فيها ، ومكث آخرون
اثنتي عشرة سنة كرهائن عن
أقاربهم .
لقطات
من التعذيب
يقول (
أبو حيان الجسري ) أحد الناجين
من مذبحة جسر الشغور :
اعتقلوني
من بيت قريبي في الثانية والنصف
من مساء الليلة الأولى بعد أن
بدلت الكتيبة الأولى ( كتيبة
الذبح ) واستلمت الكتيبة
الثانية ( كتيبة التعذيب ) ،
وربطوا رجلي بقطعة أسلاك شائكة (
وأراني آثارها بعد عشرين سنة )
وكذلك ربطوا يدي خلف ظهري
بأسلاك شائكة ، كانت تدخل في يدي
وقدمي كلما ركلوني بأحذيتهم . ثم
انهال علي الضابط ضرباً بكل
مايملك من قوة ، بالعصا
والكابلات وبحذائه العسكري ،
حتى تعب الضابط من الضرب ،
فسلمني لجندي معه عصا صار يحاول
إدخال العصا في بطني من الجلد ،
واستمر الحال حتى الفجر حيث
نقلوني بعد ذلك إلى البريد
فشاهدت عدداً مخيفاً من حيث
الكثرة من جنود الوحدات الخاصة
بلباسهم المبرقع ولهجتهم
المكروهة عندنا ، وحالما
شاهدوني هجموا علي كما تهجم
الوحوش الجائعة على فريستها ،
وشحطوني من السيارة على سلم
البريد شحطاً ، واللكم والضرب
مستمر حتى تغمدني الله برحمته
فأغمي علي لمدة تزيد على يوم
كامل .
ويقول
لي أحد الممعتقلين زملائي أنهم
صاروا يقولون : مات ، فطـس ،
وكانوا يقولون عني : هذا رمى
برشاش على الطائرات العمودية
قبل هبوطها ، وفي يوم الأربعاء
استيقظت على صوت عدنان عاصي (
مدير مخابرت إدلب ) يسألني أين
وضعت الرشاش ، ووجدت في جيوبي
طلقات من الرصاص ، بعد أن أخذوا
أوراقي وساعتي ونقودي من جيوبي
ووضعوا بدلاً منها هذه الطلقات
، ولما أنكرت ذلك قال لي : دليلنا
مادي ولاتستطيع انكاره ، هذه
الطلقات مازالت في جيبك .
وعرفت
فيما بعد أن بعض المجاهدين أطلق
النار على الطائرات ، ولم يتمكن
أزلام الأسـد من معرفة هؤلاء
المجاهدين ( وربما قتلوا في
الليلة الأولى ) ، وأرادوا أن
يثبتوا لرؤسائهم أنهم تمكنوا من
معرفة هؤلاء الذين أطلقوا
النـار على الطائرات .
وبدأ
عدنان عاصي يحرق لحيتي بولاعة
الغـاز ، وأحضر الجنود فأوجعوني
ضرباً حتى تمنيت الموت كي أخلص
من هذا العذاب ، حيث صار جسدي
مبرقعاً مثل ثيابهم ، وصاروا
يتندرون علي ويقولون لي : صرت من
الوحدات الخاصة . لذلك قلت لهم :
أنا أطلقت النار على الطائرة ،
والرشاش دفنته في البستان ،
ففرحوا بهذا الكشف ( وأقسم لي
الراوي أنه لم يفعل ذلك ، ولكنه
قال لهم ذلك لعلهم يقتلونه
فيرتاح من العذاب ) ، فذهب معه
مجموعة من الجنود إلى البستان
لإحضار الرشاش ، وفي الطريق قال
قائدهم : أنت تأخذنا إلى البستان
وهناك رفاقك يقتلوننا ، فأقسمت
له أني لاأعرف أحداً منهم
ولاأعرف أين هم ، ومع ذلك عاد
ولم يجرؤ على دخول البستان .
وفي
إدلب وضعوني في الدولاب وعددت
أربعين ضربة ، ثم صرت أصرخ ولم
أعد أطيق التحمل فصرخت وقلت لهم
أعترف لكم بكل ماتريدون .
( أنا
منظم مع الإخوان ، ودخلت مقر
الحزب يوم المظاهرة ، وأخذت
سلاحاً ، ورميت على الطائرة .. ) (
ثم أقسم بالله أمامي بعد عشرين
سنة أنه لم يسبق له دخول أي
تنظيم ، وأنه ليس له سوى
المحافظة على دينه ومنه اللحية
وهي واجبة أمر بها رسول الله صلى
الله عليه وسلم . وأنه قال لهم
ذلك على أمل أن يقتلوه فيرتاح من
تعذيبهم ) .
وبعد
هذا الاعتراف صاروا يتوددون إلي
وقالوا لي سوف نفرج عنك بعد كل
ذلك إذا وعدتنا أن تتعاون معنا
لمصلحة وطنك ، وقد ألهمني الله
أن أعدهم بذلك ، على أن أعود إلى
محلي التجاري في جسر الشغور ،
وأطلق لحيتي كما كانت ، ويمرون
علي دورياً لأخبرهم بكل ماشاهدت
وسمعت عن جسـر الشـغور .
وبعد
خروجي استمر العلاج تسـعة شـهور
حتى كتب الله لي الشـفاء وخاصة
من جروح رأسي التي كادت أن تقضي
علي لولا رحمة الله . ثم رزقني
الله تأشيرة عمل في إحدى دول
الخليج ، فخرجت من بلدي ولم
أعدله حتى الآن ( بعد خمس وعشرين
سنة ) ، وتابعت العلاج خارج
سوريا حتى عادت لي الصحة
والعافية ولله الحمد . [ وكشف عن
رأسـه فبدت آثار الجروح العميقة
التي أبى الشعر أن ينبت عليها
بعد ربع قرن ] .
ولابد
من التنويه إلى أن الأخوة
المجاهدين من أبناء جسر الشغور
كانوا في الجبل ، ولم تجرؤ
الوحدات الخاصة يومها على
مهاجمتهم ، ولكنها انتقمت من
أهليهم كما فعلت في حماة وحلب
وإدلب وغيرها ، بناء على نصيحة
خبراء الجريمة الروس .
نسأل
الله عزوجل أن يتقبل الشـهداء
في جنات النعيم ، وأن يجزل
الثواب لكل من لحقـه التعذيب
على يدي هؤلاء الجلادين ، وأن
يرشـدنا السداد والصواب ، وأن
تعود سوريا خالصة لأبنائها
المخلصين ، وأن يرينا بأسـه
وجبروتـه في هؤلاء الظالمين ،
إنه على كل شيء قدير .
والحمد
لله رب العالمين
*
كاتب سوري في المنفى
ــــــــــــ
ملاحظـة
ورجـاء : أرجو من كل قارئ عنده
معلومات عن مثل هذه المذابح
الجماعية في أي مكان من قطرنا
العربي السوري ، ان يرسلها لي
على هذا العنوان ، لأنني أعد
كتاباً عن المذابح الجماعية في
عهد حافظ الأسد . والعنوان هو :
Abothaer_s@hotmail.com
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|