إخوان
سورية : أعطوا الشعب ما للشعب
بمناسبة
صدور المشروع السياسي لسورية
المستقبل
بقلم
: محمد الحسناوي*
بعد ست سنوات من
الإعداد والتحضير أنجز الإخوان
المسلمون في سورية برنامجهم
الذي سموه
( المشروع السياسي لسورية
المستقبل ) ، وأعلنوه في مؤتمر
صحفي بتاريخ16/12/2004 .
وأول ما يخطر على
البال أن يكون هذا الزمن الطويل
نسبياً في الإعداد والتحضير ،
بسبب أهمية المشروع من جهة ،
والرغبة في تجويده من حيث
الشمول والتفصيل ، أو من حيث
العمق والتأصيل الشرعي
والسياسي من جهة ثانية . ولأنني
من أعضاء هذا التنظيم أكشف ما
ليس بسر ، لكن أضيف أسباباً
وتوضيحات للتاريخ ، تفيد من
يريد أن يفيد .
أول ما أضيف أن
العاملين في الأحزاب أو
المنظمات المؤسسية ، يعلمون
الآليات التنظيمية في صياغة
القرارات أو الشؤون المصيرية في
التنظيم ، ولاسيما وضع (البرنامج)
الذي هو دليل عمل ومرجع نظري
وميداني ، يرجع إليه رجال
التنظيم أنفسهم ، وكل من يريد أن
يعرف خطط هذا التنظيم وتوجهاته
وسياساته في المستقبل . وهذا
يحتاج إلى سلسلة من العمليات
التنظيمية ، لتحقيق شرعية
تنظيمية للمشروع داخل التنظيم
من جهة ، ولتلبية حاجات القطر أو
الساحة التي يهدف المشروع
معالجته من جهة ثانية والظروف
المحلية والإقليمية والدولية
الراهنة والمتوقعة خلال مدى
منظور من الزمن من جهة ثالثة .
وهذا يعني فيما
يعني أن تُكلف جهة أو أكثر
بإعداد المسودة أو المسودات ،
وقد وضع المكلفون أربعين بحثاً
، ثم عرض المسودات على نوعين من
المراجع في التنظيم : النوع
الأول هم الخبراء بأنواعهم
( شرعيين سياسيين إداريين..)
، والنوع الثاني : المستويات
التظيمية ذات القرار المسؤول من
قيادة : مكتب سياسي ومجلس شورى :
مؤتمر عام للجماعة ، وحتى
اللجان الاستشارية في المراكز
والمحافظات . وهذا يعني أن
الحصيلة المعلنة للرأي العام أو
نص المشروع ليس إلا الجسم
الطافي من السفينة على سطح
الماء أو العصارة المستخلصة في
(130) صفحة من الحجم الكبير ، أما
الأبحاث الأصلية فسوف تنشر بعد
مدة في مجلد مستقل أو أكثر ، لمن
شاء التوسع فيها ، ومعرفة
المعايير الشرعية والسياسية
والحضارية المعتمدة .
وما دام التنظيم
مغترباً ، وجسمه التنظيمي خارج
القطر والمحافظات ، بل هو تحت
أرجاء السماء وأقطار المعمورة
كلها ، فلنتخيل كيف يتم تبادل
الأفكار فالمسودات ، وعقد
الاجتماعات والمؤتمرات ، وفي
ظروف أمنية ، أقل ما يقال فيها
إنها غير مساعدة . صحيح أن هذا
المشروع سبق البدء بالعمل له
قبل ثلاث سنوات من أحداث أيلول
سبتمبر وقصف أبراج نيويرك ، إلا
أن هذا الحدث زاد في التضييق على
العاملين الإسلاميين بمختلف
ألوانهم ، ولو رفضوا ما حصل .
