الباطنية
في السياسة السورية
خالد
الأحمد*
منذ الثمانينات
انتشرت نكتة سياسية في سوريا
والعالم العربي خلاصتها أن
نيكسون زار دمشق (1974) وفي طريقه
من المطار إلى الضيافة مـر
بدوار يصلح فيه الذهاب من
اليمين أو اليسار ، ولما سأله
سائق سيارة الضيافة : سيدي أتحب
الذهاب من اليمين أم اليسار ؟
فأجاب نيكسون : غريب منك هذا
السؤال ! ضع غماز اليمين واذهب
من اليمين .
وبعد مدة غير
طويلة زار الرئيس الروسـي دمشق
وفي نفس المكان ونفس السائق
ونفس السؤال فقال الرئيس الروسي
: غريب منك هذا السؤال ! ضع غماز
اليسار واذهب من اليسار .
وبعد مدة كان
الرئيس الراحل حافظ الأسـد
عائداً من رحلة خارجية ، ونفس
السائق والمكان والسؤال فأجاب
الرئيس الأسـد : غريب منك هذا
السؤال ؟ متى تفهم عليّ ؟ ضع
غماز اليسار واذهب من اليمين .
ونحن السوريين
تأكدت لنا هذه السياسة منذ
الحركة التصحيحية (1971) ، وهذا
لايعني أنها لم تكن موجودة
سابقاً ، وإنما صارت واضحة لكل
مهتم ومتابع ، وكنت يومها
ضابطاً مجنداً في الجيش السوري
، وعايشت اللواء (كذا ) الذي دخل
الأردن لإنقاذ الفلسطينين من
مذبحة أيلول الأسود ، لكن عاد
كما دخل ولم يفعل شيئاً بعد أن
كبده الجيش الأردني خسائر فادحة
، وسبب ذلك أن إرادة القتال أو
قل إن شئت أوامر القتال لم تعط
لذلك اللواء ، وإنما حرك على شكل
مسرحية فقط لامتصاص غضب
القوميين العرب الذين آلمهم قتل
الفلسطينين على يد العرب أنفسهم
.
يقول النواوي في
مؤامرة الدويلات الطائفية ص ( 462)
: (... ولأول مرة في تاريخ سوريا
يزور وزير خارجية الولايات
المتحدة اليهودي هنري كيسنجر
دمشق (12) مرة في شهر واحد ، ثم
يعود السفير الأمريكي بعد أن
انقطع التمثيل الدبلوماسي بين
البلدين إثر اتهام سوريا
للولايات المتحدة بالتدخل
العسكري إلى جانب إسرائيل في
حرب حزيران 1967م ، وفي مذكرات
هنري كيسنجر الشيء الكثير عن
إعجابه بشخصية حافظ السد ، وعما
كان يجري بينهما من مناقشات
بناءة ، ـ على حد قول كيسنجر ـ ،
ويخص وزير دفاعه مصطفى طلاس
بجزء من مذكراته فيذكر اهتمامه
بممثلات هوليود ، وكيف وعده
بإعطائه أرقام هواتفهن ) . ( ثم
يزور نيكسون سوريا عام 1974
وتقبله طالبة سورية في شوارع
دمشق ) .
وبعد ذلك وفي
السبعينات دخلت قوات الردع
العربية بأموال عربية ومباركة
أمريكية وصهيونية ، دخلت لبنان
ـ ومازالت فيه ـ وقتلت سكان تل
الزعتر من الفلسطينيين ، بعد أن
حاصرتهم عدة أسابيع على مرأى
ومسمع من العرب جميعاً ، ثم دكت
الحي بكامله وقتلت مافيه من
الرجال والنساء والأطفال ، ومما
يندى له الجبين أن الفلسطينيين
الذين قتلهم العرب أكثر من
الفلسطينيين الذين قتلهم
اليهود .
ونحن السوريين ،
وقليل من العرب يعرف أن
البعثيين السوريين أكثر العرب
تصديراً للشعارات ولنتذكر : أمة
عربية واحدة ذات رسالة خالدة ،
والمخابرات العسكرية السورية
حالياً تحقق مع من عاد حياً من
الشباب السوري الذي دفعته
الغيرة والمروءة العربية
للذهاب إلى بغداد ليقاتل الغزاة
الأمريكان والبريطانيين ،
ومازالت تكرر التحقيق وتراقبهم
حتى الآن .
أما شعار الوحدة
والحرية والاشتراكية فصار من
البدهيات أن البعثيين عملوا نحو
التجزئة بدلاً من الوحدة ، وهم
أول من وقع على وثيقة الانفصال
التي فصلت وحدة سوريا مع مصر ،
ولو بقيت هذه الوحدة ـ على
سلبياتها ـ لوفرت على سوريا
دماء الألاف من أبنائها في
الثمانينات ، خسرتهم سوريا
شعباً ودولة .
وأما الحرية فقد
شكل البعثيون أكثر من عشرة
اجهزة للأمن ، كل جهاز دولة
لوحده ، وكانت صلة مدير الجهاز
مع حافظ الأسد مباشرة ، وجميعها
تتسابق نحو المزيد من القتل
والاعتقال ونهب الأموال وهتك
الأعراض في هذا الشعب المسكين ،
ومازال قانون الطوارئ منذ أكثر
من اربعين سنة يجثم على قلوب
الشعب السوري . حتى صار عدد
السوريين المغتربين خارج سوريا
يكاد يعادل عدد السوريين داخل
سوريا .
