مكانة
المرأة الإنسان
في
المجتمع العربي
بقلم
الأستاذ: نعمان عبد الغني
المرأة في الحقيقة ، ليست نصف
المجتمع فحسب، بل هيّ أيضا
والدة ومربية للمجتمع بأسره في
مدرسته الأولى على الأقـلّ التي
تطبعه إلى حد بعيد في بقية مراحل
حياته. من هنا تأتي أهميّة و
ضرورة العناية بالمرأة، بل
وإعطاءها الأولويّة في ذلك على
الرّجل. فالمرأة، على هذا الأساس،
هيّ عماد المجتمع، فإذا ما وقعت
العناية بها وإيلاءها ما يوافق
قيمتها و أهـميّتها
من الإعتبار الصّحيح و
العناية الفائـقة، استقام
المجتمع كله و صلح حاله . أمّا من
أهملها و حطّ من قيمتها و
إنسانيّتها وتجاهل وجودها كعضو
فاعل في المجتمع، له قيمته
المركزيّة، فقد هدم المجتمع أو
على الأقـلّ،
فقد أضرّ بالمجتمع ضررا بليغا.
بناء على ما تقدّم فإنّنا لا نحسب
أنّ ما مرّت به عديد المجتمعات،
قديما و حديثا، من تخلّف و
انحطاط وانحلال، كان قد حصل لها
بمعزل عمّا وقعت فيه من إهمال
لوضعيّة المرأة و دورها فيها، و
ما تعرضت له من إساءة خطيرة
مخلّة بكرامتها وإنسانيّتها. و
لو دقّقنا النّظر و التحليل
لوضعيّة المجتمعات المتخلّفة و
في أسباب تخلّفها لوجدنا أنّ
ذلك، في جزء كبير منه، يعود إلى
الطبيعة السيئة لوضعيّة المرأة
فيها. فإذا كانت المرأة مهملة
ومحتقرة، تعيش وضعيّة الدّنيّة
والجهل والقهر وسحق للشخصيّة
وعدم الاعتبار، فلا غرابة أن
ينشأ الأبناء أيضا عل الجهل و
ضيق الأفق و ضعف الشخصيّة و
تذبذبها.
وإذا ما التحقوا بالمدرسة عند
بلوغ سنّ التعليم، فإنّهم غالبا
ما يبقوا مرشّحين للفشل في
دراستهم، إذ أنّ النّجاح فيها
لا يمكن أن يحصل إلاّ بتظافر
الجهود بين البيت و المدرسة. و
حتّى إذا ما نجحوا يبقى نجاحهم
نسبيّا و منقوصا. بينما لو كانت
الأمّ متوازنة الشخصية و
متعلّمة و واعيّة فإنّه، فضلا
عن حرصها الأشدّ على تعليم
أبنائها وتربيّتهم تربيّة
راشدة بمقدورها تلقينهم منذ
الصّغر حبّ المعرفة و التّعلّم
و ستكوّن فيهم أيضا سعة الأفق و
كذلك منهجيّة أرحب في رؤية
الكون وفي أسلوب التّعامل معه،
بأفضل ما يستطيعه المعلّم في
المدرسة.
وذلك
لأهمّية ما يربط الطّفل، من
علاقة خصوصيّة، بأمّه، تيسّر
عمليّة التبليغ والتلقين بينها
و بينه. فعمليّة التعليم
والتربيّة تشبه إلى حدّ بعيد
عمليّة الرّضاعة بل هيّ تواصل
طبيعيّ لها إذا كانت الأمّ
واعيّة و متعلّمة.
ونخلص ممّا سبق إلى أنّ المرأة هيّ
نصف المجتمع عدديّا، وهي من
ناحية أخرى عماده الأساسي و
مدرسته و مربّيته الأولى. لذلك
فإنّ العناية بالمرأة عناية
جادّة، و إنزالها في المجتمع
منزلتها التّي تستحقّها كأمّ و
مربّية له، وعضو فاعل فيه،
مثلها في ذلك مثل الرّجل، و
إيلاؤها الإعتبار الكامل
والمساواة
بينها و بين الرّجل من حيث
أنّهما يشتركان في قيمة
الإنسانيّة، من شأنه أن يحقّق
معنى العدل و النّديّة بينها و
بين الرّجل . كما هوّ من شأنه أن
يمكّن الجسم الإجتماعي من
النّهوض بكلّ أعضائه وقوّاه
وليس بنصفها فقط، لأنّ نصفها
الثّاني، المتمثّل في المرأة،
مشلول ومعطّل.
لقد ولّى الزّمان، في عالمنا
الحديث، الذّي كانت فيه عوامل
تحقيق التّنميّة و التّقدّم
تكمن في استغلال سطح الأرض وما
يوفّره لمستغلّيه من خيرات، و
في بطنها وما تحتويه من كنوز و
ثروات طبيعية، أو في وسائل و
تقنيّات تمكّن من تحويل تلك
الثّروات الخامّ إلى منتجات
متطوّرة و متعدّدة تلبيّ أدقّ
المطالب و الحاجيّات و تشبع
عديد الرّغبات. إنّ الأرض و رأس
المال تراجعت قيمتهما كعوامل
إنتاج، و حلّ محلّهما في
الصّدارة في عمليّة تحقيق
التّنميّة والتّقدّم الرأس
المال البشري وما يحمله من علوم
و مهارات فائقة في استغلال
المعطيات.
لقد غدا الذهن البشري وقدرته
الفائقة على استيعاب الأشياء
والمعطيات و طاقاته الواسعة على
التّصرّف فيها و تحويلها، هوّ
المنبع الأساسي لخلق الثّروة و
تحقيق التّنميّة والتّقدّم،
ممّا يعني أنّه قد غدا بإمكان
المجتمعات المحرومة من كلّ
أنواع الثّروات الطّبيعيّة و
الماليّة أن تتحوّل بدورها إلى
مجتمعات ناهضة متطوّرة، إذا ما
أحسنت استغلال
ثرواتها البشريّة الكاملة
من رجال ونساء وقدراتها
الذّهنيّة. وذلك إذا
أحسنت تكوينها وتنوير
الأذهان فيها، بالعلم
والمعرفة، وتأهيلها للتّعامل
بمهارة فائقة مع المعطيات،
ومواكبة ركب تطوّر العلوم
والمعرفة في العالم.
على هذا الأساس فإنّه لا يحقّ
لمجتمعات نـّابهة أن تجمـّد نصف
ثرواتها البشريـّة، المتمثّلة
في المرأة، و تضحـّي بها
فتهملها و تهمشها، و لا تعترف
بها كعضو فاعل في المجتمع، له
قيمته و أهمّيته و دوره
المركزيّ فيه . إن ّ ذلك
يكـلّفها خسائر فادحة على
مستويات عدّة، و
خاصّة على مستوى تنمـيّتها
الإقتصاديـّة و ازدهارها
العلمي و المعرفي و تقـدّمها
على جميع المستويات، و يفـوّت
عليها فرصا ثمينة في هذا المجال.
وهذا الـشّلل الـنّصفي لا
يتوقّف ضرره على الـنّصف
المشلول فحسب، و إنّما يتعـدّاه
إلى الـنّصف الآخر، الـرّجل.
فهذا الأخير إذا كانت إلى جانبه
امرأة متعلّمة واعيّة ومحـرّرة
الـطّاقات و فاعلة في المجتمع،
يكون هوّ أحسن عطاء و أرفع جدوى
و مردوديّة مـمّا لو كانت إلى
جانبه امرأة جاهلة، مجـمّدة
الطّاقات محطّمة الشّخصيّة،
معدومة الحضور والإعتبار في
المجتمع. فالوضعيّة المتدنّية
للمرأة في المجتمع لها تأثيرها
السلبي على وضعيّة الرّجل، و لا
تجذبها إلاّ إلى الخلف وإلى
الأسفل.
إنّ مسألة تحرير المرأة، تحريرا
صحيحا وليس استغلاليّا و
دعائيّا فقط، هيّ مسألة جوهريّة
و ملحّة للغاية في هذا
الـزّمان، و ذلك لاعتبارات
عـدّة. فتحريرها تحريرا حقيقيّا
مسؤولا، كما تقتضيه
إنسانيّتها، و رفع اليد عنها و
الكفّ عن ظلمها و استغلالها،
هـوّ مطلوب قبل كلّ
شيء من منطلق مبدإيّ، لأنّ ذلك
من حقّها الطّبيعي و الشرعي
وليس هوّ منّة ولا هو هبة من أحد.
كذلك هوّ مطلوب لأنّه ليس هناك
ما يمنعه عقلا ولا نقلا، بل على
العكس فإنّ العقل والنّقل
يؤكّدانه ويحثّان عليه.
وهو مطلوب أيضا من جهة إقامة العدل
الواجب إقامته بين الجنسين. إذ
ليس هناك ما يميّز بين الرّجل و
المرأة في حق وضرورة التّكريم،
و إعطاء الإعتبار،
وتنوير العقول ، وضرورة
الفعل في المجتمع، من أجل تحقيق
التّقدّم والرّقيّ و التحضر على
جميع المستويات. وهو مطلوب أيضا
من جهة الضّرورة و الحاجة
والمصلحة الجماعيّة للمجتمع،
في عصر غدت فيه القدرات
والمؤهّلات الذّّهنيّة هيّ
القيمة النّادرة المبحوث عنها
لدورها المركزي في عمليّة إيجاد
الوفرة وتحقيق التّقدّم
والنّهوض عموما.
فمن هذا الجانب لا يليق بمجتمع
عاقل را شد أن يتصرّف تصرّف
السّفيه، فيهمل و يهمّش أو
يجمّد نصف طاقاته البشريّة، و
ما يحمله من قدرات ذهنيّة و
إبداعيّة هو في أمسّ الحاجة
إليها. والأمر مطلوب أيضا من جهة
ضرورة تمكين المرأة، تماما مثل
الرّجل، من تحقيق إنسانيّتها و
ترقّيها في سلّم قيّمها، و
النّهوض للقيام بدورها في
المجتمع و في الحياة. و لا
يتسنّى لها ذلك إلاّ بفسح
المجال أمامها، مثل الرّجل
للنّهوض بذاتها و تفطيق طاقاتها
و تنميّة مواهبها و قدراتها. وهو
مطلوب في الأخير من جهة أنّ
المرأة، مثلها مثل الرّجل،
مكلّفة في هذه الحياة، ومسؤولة،
أصالة عن نفسها وليس الرجل هوّ
المسؤول عنها، على وجودها في
هذا الكون ومحاسبة عن كسبها
فيه، تماما مثل الرّجل. فمن
الجور تماما، أن يمكّن الرّجل
من فرص التهيّء والكسب بحرّية،
بينما هيّ تحرم،
قصرا بسبب الظّلم المسلّط
عليها، من فرصة تأهيل نفسها
لهذا الكسب الذّي ستسأل عنه
بمفردها لا محالة يوم السؤال.
إذا كان تحرير المرأة تحريرا
صحيحا، أو
قل تمكينها من وضعها الطّبيعي
الذي خلقت لتكون عليه في
المجتمع بشكل تلقائيّ، بهذه
الأهميّة و الإلحاحيّة، فما هيّ
إذن أسباب إهمالها و اضطهادها و
تهميشها تهميشا كاملا، بل
وحتّى، في بعض المجتمعات و في
بعض الأحقاب التّاريخيّة،
اعتبارها، جهلا و ظلما، مخلوقا
آخر من غير جنس الإنسان، وهي
مخلوقة حسب تصوّرهم السّقيم
لخدمته بل ليفعل بها الرجل ما
يشاء .
