من
وحي الهجرة المباركة
بقلم:
مصطفى محمد الطحان
soutahhan@hotmail.com
كثيرون كتبوا عن الهجرة المباركة.
ومع ذلك فإني أجد في نفسي رغبة في
إضافة صفحة أخرى تضاف إلى ما
كتب..
إن كررت ما ذكروا.. فهناك كثيرون
يكررون..
وإن أضفت شيئاً جديداً أو ملمحاً
ذا بال.. (فالخير فيّ وفي أمتي
إلى يوم القيامة).
1- الزمان
والمكان
الداعية الموفق هو الذي يقدر
زمانه.. ويعرف مكانه..
ولا أقصد بمعرفة المكان.. ما كانت
تتميز به دار الهجرة من جمال
يشرح الصدر ويضفي على الإنسان
مزيداً من الأنس والراحة.. بل
مكة وما حولها.. فقد أيقن رسول
الله القائد الملهم أن هذه
الأرض لا تصلح لإقامة دولة
الإسلام.
تصدها الكبرياء وبطر الحق عن
اتباع الهدى..
وكيف تستسلم قريشٌ لدعوة محمد..
ومن هو محمد؟ أليس رجلاً من عامة
قريش كانت أمه تأكل القديد؟!
أما الزمان.. فهو يد القدرة
الحاسبة.. التي تغتنم الساعة
المناسبة.. بلا تقديم ولا تأخير [
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ
الَّذِينَ كَفَرُوا
لِيُثْبِتُوكَ أَوْ
يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ
وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ
اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ
الْمَاكِرِينَ] (1).
فليتعلم الدعاة على طريق الدعوة..
من الداعية الأول.. كيف يحترمون
دورة الزمان.. والمكان في عملهم..
وتدبيرهم.. وخططهم.
وكيف يضحّون بكل شيء.. بأمنهم
الشخصي.. بوطنهم الذي عاشوا فيه..
بأموالهم ومـا جمعـوه.. مقابل أن
ينتصر هذا الدين (والله يا عم..
لو وضعوا
الشمس في يميني والقمر في شمالي
على أن أترك هذا الأمر ما تركته..
حتى يظهره الله أو أهلك دونه)..
2- سطر
جديد في عالم القيم
وينظر رسول الله صلى الله عليه
وسلم إلى مكة نظرة وداع وحب..
ويقول: (والله إنك لأحب بلاد
الله إليّ، ولولا أن أهلك
أخرجوني ما خرجت)..
فأصحاب الفطر القويمة يحبون
أوطانهم.. يحيطونها بمهجهم..
ويفدونها بأرواحهم.. ولكن عقيدة
المسلم.. أكثر قرباً للمسلم من
وطنه الذي ولد ونشأ وترعرع فيه..
وهكذا.. فقد كانت بداية الهجرة..
سطراً جديداً في عالم قيم
جديدة.. يحوطها المسلم.. ويركز
رايتها.. ويدافع عنها.. ويثبت
قواعدها في نفوس المسلمين
والعالمين..
وفي دار الهجرة يبدأ رسول الله صلى
الله عليه وسلم بإقامة المسجد..
وبالمؤاخاة بين الأنصار
والمهاجرين.. سلسلة من القيم..
· تبدأ بالعقيدة التي يرعاها
النبي في المسجد..
· وبعقد الأخوة في ظلال
الإيمان..
· وبجنسية جديدة عنوانها
العقيدة..
وكلما نسي الدعاة القيم التي
تميزهم.. وعادوا أدراجهم إلى قيم
الجاهلية فلونوا جنسيتهم
بالأرض واللون واللغة..
وهجروا المسجد كمركز للتربية
والانطلاق..
وأهملوا الأخوة الصادقة في ذات
الله التي لا تلونها أرض ولا لغة
ولا جنس..
كلما فعلوا ذلك ضل سعيهم في الحياة
الدنيا.. وهم يحسبون أنهم يحسنون
صنعاً.
3- بين التوكل والتواكل
وإذا كان التواكل استسلاماً
للأحلام وقعوداً عن اتخاذ
الأسباب.. فإن التوكل الحق هو
التخطيط الناجح، واتخاذ جميع
الأسباب التي يلزمها الحدث، ومع
هذا العمل.. من قبله ومن بعده..
يتوكل الداعية على الله..
مصداقاً لقوله صلى الله عليه
وسلم : (اعقلها وتوكل).
وكذلك كان الأمر في الهجرة..
تخطيطاً محكماً.. وأخذاً بجميع
الوسائل المادية التي يمكن أن
يهتدي إليها العقل البشري..
متمثلاً:
· وباتخاذ الصحبة الصالحة في
هذه الرحلة الشاقة.
· وبإعداد الراحلتين، وتعهدهما
بالرعاية أربعة أشهر.. تم
تجهيزهما على أحسن وجه.
· وبالاستعانة بأهل الخبرة
والاختصاص، واستئجار خبير
بالطرق وهو على الشرك.
· وبالتزود بالمال والطعام، حيث
كانت أسماء بنت أبي بكر تحمل
إليهما الطعام كل مساء، وكان
عامر بن فهيرة يأتيهما باللبن
في الليل، وكان أبو بكر الصديق
قد احتمل معه ماله كله.