وأما الاشتراكية
فقد جعلت ثروة سوريا كلها بيد
أباطرة الأمن ، واولهم رفعت
الأسد الذي يعتبر من الأغنياء
العشرة الأوائل في العالم ،
والغت الطبقة الوسطى تماماً ،
وكانت طبقة واسعة جداً في سوريا
، الغتها لتنضم هذه الطبقة
الوسطى إلى الطبقة الفقيرة ،
بينما تتركز الثروة بيد فئة
قليلة قد لاتزيد على 5% من الشعب
السوري ، معظمهم من أباطرة
الأمن ، ومن أولاد المسئولين
وأقاربهم .
والخلاصة إذا
أردت أن تفهم السياسة البعثية
السورية فعليك إذا قالوا غرب
انظر إلى الشرق تجد مايريدونه ،
وإذا قالوا ، عدونا شارون فهذا
يعني أن حليفهم الأول شارون
...وهكذا
ومنذ دخلنا
المدرسة في سوريا وحتى قبل سنة
أو سنتين ، ما كنت تسمع زعيماً
بعثياً يتكلم على الملأ إلا
ويشتم الامبريالية عدوة الشعوب
، ويخص الولايات المتحدة
الأمريكية بالذات .
واليوم ( 6/11/2004)
أقرأ وأسمع أن سوريا تقيم
ساتراً رملياً على حدودها مع
العراق ، وتغلق معبرين مع
العراق وهما معبر البوكمال ،
ومعبر التنف ، كما قرأنا قبل
ايام قليلة عن دوريات مشتركة
سورية أميركية على الحدود
السورية ، لمنع المقاتلين العرب
من دخول العراق . وقد دعت سوريا
مجموعة من الإعلاميين إلى
الحدود ليشاهدوا ساتراً رملياً
ارتفاعه (3 م) ، وقال المسؤول
السوري أنه سيمتد مسافة (130) كلم
هناك . وقد تعهدت سوريا منذ
بداية ايلول _2004) بأن تشدد
مراقبتها على الحدود مع العراق
...
وقد يعلل بعضنا
ذلك بخوف سوريا من العقوبات
الأميركية ، ولكن تذكر معي ايها
العربي تذكر حرب عاصفة الصحراء
التي استطاع فيها بوش الأب أن
يجند (33) دولة تقاتل العراق .
ويهون ذلك كله إلا أن تجد القوات
السورية ( البعثية ) تقاتل جنبا
إلى جنب مع القوات (الامبريالية
) ضد القوات العراقية ( البعثية )
أيضاً .
واقرأ في كتاب (
مقاتل من الصحراء ) مايلي :
(ص269) :( وأبحرت السفن التي تحمل
القوات السورية تحت الحماية
الجوية الأمريكية ، ولفت نظري
قدرة دولتين لم تكونا على وفاق
من قبل ، على التعاون بشكل فعال
لمواجهة خطر مشترك ). والحماية
الجوية الأميركية تعني من
طائرات الأسطول السادس
الأميركي الذي يسكن في البحر
الأبيض المتوسط ، ومن لايعرف أن
معظم الطيارين الإسرائيليين هم
طيارون أميركيون ، لأنهم يحملون
الجنسيتين الأميركية
والإسرائيلية .
واقرأ أيضا ص (277) :
( وسارت عمليات التنسيق بين أطقم
السيطرة الجوية التكتيكية
الأمريكية والقوات المشتركة
على مايرام .....وكانت العقبة
الوحيدة أن السوريين لم يتحمسوا
كثيراً للعمل مع هذه الأطقم
الأميركية . ... فأرسل اللوا ء
الركن عبد العزيز الشيخ لجس نبض
السوريين ، وعاد
بتقرير أن السوريين ليست
لديهم أية تعليمات رسمية تحظر
عليهم التعامل مع الأميركيين
.....وفيما بعد قلت للواء علي حبيب
قائد القوات السورية أرجو أن
تخبرني إن كان لديكم أوامر
تمنعكم من التعامل مع أطقم
السيطرة الجوية الأميركية ؟
أجاب : ابداً
بل بالعكس ليست لدينا أي
مشكلة معها ، إننا نرحب بهذه
الأطقم معنا . .... إلا أن المقدم
طيار عايض الجعيد أكد لي فيما
بعد أن السـوريين في المستويات
الدنيا رفضوا قبول الأطقم
الأميركية من قبل ، واستغرقت
تسوية المشكلة أياماً عدة . ...
وافق السوريون بعد ذلك على
العمل مع الأطقم الأمريكية
وبدأوا التدريب معهم ، كما أنهم
عاملوهم معاملة طيبة ، وعندما
تناولت الغداء مع الضباط
السوريين في حضور أعضاء هذه
الأطقم الأمريكية سارت الأمور
بين الجانبين على نحو أفضل مما
كنت أتوقع ).
والعسكريون في
المستويات الدنيا هم أبناء
الشعب العربي في سوريا ، الذي
يأبى التعامل مع قوات اميركية
ضد العراق الشقيق ، الجيش
العراقي الذي صـد الهجوم
الإسرائيلي الذي كان بإمكانه
دخول دمشق عام (1973) لولا وصول
الجيش العراقي ليقف في وجهه .
أما العسكريون في المستويات
العليا فهم من كبار البعثيين
العلويين الذين قضوا عمرهم
يهتفون ( أمة عربية واحدة ذات
رسالة خالدة ) .
فهل عرفت يا أخي
العربي مفهوم لغة السياسة
السورية ؟ اللغة الباطنية ،
التي تغمز على اليسار وتذهب من
اليمين .
*
كاتب سوري في المنفى
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|