يعود ذلك حسب تصوّرنا إلى عاملين
أساسيين هما منطلق بقيّة
العوامل الأخرى
:
أوّلا ـ غريزة حبّ التّـغـلّـب
والتّـفـوّق :
رغم أنّ الإنسان مميّز، عن بقيّة
المخلوقات، بملكة العقل
والقدرة على التمييز بين الخير
والشرّو الإختيار بينهما،
وكذلك بالقدرة على التفكير و
الإبداع، إلاّ أ نّه يبقى
محكوما في بعض أعماله و مواقفه و
قناعاته ببعض الغرائز الفطريّة
فيه، المتصارعة داخله مع قيمة
العقل لديه، التي تتمّم له
إنسانيّته، متى تغلّبت عليها
هوت به إلى الأسفل، إلى المستوى
الحيواني. ذلك لأنّ الحيوان لا
يحكمه إلاّ الحسّ و الغريزة.
ودور الغرائز لدى الإنسان يبرز
و يتضخّم كلّما تقلّص لديه،
بسبب الجهل و ظلماته و الجمود
وضيق الأفق، دور العقل. ومن بين
غرائز الإنسان التّي تقرّبه من
الحيوان غريزة حبّ التّغلّب و
الهيمنة على الآخر. فهذه
الغريزة هيّ التّي تنظّم طبيعة
العلاقات و سلّم السّيادة في
المجتمع الحيواني. لذلك فنحن
نلاحظ أ نّه كلّما كان الحيوان أ
قوى وأشدّ فى التّغلّب
والإفتراس كلّما كانت هيبته و
خشيته بين بقيّة الحيوانات أكبر.
ولمّا كانت المجتمعات البشريّة
الضّاربة في جذور التّخلّف و
الإنحطاط و التقليد هيّ مجتمعات
غريزيّة إلى حدّ كبير، فهي إذن
مجتمعات تشبه المجتمعات
الحيوانيّة في بعض طبائعها
وتصرّفاتها، محكومة ببعض
الغرائز و من بينها هذه الغريزة.
فهي إذن مجتمعات يسيطر فيها
القويّ، بكلّ معاني القوّة، على
الضّعيف، بكلّ معاني الضّعف. و
كلّما وقع الإنسان ضحيّة لغريزة
التّغلّب لدى أخيه الإنسان،
كلّما تضخّمت لديه هوّ بدوره
دوافع هذه الغريزة، و بحث هوّ من
جهته عمّن يسلّطها عليه و يحقّق
بها عليه غلبته. والإنسان
الجاهل و المتخلّف هوّ مغلوب من
طرف أخيه الإنسان ومن طرف الفقر
والفاقة ومن طرف قوّة الطّبيعة،
وهوغالبا بسبب جهله وتخلّفه
وتوحّشه لا يجد عمّن يسلّط
غريزة حبّ التغلّب والتّفوّق
إلاّ على المرأة من حوله وفي
محيطه بعد أن عجز على إنفاذها
على غيره خارج بيته ومحيطه.
وهكذا، وربّما بسبب تفوّقه البدني
الفيزيولوجي و شدّة توحّشه
وقـساوة قلبه، و ربّما لأسباب
عدّة و متداخلة أخرى، لم يجد
الرّجل، عبر مختلف العصور، أفضل
من المرأة كزوجة و كأخت
و بنت و أمّ و قريبة،
يتّخذها كضحيّة يسلّط عليها
دوافع غـريزة حبّ التّغلّب و
التّفوّق الكامنة فيه، فيحكم
قبضته عليها و يسلّط عليها ظلمه
و توحّشه بحجّة العديد من
الأعذار والتعلاّت التي لا ينهض
لها دليل معقول ولا منقول. نحسب
أنّ هذا العامل هوّ أحد أهمّ أ
سباب حبّ هيمنة الرّجل على
المرأة والإبقاء عليها في
وضعيّة الطّرف الضّعيف
والمهمّش والتّابع.
ثـانيـّا ـ الجهل عـد وّ الـمرأة
الأوّل
:
إن كان الجهل هوّ عدوّ الإنسان
عموما، فهو للمرأة أ شدّ عداءا.
أمّا عداوته للإنسان عموما
فحاصل من جهة كونه يحرمه من
استغلال قدراته الذّهنيّة، و
يحول بينه و بين التّسلّق في
سلّم قيّم إنسانيّته، و يتركه
مجاورا للحيوان محتكما في معظم
الأحيان إلى حسّه و غرائزه.
فالجهل ليس شيئا آخر سوى آلة
لتعطيل العقل للقيام بمهمّته. و
الإنسان، كما
سبق أن ذكرنا، ليس إنسانا
حقيقة، مميّزا عن الحيوان و
بقيّة المخلوقات إلاّ بعقله.
فمتى تعطّل هذا الأخير، لم يبق
للإنسان شيء كثير يميّزه عن
الحيوان. فالعقل هوّ آلة الفهم
والتّأمّل و التّمييز والإبداع
وصناعة الفكرة والعلم ووعائه.
وهو لهذا السّبب ميزة الإنسان
ووسيلة ترقّيه في سلّم قيّم
إنسانيّته.
والجهل، كما ذكرنا، هوّ أشدّ ضررا
و عداءا للمرأة. ذلك لأنّه يضرّ
بها مثلما يضرّ
بالرّجل. زيادة على ذلك
فإنهّ يضرّ
بها نتيجة الضّرر المسلّط عليها
من قبل الرّجل بسببه. فأنت ترى
الرّجل نتيجة جهله و توحّشه،
تحمل به المرأة وتضعه ويترعرع
في أحضانها و بين ذراعيها، حتّى
إذا كبر وصلب عوده قام فقال إنّ
المرأة مخلوق آخر غير البشر
ودونه في القيمة والكرامة،
والرّجل يولد له الذّكر فيقيم
الأفراح و الولائم و تولد له
الأنثى فيحزن و يتبرّم وجهه و في
بعض العصور و الأماكن ذهب إلى
حدّ وأدها، متناسيا المرأة هي
التي قامت على مختلف مراحل خلقه
و ولادته و نمـوّه حتّى استقام
عوده. وقد غاب عنه، بسبب جهله
وتحجّره، أنّ كلّ الأجناس في
الكون من حوله لا تلدها إلا
أجناسها و لا تلد إلاّ من
أجناسها. وإذا كان الجهل قد بلغ
بالرّجل هذا المبلغ من الظلم
للمرأة فلا فائدة إذن في الحديث
عن بقيّة مظالمه الأخرى لها.
المبحث الأوّل : وضعيّـة المرأة
فـي الوطن العربي :
لقد عاش الوطن العربي ، مثله مثل
العديد من البلدان المتخلفة
الغائبة عن الدورة الحضارية
المشابهة له، قرونا طويلة في
الظلام الدّامس و الجهل المطبق
و الانحطاط الرّهيب. فقد كانت
وضعيّة المجتمع فيها وقتها
تشبه إلى حدّ بعيد وضعيّة
المجتمع البدائي، حيث يسود
الحسّ
والأهواء و الغرائز، و
يغيب فيها العقل وما يمكّنه
صاحبه من النظر والتأمّل في سنن
الكون وقوانين التطور،
والإبداع و التمييز بين الخير
والشرّ والصّالح و الفاسد.
وكانت سلطة الحاكم ثمّ
المستعمر، في تلك العصور،
مطلقة، مطارقها تدقّ رؤوس
العباد و سياطها تلهب جنـوبهم،
دون أن يكون هناك معارض ولا
محتجّ ولا حتّى من
يرفع رأسه.
كما كان النّاس، في تلك البلدان،
في صراع مرير مع الطّبيعة
القاسيّة التّي لم تكن تجود
عليهم من عطائها إلاّ بالقليل،
بسبب بدائيّة وسائل إنتاجهم، و
بذورهم المتواضعة في جودتها،
وقلّة القطر في بعض السّنين على
الأقلّ. فكانوا في معظمهم
يشعرون بالإنهزام و الدّنيّة، لا
تنصفهم الحياة في أيّ وجه من
وجوهها، فيعودون إلى بيوتهم
مقهورين يبحثون فيها عمّن
يسلّطون عليه جامّ نقمتهم و
يحقّقون عليه غلبتهم، عـساهم
يخفّفون بذلك عن أنفسهم ما هو
واقع بهم من قهر و انهزام، فلا
يجدون فيها من مخلوق ضعيف إلاّ
المرأة، فيستبدّون عليها و
يسلطون عليها أبشع المظالم،
ليتذوّقوا بذلك حلاوة طعم
الغلبة و التّفوّق الذّان لم
يستطيعوا إيجاد طعميهما خارج
البيت.
لقد عاشت المرأة في الوطن العربي ،
كما في غيرها من الأقطار، لمدّة
قرون طويلة، أين يسود الجهل و
الجمود و الإنحطاط، في وضع
مأسوي، أ شبه ما يكون بوضع العبد
عند سيّده، ليست لها كرامة و لا
إرادة و لا اعتبار، وليس لها من
اهتمام و شغل وتكليف في الحياة
إلاّ خدمة الرّجل في البيت و
الحقل و إ شباع رغبات غريزته
البهيميّة في الفراش و الحمل و
الإنجاب و القيام على شؤون
البيت. و قد فرض عليها ذلك باسم
التّفوّق الطّبيعي المزعوم
للرّجل على المرأة، وكذلك باسم
العادات والتّقاليد الفاسدة
والحفاظ على الشّرف و مراعاة
لغيرة الرّجل و إرادة الهيمنة عليها، و غير ذلك من
الإعتبارات التّي كانت تنسب
كلّها أنذاك، بسبب الجهل، إلى
الدّين، و الدّين منها براء.
فقد فرض الرّجل بجهله و انغلاقه و
توحّشه و أهوائه على المرأة
عنوة القعود في البيت أو العمل
في الحقل تحت حراسته المشدّدة،
ونبذ الإختلاط و اعتزال مجتمع
الرّجال وكلّ ما هوّ مرتبط بذلك
من الأنشطة و الإهتمامات
العامّة للمجموعة، سياسية كانت
أو إجتماعيّة أو إقتصادية أو
ثقافيّة أو غيرها، والبقاء في
ظلمات الجهل وعدم الخروج من
البيت للتّعلّم أو للعمل أو
للمشاركة في الإهتمامات العامة
للمجتمع، و لا حتّى للتّعبّد. و
قد شاع في تلك العصور المظلمة أن
المرأة لا يحق لها مغادرة عتبة
البيت بعد بلوغها إلا مرتين،
مرة عند انتقالها من بيت والديها إلى بيت زوجها و
مرة ثانية لانتقالها من بيت
زوجها إلى قبرها.
كما حرمت، باسم الدّين طبعا، من
اختيار الزوج، شريك العمر، و
حتّى من رؤيته قبل الدّخول بها،
و حتّى من مجرّد إبداء رأيها فيه
و كأنها ليست إنسانا و لا الأمر
يعنيها. كلّ ذلك سلب منها، بسبب
الجهل و الإنحطاط، وهو من أبسط
حقوقها، وأوكل إلى وليّها، و
كأنّ الوليّ هو الذي
سيتحمّل الحياة مع الزوج وليست
هي. ومن فقه أصحاب الأهواء
والجهل والإنحطاط أن جعل
الطّلاق بيد الرّجال دون
النّساء، سيفا مسلّطا على
رقبتها، لا تدري متى يهوي به
الزوج على رقبتها. أمّا المرأة،
و كأنّها ملك للرّجل، لا تملك،
في مسألة الطلاق، أمام ظلمه لها
في سائر أمور الحياة الزوجيّة
إلاّ أن تصبر، أو أن تنتظر حتى
يقرّر هوّ أخذ المبادرة في
الطّلاق. و في العموم فقد حرمت
من حقّ التّظلّم ضد المظالم
المسلّطة عليها من قبل الرّجل،
أبا كان أو أخا أو زوجا أو غير
ذلك، و كأنّه هو السيّد الذي لا
يسأل عما يفعل، و المرأة هي عبد
الذي لا حول له و قوة، في مجتمع
الرّقّ.