والإضافة الثانية
: أشير إلى أن المراجع السياسية
والفكرية والحضارية التي يمكن
أن يرجع إليها أي تنظيم موازٍ
ومعاصر لتنظيم الإخوان ، وبحجمه
في العدد والانتشار والقدم
التاريخي ، يضاف إليها المراجع
الإسلامية ، بمعنى آخر أن
معاييرهم تستند فيما تستند إلى
الشريعة الإسلامية ، وهذه ليست
كلمة بسيطة للاستهلاك الشعبي ،
أو طلب التميز من الآخرين أو
موضة العصر الصحوة الإسلامية ،
بل هي عقيدة يعتقدونها كالعبادة
سواء بسواء ، أي قبل رضى البشر
يطلبون رضى الله تعالى . وفوق
ذلك يحرصون على الإفادة من
اجتهادات الحركات والمؤسسات
الإسلامية المعاصرة في المسائل
المستحدثة ، وما أكثرها ،في
ميادين الاقتصاد والاجتماع
والسياسة ، وتنزيل ذلك على
الساحة التي يعالجون شؤونها
بشكل أول .
وإضافة ثالثة لا
تقل أهمية عن سابقتيها ، ولعلها
الأخطر والأصعب ، ألا وهي تجاوز
المرحلة الاستثنائية التي
وضعهم النظام فيها خلال مرحلة
الثمانينات من القرن الماضي ،
أعني المربع الأمني ، والعودة
إلى استراتيجية التنظيم
السلمية الحضارية التي نشأ
عليها ، وعمل على هداها طوال
المراحل التي سبقت مرحلة
الثمانينات ، ولاسيما مرحلة
الاستقلال الوطني ، وقيام
المجلس النيابي ، وإسهام
الجماعة في اللعبة السياسية
البرلمانية ، والاشتراك في
الحكومات المتعاقبة ، وحتى
الحكومة التي أطيح بها في
انقلاب آذار 1963 كان للإخوان
وزراء فيها ونواب في المجلس
النيابي الخاص بها .
وصعوبة تجاوز تلك
المرحلة راجعة إلى عدد من
الأسباب : أولها حرص النظام على
إبقاء العلاقة مع الإخوان علاقة
أمنية صدامية ، لأن طبيعته
الاستبدادية الاستئصالية تنفي
وجود أي تنظيم سياسي أو اجتماعي
آخر أمامه أو معه في الساحة ،
حتى الأحزاب التي تحالفت معه
فيما يسمى (الجبهة الوطنية
التقدمية ) اختزلت مع الأيام
، كما رضيت وقف نشاطها في عدد من
المؤسسات العامة كالجيش
والطلاب والمنظمات الجماهيرية
، وحتى خسرت نفسها نهائياً كما
هو معلوم ، ناهيك ببقية أطراف
المعارضة التي تناولها
الاضطهاد فالسحق حتى العظم .
وهذا أعقب خوفاً في صفوف
المواطنين ، كما أعقب خروج
الشعب أو المجتمع من السياسة :
اهتماماً وممارسة على حدّ سواء .
و أعقب - بالإضافة
إلى ذلك مع الزمن - تراكمات
الاحتقان في صدور أعضاء التنظيم
الإسلامي وأصدقائه وأنصاره ،
تنفخ فيها الممارسات
الاستئصالية بأنواعها :من رفض
التعيين في مؤسسات الدولة
كالتربية والتعليم والجيش ، ومن
عمليات التسريح ، وموجات
الاعتقالات والتصفية الجسدية
للمعارضين في سجون الرأي أو
حوادث مفتعلة ، ودخول القطر كله
في دوامة الدم وحمامات
المواجهات المسلحة الواسعة .
حتى إذا انتهى سيل
الدماء على سطح الأرض لم تنته
المشاعر والآلام الهادرة في
أعماق النفوس ، ولا سيما انكشاف
المواجهات عن آلاف الضحايا من
الشهداء والمعتقلين والمنفيين
المشردين والمفقودين
والمتضررين بأموالهم وبيوتهم
وذويهم وأقربائهم وجيرانهم
وأصدقائهم ، ومدن منكوبة
بكاملها ، يؤخذ سكانها بالجريرة
على وجه التعميم .