· وبالاحتياط الأمني المتمثل
في كتمان سر أمر الهجرة،
والتمويه على الأعداء، وتحسس
أخبارهم. فلم يعلم بأمر الهجرة
إلا المجموعة الصغيرة التي
شاركت في التنفيذ. وبقي علي رضي
الله عنه لينام في فراش رسول
الله صلى الله عليه وسلم ، ويدثر
بلحافه. وكذلك كان التوجه نحو
الجنوب باتجاه اليمن، بدلاً من
الوجهة الحقيقية إلى الشمال
باتجاه المدينة. ثم التربص في
الغار ثلاثة أيام، ريثما يخف
الطلب ويهدأ البحث. وكذلك إعفاء
آثار الأقدام حتى لا يستدل
المشركون على الجهة والمكان.
كل عنصر من العناصر التي شاركت في
الهجرة.. كانت ذات أهمية خاصة..
تجلت أهميتها في حياة النبي صلى
الله عليه وسلم.. وبعد وفاته..
وفي إقامة دولة الإسلام والدفاع
عنها.. فهل هي عبقرية القائد في
اختيار معاونيه في الظروف
الصعبة؟
وهل هي إشارة إلى أبي بكر بخاصة..
وإلى الشباب بعامة.. وإلى المرأة
المسلمة التي استهان المسلمون
بدورها؟!
4- الاطمئنان إلى قدر الله
ومع التوكل على الله، والأخذ
بالأسباب.. فإن الاطمئنان إلى
قدر الله ووعده، والتسليم
بمشيئته، والثقة بنصره.. يشكل
عاملاً رئيساً من عوامل نصر
المؤمنين..
ولنتدبر ذلك في مسير الهجرة:
· ففي الساعة الحرجة
يقول رسول الله صلى الله عليه
وسلم لعلي بن أبي طالب: (نم على
فراشي، وتسج ببردي هذا الحضرمي
الأخضر، فنم فيه، فإنه لن يخلص
إليك شيء تكرهه منهم) (2).
· واخترق رسول الله صفوف
المشركين الذين يحاصرون بيته،
وأخذ حفنة من البطحاء فجعل يذره
على رؤوسهم، وقد أخذ الله
أبصارهم عنه فلا يرونه) وهو يتلو
قوله تعالى: )وجعلنا
من بين أيديهم سداً ومن خلفهم
سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون((3)،
فلم يبق منهم رجل إلا وقد وضع
على رأسه التراب.
· وعندما وصل المطاردون
إلى باب الغار، يقول أبو بكر:
كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم
فرفعت رأسي، فإذا إنا بأقدام
القوم، فقلت يا نبي الله لو أن
بعضهم طأطأ بصره لرآنا. قال:
(اسكت يا أبا بكر، ما ظنك باثنين
الله ثالثهما)(4)؟
إنه اطمئنان إلى قدر الله، وتسليم
بمشيئته، وثقة بنصره.. قال
تعالى: [ إِلاَّ تَنْصُرُوهُ
فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ
أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا
ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا
فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ
لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ
إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا
فَأَنْزَلَ اللَّهُ
سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ
وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ
تَرَوْهَا] (5).
· وعن أبي بكر قال:
ارتحلنا، والقوم يطلبوننا، فلم
يدركنا منهم أحد غير سراقة بن
مالك بن جعثم على فرس له، فقلت:
هذا الطلب قد لحقنا يا رسول
الله، فقال: (لا تحزن إن الله
معنا)(6).
لقد هيأ الرسول صلى الله عليه وسلم
الأسباب الكاملة لنجاح الحركة
وهو ينظر إلى الله، ووضع خطواته
الأولى على الدرب وهو يدعو
الله، وما لبثت الأسباب أن آتت
أُكُلها والخطوات أن انتهت إلى
هدفها، وظل الرسول صلى الله
عليه وسلم ينظر إلى الله
ويدعوه، وما أحرانا في يوم
هجرته أن نتمعن في هذه التعاليم
في زمن طغت فيه التفاسير
والأهواء، وكلٌّ قال ما عنده،
شرقيًّا كان أو غربيًّا، لكن
المسلمين لم يقولوا بعدُ كلَّ
ما عندهم.
وأخيرًا
هذه هي الهجرة، وهذه دروسها، وهذه
نظرتنا إليها، لها انتسب
التاريخ، ولها انتسب المسلمون،
ولها انتسبت سور القرآن، ولها
انتسب الصحابة، ولها انتسبت
دولة الإسلام.
(فعفوًا رسول الله إن قصرنا أو
أخطأنا ونحن نتحدث عنك في يوم
هجرتك حديث المحبين الذين
تحاصرهم القيود في كل مكان،
وتسعى إلى سحق مطامحهم ظلمات
بعضها فوق بعض؛ فيلجؤون إليك
مؤمِّلين أن تمنحهم المزيد من
التعاليم، كسرًا للقيد،
واستعلاءً على الظلمات، وحركة
إيجابية صوب المصير الفذ
المتفرد.
وما أحرى الهجرة أن تكون هذا
الدرس..
وألف سلام على المهاجر .. معلمِنا
العظيم) (7).
--------------------------
(1)
الأنفال- 30.
(2)
ابن هشام.
(3)
يس- 9.
(4) البخاري.
(5)
التوبة- 40.
(6) البخاري.
(7)
خطوات في طريق الهجرة- عماد
الدين خليل.
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|