لقد اقتصرت مهمّة المرأة، كما
ذكرنا، في تلك العصور على إنجاب
الأطفال و إشباع الرّغبات
الجنسيّة للرّجل، في غير مراعاة
في عديد الحالات لمشاعرها و لا
حتّى لظروفها الصحّيّة مما
يتسبب لها في أضرار بليغة قد تصل
بها إلى الموت، و في القيام
بأشغال المنزل و تربيّة الأولاد.
وكذلك في القيام بالعديد من
الأعمال لصالح الرّجل و التّي
يترفّع هذا الأخير عن القيام
بها. فوضعيتها لم تكن في تلك
الظروف وضعية الأنسان المكرم و
إنما كانت وضعية الخادم المهان
إن لم نقل وضعية العبد.
وفي العموم يمكننا القول إنّ
المجتمع االعربي كان، لعصور
طويلة قبل استقلال، مجتمعا
غارقا في ظلمات الجهل والانغلاق
والجمود والإنحطاط والتقليد،
ومجمّد الطّاقات. إلى جانب ذلك
كان أيضا مجتمعا مشلولا شللا
نصـفـيّا. ذلك لأنّ المرأة،
كعضو فاعل في المجتمع، كانت في
حكم الغائبة تماما، أو قـل بشكل
أدقّ، في حكم المغيّبة بالكامل.
و لا غرابة أن يكون مجتمع، هذه
وضعيّته، مجتمعا معدوم
المبادرة و الفاعليّة، خارجا
تماما عن الدّورة الحضاريّة.
وهو لـشدّة تخلّفه كان يعيش
وضعا يشبه الغيبوبة الكاملة،
فاقدا للوعي بما كان يحصل حوله
من أحداث هامّة ومن اكتشافات علميّة
و فنّيّة مذهلة. كما كان لـشدّة
ضعفه وتخدّره، ليست له القدرة
حتّى على الدّفاع عن نفسه وصدّ
الضرّ عنها. وهو ما جعله يسقط
بسهولة في شراك الإستعمار
الغاشم و يبقى تحت هيمنته و
مهانته ثلاثة أرباع القرن.
المـبحث الثّـاني : وضعيـّة
المـرأة فـي الوطن العربي بعد
الاستقلال:
لقد كانت المرأة العربية أوّل
المستفيدين من الإستقلال. ذلك
أنّ هذا الحدث كان لها بحقّ
استقلالا. فهذا الأخير لم
يكن فقط تحريرا للبلاد من هيمنة
المستعمر الأجنبي، إنّما كان
أيضا تحريرا نسبـيّا للمرأة من
ظلمات الجهل و هيمنة الرّجل
عليها، وكذلك من سلطان العادات و التّقاليد الفاسدة. لقد كان
بورقيبة، رغم تحفّظنا الشّديد
على العديد من آرائه و سياساته و
إنجازاته في ظلّ الدولة التي
ركّزها، محقّا إلى حدّ بعيد في
سياسته التّي انتهجها تجاه
المرأة، لولا
بعض الأخطاء و الشّطط كما
سنبيّنه لاحقا. لقد كان في هذه
المسألة متقدّما على عصره
أجيالا، بالمقارنة لما عوملت به
المرأة في معظم البلاد
الإسلاميّة بشكل عامّ.
وقد مكّنت بداية إصلاح وضعيّة
المرأة في الوطن العربي من فتح
الباب واسعا لمعالجة حالة
الشّلل التّي كانت تعيق جسم
المجتمع في البلاد، و ساهمت في
تحرير طاقات هائلة، كانت قبل
ذلك مجمّدة أو مغمورة. ولا تزال
طاقات كبيرة أخرى مجمّدة، يجب
الإسراع بتحريرها، و ذلك
بمواصلة تحقيق مزيد الترشيد
لوضعيّة المرأة في المجتمع. و لم
تكن كلّ الطّاقات المحرّرة
من جانب المرأة فحسب، و
إنّما كان جزء منها من جانب الرّجل في حدّ ذاته، أو من
جانبه بسبب تأثير تحرير المرأة
إيجابـيّا عليه.
فالمرأة المحرّرة و المتعلّمة
كأمّ و زوجة و حاضنة، كان لها
التـأثير الإيجابي البليغ على
الرّجل و تكوينه و وعيه
وتربيّته وجدواه على جميع
المستويات في المجتمع. ونرجو أن
لا نكون مخطئين إذا اعتبرنا أنّ
فاعليّة الفرد في الوطن العربي
و حيويّته وإبداعه وعطائه،
هيّ من أفضل ما هوّ موجود في
الدّول و المجتمعات المشابهة
التّي لم تشهد المرأة فيها من
العناية و التحرير وإعطاء
الإعتبار، ما شهدته في الوطن
العربي في هذا الجانب. ونحسب أنّ
النّهوض بالمرأة على علاّته قد
ساهم بقسط وافر في تحسين مردود
الفرد عموما في المجتمع العربي...
وقد اعتمد النّظام العربي
في إصلاحه لوضعيّة المرأة
الوسائل التّاليّة
:
أ وّلا ـ التعليم
:
إنّ أهمّ إنجاز، بدون منازع، هوّ تعميم التعليم، و ذلك رغم ما
شابه من نقائص و محدوديّة، فهو
لم يكن تعميما كاملا للتعليم
بكلّ ما تعنيه العبارة من معنى،
كما أنّ برامجه لم تكن بالمستوى
المرجوّ و عانت من نقائص عدّة
منذ انطلاقتها إلى حدّ الآن. لكن
رغم ذلك فإنّ ما حصل في الوطن
العربي في المجال التعليمي
يعتبر إنجازا. و إذا كان العلم
يعتبر، منذ القديم، نورا و
الجهل ظلمات، فإنّ العلم أيضا،
كان و لا يزال، عتقا و الجهل
سجنا. أمّا في هذا العصر فيضاف
إلى ذلك أنّ العلم غدا تقدّما و
ثراء، و الجهل غدا أيضا تخلّفا و
انحطاطا و فقرا. ان الوطن لا
يملك من الثّروات المحوّلة
وعوامل الانتاج إلاّ القليل
المتواضع، لا يمكنه أن ينهض و
يتحوّل إلى بلد غنيّ متقدّم
إلاّ عن طريق العلم و التّعلّم
والمراهنة عليهما والتضحيّة
بكلّ الطّاقات من أجل كسبهما.
فإن كان الشعب الجاهل حملا
مرهقا فإنّ الشعب المتعلّم
والمفتّق الطّاقات هوّ محرّكا
قويّا نحو التّقدّم والرّقيّ
وكلّ الخيرات.
أمّا بالنسبة للمرأة، فقد مكّنها
تعميم التّعليم، و لو جزئيّا
بقدر استفادتها منه، من تنوير
ذهنها و تفتيق طاقاتها و
قدراتها التّي كانت بالأمس
مجمّدة، مثلها
في ذلك مثل الرّجل، و من
توعيّتها بدورها في المجتمع و
في الحياة عموما، ومن الشّعور
بقيمتها وبثقتها في نفسها، كما
وعّاها بحقوقها و بكونها شريكة
للرّجل، ليس فقط في تحمّل أعباء
الحياة العائليّة، و إنّما أيضا
هيّ شريكة له في عمليّة النّهوض
بالمجتمع نحو التّقدّم و
الرّقيّ. إذن فالمرأة، في البيت
كما في المجتمع عضو فاعل و شريك،
مثلها مثل الرّجل، وليست خادمة
تابعة له. و لم يحصل الوعي بهذه
المسائل بمجرّد اتّخاذ
القرارات و وضع القوانين، و
إنّما حصل بالأساس بالتربيّة
والتعليم.
وتجربة تعميم التعليم ساهمت في
تحسين وضعيّة المرأة و لم
تعالجها علاجا كاملا. ذلك لأنّه
لم يكن، بالنسبة لها، كذلك إلآّ
نظريّا. أمّا على مستوى الواقع
فهناك عديد العوائق، التي
سنتطرّق لها لاحقا، قد حالت دون
تعميم التعليم، وذلك خاصّة
بالنسبة للمرأة. و يعود ذلك، كما
ذكرنا إلى عديد الإعتبارات،
منها قوى التّزمّت والإنغلاق
والجذب إلى الخلف، في البوادي و
الأرياف وحتّى على أحزمة الفقر
في المدن الكبرى التّي حالت دون
التحاق العديد من الفتيات
بالمدارس. كذلك الفقر و الأوضاع
المزريّة التّي كانت تعيشها
نسبة مرتفعة من العائلات حالت
دون استمرار أعدادا كبيرة من
الفتيات في مواصلة دراستهنّ
وأجبرن على الانقطاع المبكّر عن
الدّرا سة.
كذلك، من تلك الاعتبارات قلّة
المدارس المتوفّرة وبعد
الموجودة منها عن مواقع السّكن،
في الأرياف خاصّة، ترك العديد
من الأهالي يمتنعون على إرسال
بناتهنّ إلى المدارس خوفا
عليهنّ من مفاخآت الطّريق غير
الآمنة. ويمكننا القول إنّ
المجتمع التّونسي، خاصّة في
الفترة الأولى التّي تلت
الإستقلال لم يكن، من أكثر من
وجه، مهيّأ لتحقيق شعار تعميم
التعليم كاملا غير منقوص.
على هذا الأساس فنحن نعتبر شعار
تعميم التعليم لم يتحقّق بعد في
الوطن العربي، و لا يزال قائما
ينتظر التحقيق. و ما لم يطبّق
تطبيقا كاملا و صحيحا فإنّ
فوائده تبقى منقوصة. و نعني
بالتطبيق الكامل أن يشمل كلّ
الأطفال و الشّباب في سنّ
التعليم، ذكورا وإيناثا، في كلّ
مكان في تونس، في الأرياف و
البوادي، و القرى والمدن بدون
استثناء. ونعني بالتطبيق
الصّحيح، مساعدة كلّ أولئك أن
يتقدّموا شوطا
مناسبا في مواصلة تعليمهم،
يقطعون بواسطته نهائيّا مع
الأميّة و يربطون به مع القراءة
و الكتابة بدون حدّ و لا صعوبة،
و مع الفهم و القدرة على النّقد.
هذا في الحدّ الأدنى، على أن
توضع كلّ التسهيلات لتمكين أكبر
عدد ممكن من الجنسين، على
السّواء، من مواصلة دراستهم إلى
أعلى المستويات. و ذلك إذا
توفّرت لهم المواهب و القدرات
الذهنيّة التي تمكّنهم من ذلك.
وهكذا فنحن نعتبر تعميم التعليم،
كمّا و كيفا، وسيلة أساسيّة لا
يمكن التهوين من قيمتها و لا
التقصير في تحقيقها، ومن أجل
تفتيق المواهب و القدرات و
تحرير الطّاقات البشريّة
الهائلة، و خاصّة منها تلك
الكامنة لدى المرأة، و كذلك من
أجل تحقيق نهضة البلاد و
تقدّمها ماديّا و معنويّا. ذلك
لأ نّه لا يمكن لتونس أن تتحوّل
إلى صفّ الدّول المتقدّمة و
المتحضّرة ما لم تقضي قضاء
مبرما على الجهل و الجمود و تقبل
جماعيّا على التعليم و التربيّة
و حبّ التّرقّي في سلّم المعرفة
وكسب العلم والخبرات والمهارات.
وقد مثّل تعليم المرأة، و النّهوض
بها معرفياّ و تنوير ذهنها و
تحرير طاقاتها و قدراتها
الهائلة، الخطوة الأساسيّة
الأولى التي فتحت أمامها الباب
لتعي بحقوقها و بمكانتها
المركزيّة في المجتمع و بضرورة
أن تكون عضوا فاعلا فيه، ناهضا
لتحقيق أهدافه، مثلها مثل
الرّجل.
ثـانيّـا ـ التشـريـع
:
لم يكن دور التعليم والتربيّة
ثانويّا في موضوع تحرير المرأة
والنّهوض بها وتنوير ذهنها
وتوسيع وعيها وتحرير قدراتها و
طاقاتها و تقويّة مكانتها في
المجتمع، بل على العكس كان
أساسياو فعّالا. إلاّ أنّ
النظام العربي
لم يكتف بذلك في مشروعه
النّسوي. وإنّما عضّده بثورة
تشريعـيّة في هذه المسألة، من
خلال مجلّة الأحوال الشخصيّة
الجديدة التّي وضعها.
ثـالثـا ـ تشريك المرأة إلى جانب
الـرجل فـي المـعترك اليـومي
للحياة :
بقيت المرأة العربية،
خارجة تماما عن كلّ مجالات
الحياة اليوميّة العامّة
للمجتمع، من إقتصاديّة
واجتماعيّة و ثـقافيّة و خاصّة
سياسية. و بقيت رغم أنفها
متـفـرّغة لخدمة الحياة
العائليّة الخاصّة في البيت و
معاونة الرّجل في العمل
الفلاحيّ في الحقل. أمّا ترتيب
الحياة العامّة للمجتمع من كلّ
جوانبها و على كلّ مستوياتها
فحرمت منه، و بقي من شأن الرّجل
وحده. و هكذا فقد حرم المجتمع
أنذاك، في تسيير شؤونه و تحقيق
تنميّته و تقدّمه، من مجهود و
طاقات نصف أعضائه.
أمّا بعد ، و نتيجة لما اكتسبته
المرأة تدريجيّا من معرفة و علم
و تكوين في العديد من الفنون و
مجالات، تنوّر بها ذهنها و
تحرّرت بها طاقاتها ومواهبها، و
شعرت بواسطتها بقيمتها في
المجتع، التّي
لا يمكن في الحالة الطّبيعيّة
أن تختلف عن قيمة الرّجل. و كذلك
نتيجة للثورة التّشريعيّة
التّي وضعت حدّا المظالم التيّ
كانت مسلّطة عليها، خلال عصور
الإنحطاط، وضمنت لها حقوقها و
بيّنت لها واجباتها. ثمّ أيضا
نتيجة للإرادة السّياسية
القائمة، التّي شجّعتها كثيرا
على اقتحام مجلات الحياة
العامّة والمشاركة، إلى جانب
الرّجل، في المعترك العملي
اليومي للمجتمع.
لقد حاولت المرأة العربية، نتيجة
ما ذكرنا من اعتبارات و
تشجيعات، التوفيق بين العناية
بشؤون عائلتها وبيتها والخروج
إلى ساحة المجتمع
لتشارك، إلى جانب الرّجل،
في معترك الحياة العامّة،
فتقلّدت مختلف المهامّ و
الوظائف حسب قدراتها وكفاءاتها.
وقد تحوّلت المرأة العربية بذلك
من موقع الإهمال والتهميش
والتغييب و التّبعيّة للرّجل
إلى مستوى المرأة الإنسانة
المكرّمة و المسؤولة على
أعمالها و مصيرها و المساهمة من
موقعها في تحقيق الأهداف الكبرى
للمجتمع. وقد أصبحت بذلك عضوا
فاعلا و شريكا للرّجل بعد أن
كانت، لقرون طويلة، كائنا
مهمّشا تابعا له.
ورغم أنّ ما حقّقته المرأة، في
الوطن العربي، من انعتاق و
تحرّر و كرامة و اعتبار، ليس له
ما يعادله في بقيّة البلاد
العربيّة، فإنّ هذا الإنجاز بقي
منقوصا، يشكو من عديد السلبيّات
و التي نذكر من بينها ما يلي :
أوّلا ـ عائـق الجهل و التـّخـلّف
و الفقر :
إنّ الأعمال التغييريّة و الثورات
الإصلاحية، مهما كانت جدّيتها و
شدّة الحاجة لها، فإنّها لا
تستطيع أن تحصل بسهولة في
المجتمعات التقليديّة المنغلقة.
و غالبا ما تصطدم بالمعارضة و
الرفض من قبل قوى الجمود و
التقليد في تلك المجتمعات. أي
أنّه بقدر ما تكون في المجتمع
قوى لصالح ذلك التغيير ناهضة له
و مصمّمة عليه، بقدر ما تبقى فيه
قوى رافضة له، ناشطة، عن وعي أو
عن غير وعي، في منعه أو على
الأقـلّ، في تعطيله. ولا يخفى
علينا ما كان يعيش عليه المجتمع
العربي، من
جهل مطبق و من تخلّف رهيب ومن
جمود وتشبّث بالعادات و
التّقاليد الصّالحة منها
والفاسدة على السّواء.
وقد ترك ذلك الوضع السيئ، الذّي
كان يعيش عليه المجتمع العربي،
شريحة واسعة من الشعب، خاصّة في
أعماق البوادي والأرياف و
القرى، تتمسّك بما هوّ موجود،
في ذلك الوقت، تعترض على ذلك
التغيير بخصوص وضعيّة المرأة
اعتراضا شديدا، معتبرة إيّاه من
الفسوق و الخروج عن الملّة، و
ترفض إرسال البنات إلى المدارس،
حفاظا منها بذلك على الشّرف و
الأخلاق الحميدة و ما أمر به
الدّين. و هناك فريق آخر، رغم
اقـتـناعهم بتعليم المرأة و
تنوير ذهنها و تحرير طاقاتها،
أجبرهم الفقر المدقع و قـلّة
ذات اليد على عدم إرسال بناتهم
إلى المدارس، تجنّبا لنفقات هم غير قادرين عليها من
ناحيّة، ولكي يستعينوا بهنّ في
أعمالهم الفلاحيّة أو في
صناعاتهم التقليديّة التّي
يتعاطونها في منازلهم ، و تدرّ
عليهم شيئا من الربح يحسّن لهم
مداخيلهم المتواضعة.
وهناك فريق ثالث ليسوا معترضين
على تعليم البنات، ولا على
تحرير المرأة و تمكينها من
حقوقها الطّبيعيّة و من مكانتها
في المجتمع، ولا تعوزهم الحاجة،
إلاّ أنّ أبناءهم سرعان ما
انقطعوا عن المدرسة بعد أن
التحقوا بها، و ذلك بسبب الجهل
المطبق الذّي تعيش عليه
عائلاتهم، وهو ما حرمهم من
توفّر الحدّ الأدنى من الحوافز
المعنويّة، في البيت من طرف
العائلة، التّي تمكّنهم من
الإقبال على الدّراسة و العناية
بها و الحرص على مواصلتها،
خاصّة و أنّ النّجاح في ذلك
يتطلّب تظافر الجهود من جانب
المدرسة و البيت في وقت واحد.
ولا شكّ أنّ عدد الأطفال الذّين
انقطعوا عن دراستهم و لم يقدروا
على مواصلتها، ليس بسبب الفـقـر
و الحاجة، و إنّما بسبب انعدام
الحدّ الأدنى من الظّروف
المعنويّة المناسبة، التّي
تعينهم على ذلك في البيت، كبير
جدّا.
ونحسب أنّ هذا العائق قد تقلّصت
خطورته اليوم على المضيّ قدما
في عمليّة التربـيّة و التعليم
، خاصّة في ما يخصّ البنات. إلاّ
أ نّنا نخشى أن تكون هناك عوائق
جديدة قد حلّت محلّ القديمة، من
مثل تفجّر العائلة بكثرة حالات
الطّلاق، قد غدت تهدّد التّوازن
النفسي للأطفال في تلك
العائلات، و خاصّة منهنّ البنات
لرهافة نفسيّاتهنّ و شدّة تأ
ثّرهنّ بالمشاكل العائليّة،
وأصبحت تهدّد قدرتهم على مواصلة
دراستهم بنجاح وفي ظروف طبيعيّة.
ثانيّـا ـ خـلل النّـظام
التـّربـوي
:
لقد رفع النّظام العربي شعار
تعميم التعليم. ثمّ بذل جهدا
كبيرا في تحقيق ذلك الشّعار في
الواقع. و قد تحقّقت نتائج طيّبة
في هذا المجال، لم يتحقّق مثلها
في عديد من البلدان ممّن تتمتّع
بإمكانيّات ماديّة تفوق بكثير
ما هوّ متوفّر لبلادنا. و كان
بالإمكان أن تكون تلك النّتائج
أحسن بكثير ممّا كانت، لوكانت
برامج و مادّة النـّظام
التربوي مركّزة و موفّقة أكثر
ممّا كانت. فإذا كانت هذه
البرامج قد لقّنت المتعلّمين،
في معظم الأحيان بأسلوب سرديّ
يفتقر إلى المنهجيّة
النّقديّة، علوما و معارف، إلاّ
أ نّـها لم تكسبهم من الجانب
التّربوي شيئا يذكر. و قد أدرك
واضعوها، بعد مدّة وجيزة نقصها
و قصورها، إلاّ انّهم عجزوا على
إصلاحها. و
بقيت تتخبّط بين الإصلاح و
الذّي يليه، دون أن يستقرّ
أمرها على خطّ سويّّ.
و قد أثّر هذا الإهتزاز في البرامج
التعليميّة و التربويّة التّي
بقيت مذبذبة بين توجّه و نقيضه،
لا يوحّد بينها إلاّ خطّها
المستورد الغريب
عن أرضيّتنا العربيّة
الإسلاميّة و طبيعة مجتمعنا
العربي، على برامج إصلاح وضعيّة
المرأة و تنوير عقلها وتحرير
قدراتها و طاقاتها. فعوضا أن
يحصل لها ذلك في إيطار ذاتيّتنا
الحضاريّة و الثّقافيّة، حصل
لها في إيطار مذبذب ومخلوط،
شوّش عليها تحرّرها وأفقدها
خلاله توازنها.
والسّبب في ذلك حسب رأينا هوّ أنّ
واضعي تلك البرامج كانوا تائهين
في وله الأنموذج الغربي إلى
الثّمالة، و لم يكن يحضر في
تصوّرهم إلاّ ذلك الأنموذج.
فعوض أن تركّز تلك البرامج في
مسألة تحرير المرأة على تنوير
عقلها و تكوين العقل النقدي
لديها و تمكينها من ثقتها في
نفسها و إ شعارها بقيمتها
الأساسيّة في المجتمع و بدورها
المركزي الذّي يجب عليها أن
تلعبه فيه، و في مثل هذه الأمور
لا يضرّ أن نستعير و نقتبس ممّا
أنتجته الإنسانيّة، في الشرق و
الغرب على السّواء، من فكر
ووسائل ومناهج. أمّا ما هـوّ
متعلّق في تلك البرامج من قيّم
تربويّة و عقديّة ومن آداب
التعامل و نظام حياة الأسرة و ما
إلأى ذلك، كان من تراثنا الفكري
و الثّقافي الذّاتي بالأساس،
مصحوبا، في أبعد الحالات،
بمادّة مقارنة تعين على التحصين
و إنضاج ملكة العقل النقدي.
وقد تسبّب لنا ذلك، في النّهاية،
في تحرير للمرأة مشوّه و مهزوز و
منبتّ، يتصارع فيه الأنموذج
الغربي للمرأة المحرّرة
والمكرّمة والمعتبرة، في إطار
مقوّمات مجتمعاتها الثّقافيّة
و الحضاريّة، و الأنموذج العربي
الإسلامي و ما يتميّز به
بالأساس من بعد أخلاقي عميق و من
بعد جماعي. فواضعو البرامج
التعليميّة أهملوا طبيعة
المجتمع عند وضعهم للبرامج، و
كان من واجبهم لو فقهوا أن لا
يفعلوا و أن لا يخلطوا بين
الأدوية على المريض، و أن لا
يضعوا له في الوصفة ما يضرّ
بطبيعة بدنه مثلما فعلوا.
أمّا اليوم
فلهذا السّبب و لغيره من
الأسباب، تتأكّد مسألة إصلاح
البرامج التعليميّة و
التربويّة، إ صلاحا يجب أن
يراعى بموجبه هذا الجانب الأخير
الذي كنّا بصدد التأكيد عليه،
حتّى نقضي على جوانب الإختلال و
الإهتزاز و التّذبذب التي
أوجدته تلك البرامج لدى الفرد
العربي، و خاصّة لدى المرأة،
فأضرّ بالعديد من الجوانب في
حياتها و في حياة العائلة،
النّواة الأساسيّة في المجتمع،
و في حياة المجتمع و توازناته
عموما. ولا ننسى أنّ الذي نريده
هوّ إمرأة محرّرة ومسؤولة و
فاعلة و ليس إمرأة متمرّدة
ومبتذلة.
ثـالثـا ـ التشريع المتشنّج
:
لقد وضعت التشريعات الجديدة
المتعلّقة بالأحوال الشّخصيّة،
و بالمرأة عموما، بعقليّة
متوتّرة أو تحت ضغط عقليّة
متوتّرة. بينما كان من الواجب أن
يوضع هذا التّشريع بعقليّة
هادئة مترنّحة و متجرّدة عن كلّ
الإعتبارات الجانـبـيّة. و
القوانين كما هوّ معلوم لدى
الجميع لا
توضع ولا تطبّق تحت التّشنّج أو
الغضب. لقد وضع هذا التشريع تحت
تأثير عقليّة الأخذ بالثأر،
للمرأة من الرّجل. و من
النّتائج السّلبيّة، لهذه
المنهجيّة الخاطئة، أن وقع هذا
التشريع في الشّطط، و جاء مهتزّ
الأطراف. في حين كان من الأجدى
أن لا يحصل الأمر بذلك الشكل.
لأنّ المرأة ليست نقيضة الرّجل
و لا عدوّته، و أنّما هيّ أخت له و شريكة له في الحياة و في تواصل
النوع البشري. و الضّرر بأيّ
منهما هوّ ضرر بالثّاني أيضا.
ومسألة تحرير المرأة
كانت تتمثـّل في إيجاد
العلاج للوضعيّة السيّئة
للمرأة، و ليس في حلّ لمشكلة
بإيجاد مشكلة أخرى مكانها،
ربّما أشدّ خطورة من سابقتها. و
قد كان من الأجدى لو وضعت
التشريعات المعينة المقنّنة
لتحرير المرأة و تكريمها
والرّفع من شأنها في إطار
التّكامل بينها و بين الرّجل و
ليس كما حصل، ضمن المشروع
العربي ،
رابــعـا ــ تأخـّر عمليّـة
التربـيّة و التكويـن عن عمليّة
التـّشـريع :
إنّ التشريعات الثوريّة إذا وضعت
قبل تهيئة الأرضيّة لها، تبقى
مهدّدة بالفشل، أو على الأقـلّ
فإنّها تجد صعوبات جمّة، على
طريق إنزالها و إنفاذها في
الواقع. و إذا ما طبّقت فإنّ
نتائج تطبيقها لا تكون بالمستوى
المطلوب. وهذا ما حصل بالضبط
للعديد من التشريعات الجديدة في
الوطن العربي ، و على وجه
الخصوص، تلك التّي تتعلّق منها
بالمرأة.
خـامسـا ـ لـوثة الإنتهـازيـّة و
الإسـتغـلال :
لمـّا ينظر الدّارس و يتأمّل في
الشّعارات التّي رفعت،
بخصوص مسألة تحرير المرأة،
وفي القوانين التّي شرّعت من
أجل ذلك، ثمّ إلى الواقع الذّي
عرفته المرأة ، يدرك بوضوح أنّ
السّياسة العربية تجاه المرأة
كانت سياسة انتهازيّة
استغلاليّة و ليست مبدئيّة صرفة.
المـبحـث الثّـالث : المـرأة
الّتـي نـريـد :
ما نريده للمرأة ليس العودة إلى
الوراء، لأنّ العقل السليم يأبى
ذلك، و لأن سنة التطورفي الحياة
هي الأخرى تأبى ذلك أيضا. إنّما
الذي نريده هوّ تصحيح لخطّ
التّوجّه، بما يتناسب و
خصوصيتها و مع ذاتيّتنا
الثّقافيّة و سلّم قيّمنا و مع
الموقع المحوري الذي يجب أن
تحتله في المجتمع، ثمّ المضيّ
قدما إلى الأمام في تفعيل قدرات
المرأة و تجذير موقعها المركزي
في المجتمع. إنّ الذي نريده
للمرأة، كما للرّجل، ليس هوّ
تحرير الغرائز و سلطان
الشّهوات، و لا تحرير مظهري
قشري، و إنّما الذي نريده هو
تحرير حقيقي للعقول و المواهب و
القدرات. و ما نريده للمرأة، كما
للرجل ليست حداثة مستوردة تضرر
منها أصحابها، و إنما حداثة
ذاتية أصيلة مراعية لقيمنا و
لخصوصياتنا الثقافية و
الحضارية.
أول ما نريد التنبيه إليه على هذا
المستوى هو أننا لا نعتبر وضع
المرأة الغربية مثالا لنا يجب
أن نجعله هدفا لنا. ذلك لأنها
حتى إذا كانت وضعيتها قد أصبحت
مثلى أو حتى مرضية بالنسبة
لأهلها، فهي ليست كذلك بالنسبة
إلينا و إلى محيطنا وطبيعة
مجتمعنا، وتبقى دائما ضعفية
غريبة عن محيطنا و ذاتيتنا.
ولسنا نحسب أن التوجه الغربي هو
الذي يمكن أن يشد انتباهنا في
هذه المسألة. بل نحن نرى كدارسين
أن وضعية المرأة في الغرب، رغم
ما حققته من مكاسب عدة ليست
غائبة عنا، قد انحرفت منذ أمد
بعيد. فإذا كانت المرأة الغربية
قد حققت مكاسب عدة على بعض المستويات، خاصة منها
مستوى الحياة العامة، فقد وقعت
في سلبيات عدة قيمية حولتها إلى
عامل و بضاعة متعة تباع و تشترى،
و عامل إنتاج و كسب للثروة أكثر
من الرجل، و أفقدتها إلى حد بعيد
خصوصيتها كضامنة لتواصل النوع
البشري.
وقد أصبحت وضعية المرأة الغربية
محطة، حتى من المنظور الغربي
نفسه، من أكثر من جانب. وهي في
حاجة ملحة للعلاج العميق، قبل
أن ينظر إليها كمثال وهو ما جعل
العديد من الجمعيات النسوية و
العديد من التيارات الفكرية
تنهض للدفاع عن الحقوق المسلوبة
للمرأة و عن كرامتها المهدورة
كإنسان مكرم. و لا يفوتنا أن
نلاحظ بالمناسبة أن النظم
الماركسية قد حققت تقدما ملحوظا
في مجال المساواة بين المرأة و
الرجل. إلا أن هذه النظم كما هو
معلوم لا تولي أي اعتبار لسلم
القيم الإنسانية التي يجب أن
تحكم العلاقة الرابطة بين
المرأة و الرجل.
وبسقوط تلك النظم في الإتحاد
السوفياتي سابقا وفي دول أوروبا
الشرقية انتكست وضعية المرأة في
عديد المجالات. وتسببت صعوبة
التحول إلى الرأسمالية و تفشي
البطالة و الفوضى والفقر لشرائح
واسعة جدا من النساء في تلك
البلدان إلى الوقوع في آتون
الرذيلة و في ما يشبه وضعية الرق.
ونحن واعون في نفس الوقت بأن
النظام البورقيبي، ثم النظام
الذي خلفه، وقع في خطإ النظر إلى
أنموذج المرأة الغربية كمثال
يجب السعي إلى تحقيقه في
بلادنا، حاذفين منه العديد من
إيجابياته ومحافظين على كل
سلبياته و مضيفين إليها العديد
من السلبيات التي عليها وضعية المرأة في مجتمعنا التونسي.
إن النخبة العلمانية المتأثرة
بالغرب، تريد تحرير المرأة من
الجهل وعادات و تقاليد عصور
الإنحطاط، وهذا شيء جيد نتفق
معهم فيه، إلا أنهم يريدون
تحريرها في نفس الوقت من كل
القيم المتعلقة بديننا
وثقافتنا، و من مفهوم الحسن و
القبيح المتعارف عليه في
مجتمعنا، و من مفهوم الحلال و
الحرام. إنهم يريدونها امرأة
محررة في مظهرها و غرائزها و
مستعبدة في ذاتها و كرامتها. و
هذا شيء لا يمكن أن نتفق معهم
فيه. فإذا كانت المرأة في الوطن
العربي قد بدأت تتخلص تدريجيا
من سلبيات العادات و التقاليد
السيئة و من عقلية الجهل و
التخلف و المفاهيم الخاطئة
للدين فإنها بدأت تتحول إلى
ضحية لنوع جديد من المظالم تسلط
عليها تحت غطاء من الحداثة و
التقدم و العصرنة. و ما نراه نحن
مناسبا لوضعية المرأة
المعاصرة و منسجما مع طبيعة
محيطنا الثقافي و الحضاري و
القيم الإنسانية السامية
الأساسية، يمكن أن نلخصه في
النقاط التالية :
أولا ـ مسؤولية المرأة نفسها في
النهوض بوضعيتها :
المرأة هي المسؤول الأول على
النهوض بوضعيتها و اكتساب
حقوقها و استحقاق موقعها الهام
الذي تستحقه في المجتمع. ومما
يعينها على تحقيق ذلك هي
واقعيتها. فالمرأة يجب عليها
بذل الجهد لتكون واقعية، بعيدة
عن الخيال والمثالية. ومن أول
المقومات بواقعيتها هو أن تكون
واعية بخصوصيتها في ضمانة تواصل
النوع البشري، فلا ترفضها ولا
تتملص منها وإنما تحاول تنظيمها
و التفاعل معها بحكمة، لأن
رفضها أوالهروب منها هو أمر
منافيا للواقعية و لطبيعة
الأشياء. كما يجب من جهة أخرى أن
تحذر من تسلبها هذه الخصوصية
حقوقها و طموحاتها المشروعة،
كلها أو بعض منها، بتراخ منها أو
بتأثير من الرجل عليها.
والتطرف إلى هذا الجانب أو إلى ذاك
في هذه المسألة لا يخدم مصلحتها
و لا مصلحة المجتمع الذي تنتمي
إليه ولا مصلحة الإنسانية عموما.
و من الواقعية التي يجب أن تتحلى
بها المرأة أيضا أن تكون واعية
بطبيعة محيطها محترمة إياها غير
رافضة لها متحدية إياها. لأن
التحدي لا يولد إلا التحدي و
التطرف في المواقف لا يولد إلا
التطرف. و حتى إذا كانت طبيعة
المجتمع تتصف بشيء من الركود و
الجمود و التخلف، فتطويرها لا
يمكن أن يحصل بالكسر و التحدي، و
إنما بالحوار الجماعي والإبداع
في الإنتاج الفكري و التفاعل
الإيجابي.
فتجاهل المرأة لطبيعة محيطها و
تمسكها بأفكار و شعارات و
ممارسات واردة غريبة عن المجتمع
لا يعينها على النهوض بوضعيتها
على أسس ذاتية متينة و لا يجذر
في المجتمع إلا التوتر
والإهتزاز والتشرذم، و لنا في
الإنتشار الرهيب لظاهرة الطلاق
و اهتزاز أركان العائلة في
الوطن العربي خير دليل. و من
واقعية المرأة أيضا أن تكون
مسؤولة بمعنى أن لا تراعي في
مواقفها وخياراتها مصلحتها
الفردية القريبة فحسب، مهملة
لمصلحتها البعيدة و لمصلحة من
حولها من أبناء وزوج و عائلة
وأقارب ولمصلحة المجتمع عموما.
فإذا كانت العقلنة و التريث في
المواقف مطلوبة من الإنسان
عموما فإنها من المرأة الإنسان
أشد إلحاحا ذلك لما هي مخصوصة
به، أكثر من الرجل، من عاطفة
مفرطة و مضرة بها و بمواقفها في
بعض الأحيان.
والمرأة مسؤولة على الفوز بحقوقها
و افتكاكها عن جدارة واقتدار
لموقعها المرموق في المجتمع بما
هي مطالبة بالتعبير عنه عن جدية
و اقتدار. فهذا الموقع سوف لن
يهدى لها من طرف الرجل، لأن
المواقع لا تهدى حتى بين الرجال
و إنما تفتك، وإنما يجب أن تفتكه
بما هي قادرة عن التعبير عنه من
كفاءة و اقتدار و جدية، و ليس عن
قوة في الإغراء، لأن ذلك ليس في
مصلحتها. وهنا يجب أن تذلل
العوائق أمامها لتتمكن من
اكتشاف مواهبها و تهيئة
قدراتها، و ذلك بالتعليم و
التكوين من ناحية، وبوضع
التشريعات المنصفة لها من ناحية
ثانية. كما هو مطلوب منها أن
تحذر من الوقوع في ما وقعت فيه
المرأة الغربية لما نجحت
الرأسمالية وحب تكديس الثروة في
تحويلها إلى وسيلة لإغراء
الرجال ومادة للمتعة و التسلية،
وهو ما يحط من قيمتها وكرامتها
كإنسان.
كذلك من مسؤولية المرأة في النهوض
بوضعيتها في المجتمع العربي أن
توسع من حلقة التحسيس بقضيتها
بكوين المزيد من الجمعيات
النسائية ذات الإهتمامات
المتنوعة في المجتمع. وأن تعتمد
ذلك كوسيلة في النضال السلمي من
أجل الحصول حقوقها و موقعها في
المجتمع و كإطار لتوسيع رقعة
الحوار الوطني الهادئ حول
النهوض بوضعيتها. كما يمكنها أن
تعتمد ذلك كمخبر ميداني للتعبير
عن كفاءاتها و قدراتها التي
يحتاجها المجتمع وتساهم في
النهوض به. و المرأة لا يمكنها
أن تجذر موقعها في الهرم
المجتمعي و تفرض نفسها في مختلف
المؤسسات في البلاد و في كل مواقع الحياة العامة السياسية
والإقتصادية والإجتماعية
والثقافية ما لم تنج في فرض
نفسها على ساحة المجتمع المدني
و ما يدربها عليه من نضال وما
يعرفها به من آليات التحرك
والتفاعل بين مختلف المؤسسات و
الأطراف في المجتمع.
فعلى المرأة أن تأخذ المبادرة
لإيجاد واقع مجتمعي تساهم فيه
بحصتها كاملة، ولا تنتظر غيرها
أن يدعوها لذلك.
ثـانـيـا ـ خصوصية المرأة
بالمقارنة مع الرجل :
ليس هناك اختلاف بين الرجل و
المرأة على مستوى الجوهر، أي
على مستوى الذهن و التكليف و
المسؤولية و التكريم. إنما هناك
خصوصيات، و من أهمها خصوصية
الحمل و الوضع و الرضاعة
والحضانة التي تختص بها المرأة
على الرجل. وهذه الخصوصية هامة
جدا، تزيد من قيمة المرأة
بالنسبة للرجل، من حيث أنها
تضمن تواصل النوع البشري و
سلامته وتوازنه. وهذه الخصوصية
هي قيمة إضافية لصالح المرأة لا
تقلل من بقية حقوقها و واجباتها.
فلا يحق للرجل أن يعتبرها مخلوقة
لذلك فقط فيعتدي عليها و يحرمها
من بقية الوظائف و الإهتمامات.
ولا يحق لها هي أن تزهد في هذه
الخصوصية و تتركها، كما بدأ
يظهر ذلك في سلوك المرأة
الغربية أو المتغربة، معتبرة
إياها مكبلة لها ومانعتها من
بقية الإهتمامات و المناشط و
التكليفات في الحياة. والتفريط
في هذه الخصوصية هو من الأنانية
وتفريط في مبدإ الحياة جملة. و
قبل أن تفكر المرأة في التفريط
في هذه الخصوصية لا بد لها أن
تتذكر أنها بنت لامرأة كانت قد
ولدتها من قبل، وإذا رفضت أن تلد
هي فمعنى ذلك أنها رفضت تواصل
الحياة و تواصل النوع البشري
فيها.
إن هذه الخصوصية التي تختص بها
المرأة، والتي تجعلها غير
مسؤولة على نفسها فحسب وإنما
أيضا على أطفالها، أي على
الأجيال و تواصل النسل و النوع
البشري على سطح هذه المعمورة،
يمكنها من حقوق ملحة للغاية
باعتبارها مؤتمنة على هذه
المهمة الأساسية في المجتمع
التي تتجاوز قيمتها قيمة كل
المهمات الأخرى من مثل مهمة
إيجاد الإبداع العلمي والفكري
والمعرفي عموما ومهمة إنتاج
الثروات و غيرها من المهام
الأخرى. و من هذه الحقوق نذكر حق
الرعاية الصحية الدقيقة طيلة
فترة الحمل وعند الوضع و ما قد
يترتب عليه من مفاجآت و بعد
الوضع لها و لمولودها.
و من تلك الحقوق نذكر أيضا حق
التعطيل عن العمل لوقت مناسب،
إن كانت امرأة عاملة، حتى تتفرغ
للوضع ثم للعناية بالمولود. أما
إن كانت ربة بيت ليس لها شغل
خارجه فيجب أن تسند لها منحة
الوضع و الرضاعة. كما أن
خصوصيتها تلك لا تجعل منها مجرد
حاملة و والدة و مرضعة فحسب، و
إنما تجعل منها أيضا مربية.
فالأم هي المدرسة الأولى، فمن
حقها على الدولة إذن أن تمكنها
من التكوين العلمي و المعرفي و
التربوي الذي يجعل منها مربية
ناجحة تضع الأساس المتين لتخريج
أجيالا صالحة متفوقة و مبدعة.
وهذه الخصوصية التي تختص بها
المرأة رغم أهميتها الكبرى
فإنها لا تستغرق لها من حياتها
إلا وقتا محدودا، وهو ما يمكنها
من النهوض للمشاركة في بقية
المناشط الأخرى للحياة، مثلها
مثل الرجل، في خارج تلك الأوقات.
وهو ما يجعل مقولة إن المرأة
للبيت و كل مشاغله و الرجل لكل
المشاغل خارجه مقولة اعتباطية
ليس لها دليل من شرع و لا من عقل.
فالمرأة يمكنها أن تضمن تواصل
النوع البشري و أن تساهم من
جانبها في متطلبات الحياة
العامة على جميع المستويات دون
أي تناقض ولا خلل.
ثـالـثـا ـ التــعلــيم
:
إن أول عامل لتحرير الإنسان
عموما، و المرأة بشكل خاص، هو
التعليم و تحرير العقول. فليس
هناك شيء يتميز بالقوة الفائقة
شبه السحرية لتمليك الإنسان،
امرأة كانت أو رجل، خير من العلم
و تنوير العقول بأنواره، و
تحريرها من عقدة الجهل وظلماته.
وقد قطع إلى حد الآن في هذا
المجال في تونس شوط لا بأس به،
إلا أن ذلك بقي منقوصا من عدة
جوانب. فهو منقوص من جهة
التعميم، فمسألة التربية و
التعليم لم تتعمم بعد. وهو من
جانب المرأة أقل تعميم مما هي
عليه من جانب الرجل ويعود ذلك
إلى عديد الأسباب
سبق أن تعرضنا لبعضها.
والمسألة تتطلب منا مستقبلا
مزيدا من العناية، و وضع كل
التراتيب الضرورية من أجل تحقيق
التعميم الفعلي للتربية و
التعليم بين كل أفراد المجتمع،
وخاصة من جانب المرأة. كما نقصد
بتعميم التربية و التعليم
الإستمرار في المدرسة و الدراسة
إلى مستوى يستحيل التردي معه من
جديد في الأمية المطلقة، أو حتى
النسبية، بعد مدة طالت أو قصرت
من الإنقطاع عن الدراسة.
كما نعول على التربية و التعليم
لتحرير قدرات المرأة و تمكينها
من كرامتها ومن أن تمسك مصيرها
بيدها، بشكل يقطع مع التقليد و
التبعية للغير، خاصة بعد ما بان
فساد مثاله ووقع بالحجة و
الدليل و بما لا يدع الشك في
الانحراف و الضياع، ويراعي
خصوصيات ذاتيتنا الثقافية
والحضارية. فنحن ممن يعتبر أن
القيم الإنسانية السامية
والثوابت الخلقية، و الإلتزام
بالآداب الإسلامية في التعامل
عموما و في تحديد طبيعة علاقة
المرأة بالرجل هو من شروط
التقدم، ثم هو التقدم، ومن شروط
المحافظة على التقدم وعدم
الوقوع في منحدرات الإنحراف
والإنهيار.
و شعب يعيش حسب أهوائه و رغباته و
ميولاته، و ليست له ثوابت خلقية
و لاقيم إنسانية سامية تعصمه هو
شعب مراهق، مهدد دائما
بالإنحراف و الإنزلاق في
منحدرات الفساد و التخلف. و إن
كان هذا المثال الذي نقدمه هو
أشق على الغرائز و النفوس
الضعيفة إلا أنه هو الطريق
الأضمن و الأمثل لتحقيق التقدم
و الرقي و المحافظة عليها. و لا
ننسى أن ثقافة شعبنا هي ثقافة
مادية و روحية، دنياوية و
أخراوية، وهي ثقافة تحتل فيها
مسألة الحلال و الحرام مكانة
هامة و مرموقة. و نرى أنه من واجب
أي نظام سياسي صالح يؤمن إيمانا
صحيحا بالديمقراطية، و يرى أنه متى بلغ السلطة يجب أن يكون
خادما وفيا للشعب، يجب عيه أن
يحترم المثل و القيم و العقيدة
التي يؤمن بها الشعب.
ولسنا نرى تحقيق ذلك ممكنا إلا عبر
اعتماد برامج تعليمية وتربوية
متمشية مع ذلك، مثلما ذكرنا ذلك
بشيء من التوسع في فصل إصلاح
النظام التربوي و التعليمي، و
ليست برامج متنكرة لذلك تمام
التنكر مثل البرامج التي اعتمدت
إلى حد الآن في تونس، و خاصة
منها تلك البرامج الإنتقامية
التحطيمية التي وضعها عن قصد و
سابقية إضمار السيد محمد الشرفي.
ذلك لأن البرامج التعليمية و
التربوية المعتمدة ليست سوى
صورة للمجتمع الذي يراد تكوينه.
و بما أن السيد محمد الشرفي لا
يستحضر في ذهنه إلا المجتمع
الغربي ولا يحلم للشعب التونسي
إلا أن يصبح مثله فقد وضع برامج متناسبة مع ذلك
متناقضة مع هوية شعبنا وطبيعته
الثقافية والحضارية. و نعتبر
هذا التصرف الأخرق ضربا من ضروب
الخيانة للشعب و لهويته. ونحن لا
نحاسب السيد محمد الشرفي على
أفكاره وقناعاته و تصوراته
الخاصة، فهو حر أن تكون له
الأفكار والتصورات والقناعات
والأعمال الشخصية التي يريد.
إنما الذي نؤاخذه عليه هو فرضه
ذلك على الشعب، وهذا ضرب من ضروب
الخيانة والدكتاتورية.
و نرى تعليم المرأة و الترقي بها
إلى أعلى مستويات المعرفة و
تنوير عقلها وتحرير قدراتها، هو
أفضل سبيل لتحريرها و تمكينها
من مسك مصيرها بيدها، و هذا أرقى
في ذلك من سن القوانين لصالحها.
لأن المرأة متى تعلمت تعليما
معمقا غدت واعية من ذاتها
بحقيقة موقعها ودورها في
المجتمع وبحقوقها و واجباتها و
بمصالحها، وفي نفس الوقت
بالأشكال المناسبة للنضال من
أجلها. أما القوانين فمهما كانت
قد سنت لصالحها فذلك لا يمنع
أنها ليست بيدها و لا هي من
ذاتها وإنما هي خارجة عنها، وقد
تطبق التطبيق الحسن لصالحها و
قد يقع لأي سبب من الأسباب تعطيلها.
فعملية التربية والتعليم
والتثقيف هي الوسيلة المثلى
لتحرير الإنسان، امرأة كانت أم
رجلا. و المشكلة هنا تكمن في
القدرة على تجاوز العوائق أمام
تعليم المرأة والترقي بها إلى
أعلى المستويات. كيف يمكن تذليل
بقايا عقبات العادات والتقاليد
السيئة والتخلف، وكذلك عوائق
الفقر وعوائق الفهم الخاطئ
للدين وعوائق الزواج المبكر و
غير ذلك من العوائق التي عطلت
كثيرا ولا تزال تعطل تعميم
تعليم المرأة.
ومما ننتظره من وراء تعميم تعليم
وتربية المرأة، على أساس برامج
معقلنة و مكونة للعقلية النقدية
المبدعة، و متمشية مع طبيعة
هويتنا الثقافية و الحضارية و
مع كل الثوابت الخلقية و القيم
الإنسانية السامية، هو تخريج
أجيال من النساء ومن الرجال
مستنيرين و متحفزين للعمل
الصالح و للإبداع في كل
المجالات الحيوية في حياة
المجتمع، وفي نفس الوقت متمسكين
بالثوابت الخلقية التي تعين على
سلامة المجتمع و توازنه. أننا
نطمح إلى أن نرى المرأة في
بلادنا تغزو عن جدارة، مثلها
مثل الرجل، كل المواقع الحساسة
و الحيوية في المجتمع، في مخابر البحث العلمي و في أعلى مقاعد
الجامعات وبين المحامين
والقضاة والأطباء ورؤساء
الشركات الكبرى وفي البرلمان
وفي قصر الحكومة وفي قصر
الجمهورية متى حظيت بثقة الشعب
لذلك ، إلا أنها في نفس الوقت
يجب تبقى امرأة عفيفة مستقيمة
وزوجة صالحة وفية وأما حاضنة
لأبنائها حريصة على تربيتهم،
وعمادا للعائلة ومحافظة عليها
وعلى لحمة المجتمع وتوازنه،
بصفتها خليته الأولى.
إننا نريد للمرأة تحريرا يرتقي
بها في سلم إنسانيتها و سلم
القيم والمثل السامية، ويفيد
المجتمع من طاقاتها وقدراتها
ومواهبها في شتى المجالات، و
ليس تحريرا يحط من شأنها و من
كرامتها، و يجعل منها بضاعة
للمتعة المبتذلة تباع و تشترى
كبقية البضائع في الشوارع و على قارعة
الطريق. إننا نريده تحريرا لا
يهدد تربية الناشئة و توازنها
النفسي و العاطفي. ذلك لأن تربية
الناشئة و السهر على توازنها هو
هدف أساسي في مجتمع هدفه الأول
هو الإنسان، و كل بقية أهدافه
تصب في مصلحة هذا الإنسان، و
تحقيق سعادته و ترقيه في سلم
إنسانيته.
أما المجتمعات الغربية التي تغري
العديد من أبناء جلدتنا، فهي مع
الأسف الشديد لا تجعل من
الإنسان هدفها الأول، إنما تركت
هذا الشرف للمادة و لتكديس
الثروة. فالإنسان في نظرها و في
واقعها اليومي هو وسيلة للإنتاج
و لتكديس الثروة. كما أن سعادة
الإنسان في نظرها هي سعادة،
فضلا على أنها سعادة فردية
أنانية، فإنها من جانب آخر
سعادة منقوصة و وهمية لأنها لا
تراعي إلا جوانب محدودة من
الإنسان، و ليس الإنسان ككل
مادة و روح، وهي سعادة عابرة
وهمية لأنها لا تراعي إلا
اللحظة التي يمر بها الإنسان، و
لا تراعي الإنسان في مصدره و في حياته كلها مع التوقف على فهم
مدلولها و الهدف من ورائها و في
مآله بعد موته. و كل هذه و غيرها
معاني هامة و غزيرة نختلف فيها
مع المجتمعات الغربية و الثقافة
التي تحكمها و تعيش على ضوئها.
وفضلا عن الإختلاف الكبير الذي
يفصل طبيعة ثقافتنا ومجتمعنا
وطبيعة الثقافات و المجتمعات
الغربية، فإن هذه المجتمعات
الأخيرة اعترفت منذ زمان بفشلها
في مجال الإنسانيات و بتفككها
على الجميع الأصعدة. و يكفينا
هذا في الواقع لكي لا نأخذ من
هذه المجتمعات مثالا نتبعه.
رابـعـا ـ الإصـلاح التـشريعـي
:
كما سبق أن ذكرنا في هذا الفصل، إن
التشريع المتعلق بالمرأة سن
بشيء من التشنج و ردة الفعل
المفتعلة. و قد آن الأوان اليوم
لمراجعة هذا التشريع و تنقيته
مما فيه من تشنج و عقلنته.
فالتشريعات المتعلقة بالمرأة
يجب أن تطور في اتجاه مساواتها
بالرجل و القضاء على التمييز
إلا في المسائل القليلة الثابتة
التي ميز فيها الشرع بينها و بين
الرجل من مثل الإرث والشهادة في
العقود. أما المساواة فيجب أن
تحصل في مجال التربية والتعليم،
وفي مجال العمل و الأجور، و في
المجال السياسي وحق الإختيار
للمسؤول وتحمل المسؤولية، وفي
مجال التحرك اليومي والسفر، و في مجالي الزواج
و الطلاق، و في مجال حرية التملك.
و يجب أن يتحقق ذلك على أساس مبدأ
الحوار والإقناع وليس عن طريق
الإكراه. فالمسألة لا تتوقف عند
سن القوانين وإنما يجب أن تبدأ
قبل كل شيء بالتوعية والتربية و
التعليم، حتى يكون التشريع
تتويجا لما التعليم والتربية و
التكوين من تغييرات في العقلية
و القناعات. و الإصلاح التشريعي
في هذه المسألة يجب أن يشمل
المجالات التالية
:
1 ـ على مستوى مجلة
الشغل :
لقد تحدثنا في موضع سابق من هذا
الفصل حول مسألة استغلال المرأة
من الناحية الإقتصادية، و ذلك
بتقديمها كطعم للصناعات
التصديرية التي لم تمنحها
بالاتفاق مع الإدارة إلا أجور
بخسة للغاية، و في نفس الوقت لم
تعترف لها بأي من حقوقها الأخرى
النقابية أو في التقاعد أو في
الرعاية الصحية أو في جبر
الأضرار الناجمة عن حوادث العمل.
ففي تونس لما كانت نسبة البطالة
مرتفعة اختيرت المرأة
لاعتبارات عدة، كنا تعرضنا لذكر
بعضها في ما سبق، لتكون الضحية
الأساسية التي تغري المستثمرين
الأجانب الذين لا يبحثون إلا عن
الأماكن المعروفة بانخفاض
الأجور فيها و بغياب النضال
النقابي و بغياب المطالبة بأبسط
الحقوق.
وقد آن الأوان اليوم أن نضع حدا
لهذه الممارسات المحطة
بالكرامة البشرية، و نضمن ذلك
في تشريعات الشغل المعمول بها
في البلاد. و أن نعطي للمرأة
العاملة نفس الحقوق التي يتمتع
بها الرجل العامل: أجر المثل،
الرعاية الصحية، الانخراط في
صندوق التقاعد و الحيطة
الإجتماعية، الجبر المناسب
لحوادث الشغل، تحديد ساعات
العمل الأسبوعية، تحديد أيام
العطل السنوية، تحديد عطلة
الأمومة ورعاية المولود، حق
الشغل نصف الوقت بالنسبة
للأمهات وأرباب العائلات دون أن
يصحب ذلك غبن في الحقوق الأخرى.
2 ـ علـى مـستوى مـجلة
الأحـوال الـشخصية
:
ذكرنا في موقع سابق من هذا الفصل
أن مجلة الأحوال الشخصية، رغم
بعض الهفوات التي وقعت فيها و
التشنج الذي ميز ملامحها، تعتبر
مكسبا هاما يجب تطويره في اتجاه
المزيد من الحداثة و التحرر في
إطار ضوابطنا الثقافية
والحضارية والمحافظة عليه.
خـامـسـا ـ تـصحيح الممـارسـات
:
لقد رأينا في موقع سابق من هذا
الفصل أن المظالم المسلطة على
المرأة ليست دائما نتيجة للجهل
و التمسك بالعادات والتقاليد
السيئة. و إنما قد تكون أيضا
نتيجة عقلية طبيعتها معقدة.
فنحن نكون قد أخطأنا إذا قلنا إن
الإضطهاد لم يلحق المرأة إلا في
العائلات الفقيرة الجاهلة و
المتخلفة في تونس. فإن كان هذا
حاصلا بدون منازع، فإن الظلم
والإضطهاد المسلط على المرأة،
من مثل التعنيف والضرب المبرح
والتضييق عليها في ممارسة أبسط
حقوقها الطبيعية، و عدم احترام
حقها في التملك و اغتصاب
أموالها من طرف الزوج على وجه
الخصوص، و خاصة خيانتها و
معاشرة النساء
من وراء ظهرها، واضطهادها وغمط
حقوقها و مضايقتها جنسيا في
أماكن الشغل، و كبت تطلعاتها
السياسية و النقابية والنضالية
عموما، وغير ذلك من أشكال الظلم
والممارسات السيئة ضدها، لا
تزال من الممارسات السيئة
اليومية و الطبيعية في الوطن
العربي.
ومعظم هذه الممارسات المحطة هي من
صنيع الطبقة المثقفة العلمانية
على وجه الخصوص، أولئك الذين لم
يتوقفوا لحظة، على مستوى الخطاب
على الأقل، عن المناداة بتحرير
المرأة و الرفع من شأنها و
احترام كرامتها، مما يترك
الإنسان في حيرة أمام هذا
التناقض الصارخ بين الخطاب والممارسة
بشأن مسألة المرأة لدى هؤلاء
المثقفين، ثم هل هم على حسن نية
في خطابهم النسوي أم هم يرفعونه
لحاجة في نفس يعقوب؟
والمهم في المسألة أن المظالم
العديدة التي لا تزال تسلط على
المرأة، بما فيها المرأة
المثقفة ذاتها، من قبل الرجل،
بما فيه الرجل المثقف إسلاميا
كان أو علمانيا على السواء،
ليست بسبب الجهل و الفقر و
التخلف فحسب، و إنما يعود ذلك في
جزء كبير منه حسب رأينا إلى
عوامل ثلاثة أساسية متجذرة في
شعور و لا شعور الرجل، لا يفيد
معها التثقيف و التعليم السريع
و السطحي مثلما هو الحال في
الوطن العربي، و إنما يتطلب
الحد منها عملية توعوية جماعية
طويلة المدى، تتفاعل فيها
العديد من الإعتبارات العقدية
والتربوية و الثقافية و غيرها.
وهذه العوامل هي :
ـ العقلية المنحرفة السائدة
المتمثلة في تفضيل الذكر على
الأنثى منذ الولادة
:
عقلية منحرفة سائدة في المجتمع
التونسي، و في غالب المجتمعات
الإنسانية، منذ القدم تدور حول
تفضيل الذكر على الأنثى. و تصبح
هذه العقلية خطيرة جدا على
نفسية الأنثى، المرأة الإنسان،
إذا كانت العائلة متكونة من
عديد الأبناء، ذكورا وإناثا،
يكون التمييز بين الفريقين من
طرف الوالدين مفضوحا، بحيث تكلف
البنات بكل الأعمال المنزلية
ويعفى منها الأبناء، ويقرب
الأبناء من الآباء و يميزون من
طرفهم في الهدايا و المعاملة،
وتهمل البنات و تنبذ في بعض
الأحيان و يساء معاملتهن. إن هذا
التصرف السلبي قد خلف لدى
المرأة آثارا نفسية سيئة منذ
صغر سنها، وتركها تنشأ تحت أثر
عقدة مركب النقص، مستسلمة تمام
الإستسلام للوضع المسلط عليها
فاقدة لروح المقاومة له، أو
تنشأ ناقمة على كل ما يحوم حولها
ثائرة على الوضع المحيط بها،
رافضة لكل شيء أو تكاد.
وعقلية تفضيل الذكر على الأنثى في
المجتمعات الأبوية تعود
أسبابها في الغالب إلى أن تواصل
النسب لا يحصل إلا عن طريق
الذكور، أو لأن الذكر يبقى في
العائلة أو قريبا منها و يعول
عليه لدى الحاجة و الملمات،
بينما الأنثى ما أن تكبر تتزوج
وتلتحق بعائلة أخرى تصبح تابعة
لها، وتنقطع فائدتها أوتكاد
لعائلتها الأصلية، أو لأن
الأنثى هي محل إغراء للذكور
فتقع في شباكهم أو يقعوا في
شباكها، كما شئت، فيحصل المكروه
في مجتمع يضخم الفضيحة بشكل
كبير إذا حصلت من جانب المرأة
أكثر مما لو حصلت من جانب الرجل
بينما هي في الأصل واحدة لو حصلت
من طرف المرأة أو الرجل على
السواء.
ومهما كانت أسباب هذه العقلية
المنحرفة و مهما كان عمق تجذرها
يجب مقاومتها، كخطوة أولى
لأنصاف المرأة ومساواتها
بالرجل كإنسان. و لا يمكن مقاومة
هذه العقلية إلا بالتوعية و
التربية و التكوين دون استعجال
النتائج في ذلك.
ـ عامل الغريزة الجنسية وضعف
الرجل أمامها :
جبل الإنسان عموما و الرجل بشكل
خاص على فرط ضعفه أمام شهوته
الجنسية. و إذا لم يكن له ضابط
إيماني و خلقي قوي يعصمه و
ينهاه، فإنه سوف لن يتوقف عن جلب
انتباه المرأة من حوله و
مضايقتها و مراودتها عن نفسها،
و إذا لم يمكنه كل ذلك من بلوغ
هدفه فسوف لن يتردد حتى في اغتصابها
وهي كارهة دون أن تستطيع
المقاومة و التظلم، خوفا من
الفضيحة أو خسارة بعض المصالح. و
قد يكون الجاني صاحب ثقافة
عالية أو مستوى علمي رفيع دون أن
يمنعه ذلك
من الوقوع في جنايته. وهو ما
يتركنا نتساءل عن العلاج. و لسنا
نرى من علاج لمثل هذه الممارسات
إلا التربية المعمقة على أساس برامج
مشبعة بقيمنا الإسلامية
الناجعة، و كذلك سد أبواب
الإغراء بأساليب معقلنة مدروسة
وناجعة، و توفير كل وسائل
التيسير للزواج المبكر للشباب.
ـ عقلية حب الهيمنة على المرأة لدى
الرجل :
جبل الرجل منذ بدء الخليقة على
السعي إلى الهيمنة على المرأة
بكل الوسائل، و قد يصل الأمر به
إلى أكثر من ذلك، إلى ما يشبه حق
تملكها و تجريدها بذلك من
إرادتها و من كل حقوقها الشرعية
و الطبيعية. و إذا كان التوحش و
الجهل و التخلف يجذر هذه الجبلة
و يضخمها لدى الرجل، فإننا نجد
في المقابل أن التحضر و التثقف و
الحرية و التحرر يلطفانها و
يهونانها. ولا تزال ظاهرة حب
الهيمنة على المرأة و اضطهادها
هي الظاهرة الغالبة في العالم،
بما فيه العالم المتقدم. أما
الإسلام الذي ينتمي إليه شعبنا،
و الذي تذرع به خلق كثير في
تهميشهم للمرأة و لدورها في
المجتمع و في غمط حقوقها، فهو لا
يقول بذلك، و إنما أتى حاثا على
عكسه تماما.
فهو لم يحد لها من المسؤولية على
كسبها في الآخرة، و جعلها
مسؤولة على أعمالها و كسبها
مسؤولية كاملة مثلها مثل الرجل،
فكيف تريده إذن أن يحد لها من
هذا الكسب الذي هي مسؤولة عنه و
لا مما تستوجبه عليها مهمة
الإستخلاف التي خلقت مثلها مثل
الرجل من أجل تحقيقها و
محاسبتها و السؤال عنها يوم
السؤال.
و نخلص من كل ذلك أن تهميش دور
المرأة في المجتمع و غمط حقوقها
و الوصاية و حب الهيمنة عليها من
قبل الرجل لم يأمر به وحي صريح
ولا عقل، وإنما هو بسبب نقص في
الرجال وهوى من طرفهم وبقية من
طبيعة التوحش والجانب الحيواني
فيهم و جهل و سوء في الفهم للوحي
من طرفهم. فالإسلام كوحي ليس هو
المسؤول عن ذلك و إنما أفهام
الناس القاصرة و المتأثرة
بالتخلف و الإنحطاط هي المسؤولة
عنه.
والفارق بين الشعوب في هذه
المسألة هو فارق في درجة حدتها و
ليس في وجودها أو عدم وجودها. و
ظاهرة اضطهاد المرأة و حب
الهيمنة عليها هي ظاهرة سيئة
منتشرة في كل بلدان العالم بما
فيها أكثر البلدان تقدما مثل
الولايات المتحدة و بلدان
أوروبا الغربية. و هذه الظاهرة،
كما ذكرنا، ليست قوية في
مجتمعنا التونسي بين الريفيين و
الأميين والفقراء فحسب، وإنما
أيضا بين شريحة عريضة من
المثقفين. ومعالجتها أو الحد
منها لا يمكن أن تحصل بالإقناع و
التكوين و التربية على أساس
برامج تربوية جادة مشبعة بمعاني
المساواة و التكامل بين المرأة
و الرجل، و هنا أيضا يمكننا أن
نلاحظ أن تراثنا الثقافي المؤصل
مشبع بهذه المعاني. كما يمكن
الحد من هذه الظاهرة أيضا
بالسعي إلى إيجاد واقع يتناقض
معها، بسن التشريعات المناسبة
التي تقر حق المرأة بالتواجد في
كل المواقع في المجتمع، مثلها
مثل الرجل، متى توفرت فيها
الشروط المطلوبة مثلما هو الحال
بالنسبة للرجل. ثم متابعة ذلك
بالسعي الدائم لاحترام تطبيق
القانون و التشديد على مخالفيه.
ـ التقاسم التقليدي للمهام بين
الرجل والمرأة :
تعارف الناس، في أنحاء شاسعة من
العالم منذ أمد بعيد من تاريخ
البشرية، على تقاسم للمهام في
الحياة بين الرجل والمرأة.
فبينما تكفلت هذه الأخيرة
بالإنجاب من أجل تواصل الجنس
البشري، و ذلك ليس باختيار منها
وإنما بسبب طبيعتها الأنثوية
التي خلقت بها، ثم بالقيام على الأولاد
و على كل العائلة من داخل البيت.
بينما تكفل الرجل بالسعي على
العائلة خارج البيت. و لما تطورت
حياة البشر واتسعت بالإضافة
للإهتمامات الفردية والعائلية
إلى اهتمامات عامة تهم حياة
المجموعة ككل، حصل هذا التوسع
في الإهتمام على حساب المرأة
بسبب غيابها و انشغالها بحياة
العائلة في البيت.
ومع تقادم الزمن فسر هذا الغياب
للمرأة عن الإهتمامات العامة
للمجموعة بسبب عجزها عليه و عدم
صلاحيتها له، وهو تفسير غير
صحيح طبعا و قد قدم من طرف الرجل
بسوء نية منه حتى لا تزاحمه
المرأة في تلك الإهتمامات و حتى
لا تتمرد عليه و تخرج من قبضته.
إلا أن المرأة لم تستسلم لذلك
الواقع و ناضلت في أماكن عدة من
العالم من أجل اكتساب حقوقها.
وقد أعانها على ذلك ترقي
البشرية عن البدائية و نضجها
المعرفي. و لا يزال هذا النضج
المعرفي و مزيد اتساعه بين
الناس هو المدافع الأول على
حقوق المرأة و مساواتها
الطبيعية بأخيها الرجل.
وقد نهض منذ بضعة عقود عامل آخر
للدفاع عن حرية المرأة و
مسواتها بالرجل و حقها الكامل
في المساهمة إلى جانب الرجل في
الإهتمامات العامة لحياة
المجموعة. و هذا العامل تمثل في
الثورة التكنولوجية و ما أحدثته
من تغييرات عميقة على حياة
العائلة. فالسيارة طوت المسافات و
أمنت الطريق و الثلاجة و
الغسالة و وسائل الطهي السريع و
غيرها من التجهيزات المنزلية
يسرت كثيرا من مهمة القيام
بالأشغال المنزلية، و لم يعد
ذلك يحتاج للتفرغ الكامل من طرف
المرأة لأشغال المنزل، خاصة إذا
أضفنا إلى ذلك تقلص حجم العائلة
المعاصرة.
كما مكنت هذه التجهيزات من رفع
الإختصاص عن المرأة بالشؤون
المنزلية، و أصبح الرجل بدوره
قادرا مثله مثل المرأة على
القيام بها و التناوب عليها مع
المرأة الأم أو الأخت أو الزوجة
أو البنت أو الإبن أو غيرهم. كما
أدخل التطور التكنولوجي وسائل
الاتصال و التعليم و
التوعية المختلفة إلى البيت
من مثل المذياع والتلفاز
والهاتف و الحسوب و شبكة
الأنترنيت و غيرها، وغدا من
الصعب مع هذه التجهيزات الإبقاء
على المرأة مغفلة غير واعية
بقيمتها وبذاتها وبحقوقها
وواجباتها.
إن الثورة التكنولوجية و ما
أدخلته من تيسير كبير في مهمة
القيام بالشؤون المنزلية و تقلص
حجم العائلة وغزو وسائل التثقيف
والتوعية و التكوين للبيوت و
التغيير الذي حصل في نمط الحياة
في العائلة و انفتاحه على
المحيط و المجتمع بدلا عن
طبيعته المنغلقة في السابق هي
بصدد إنصاف المرأة ودعمها من
أجل التعبير عن كيانها و
قيمتها، ومن أجل المشاركة في
الإهتمامات المشتركة بكافة
أنواعها في حياة المجتمع.
هذه بإجمال رؤيتنا حول مسألة
مواصلة تجذير موقع المرأة في
مجتمعنا العربي.
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|