هذا الوضع
الاستثنائي فعل في نفوس الناس
ما لا تفعله مناهج التربية (الإخوانية)
المعروفة من حكمة واتزان ،
وتقيد بآداب الإسلام ، وتقديم
الخدمة العامة والواجبات على
المطالبة بالحقوق ، وعلى
التسامح الكريم . خذ مثلاً ردود
الفعل من إجبار الطلاب
الجامعيين على تعطيل الصلاة في
مواعيد الامتحانات عن عمد
واستفزاز ، مما اضطر الطلاب إلى
التحدي بأداء الصلاة ضمن قاعة
الامتحان ، ولو أدى الأمر إلى
التعرض للرسوب ، لكن حين ينهض
إلى الصلاة معظم طلاب الصف ،
فماذا تستطيع أن تصنع السلطة
القمعية أو الحزب الحاكم ؟
ومثل ذلك انتشار
اللحية للشباب والحجاب للفتيات
، وهو أمر غير منتشر قبل انفراد
الحزب الحاكم بالسلطة والمجتمع
، فقد أصبحت هذه الشعائر لغة
معارضة سلمية يفهمها الطرفان ،
وللاستفزاز والتحدي حظ كبير ،
ورب ضارة نافعة .
لكن حين تصل
المواجهة إلى ما وصلت إليه ، فإن
معالجة الفوران لا تكفي من جهة
واحدة ، ولاسيما إذا كان موقد
النيران من جهة أخرى . فلنتخيل
الجهود الفكرية والتنظيمية
التي بذلها وما زال يبذلها
التنظيم لإطفاء هذه النار ،
والعودة إلى ضبط النفوس
والمشاعر ، ومسح عقابيل
المواجهات المادية والروحية
والفكرية والنفسية ، مع استمرار
الطرف الآخر على ما هو عليه .
ومثلما يقال عن أبناء التنظيم
المضطَّهد وبقية أطراف
المعارضة يقال عن جماهير الشعب
التي ليست بمنجاة من الاضطهاد و
التعاطف مع أطراف المعارضة ،
ولا هي بالمحايدة في مثل هذه
المآسي الجماعية والانحرافات
الفاقعة .
والبدء بالمشروع
السياسي للجماعة منذ ست سنوات
يعني أيضاً فيما يعني أن ( ميثاق
الشرف للعمل الوطني ) الذي طرحوه
منذ ثلاث سنوات ، هو جزء أو حلقة
،من سياق عام للمشروع السياسي
نفسه ، يتكاملان ويتقاطعان في
الخطوط العريضة من جهة ، و يؤشر
على نقاط الاستشعار التي
أفادتها الجماعة من مناقشة
حلفائها أطراف المعارضة
والأوساط العلمية والسياسية ،
التي تفاعلت ، وما تزال تتفاعل
مع ميثاق الشرف المعتمد في
مؤتمر الحوار الوطني الأول في
لندن 2001 م ، من جهة ثانية .
لهذا يتبين بوضوح
أن الإشكال السياسي ليس بين
تنظيم الإخوان المسلمين
والنظام السوري في جوهره ومآله
، إنما هو إشكال مع الشعب السوري
بأسره ، ولا يحل الإشكال
بالمصالحة مع الإخوان المسلمين
وحدهم ، بل بالمصالحة مع الشعب
كله .
ولهذا جاء (المشروع
السياسي للإخوان لسورية
المستقبل) لا ليتكلم باسم الشعب
، بل ليلفت الأنظار إلى حقوق
الشعب كل الشعب ، وإشراك الشعب
كل الشعب في الحل ، في تقرير
المصير ، بلا استثناء أو إقصاء
أو مصادرة لفريق أو شريحة أو
فصيل أو أحد من كان ومهما كان .
هذه السنوات الست
التي أمضاها التنظيم في الإعداد
للمشروع السياسي وتحضيره ، فيها
ما فيها من الدروس والعبر
والمعاني عن مصداقية المشروع في
التعبير عن قناعات التنظيم
وتوجهاته الحقيقية ، وعن رغبته
الصادقة في إصلاح الواقع السوري
، وبمشاركة الطيف السوري بكل
فرقائه وتعبيراته وشرائحه ،
يعرف ذلك من يعرف من تحليل
النصوص والأساليب ، والمتابعين
لأدبيات الجماعة ، أما المعاند
فحسبنا الله منه .
قد يرى المراقبون
مخرجاً حسناً في مشروع الإخوان
بدعوتهم إلى الدولة (المدنية )
بديلاً للدولة (العلمانية ) ،
لأن النظام الإسلامي السياسي
يرفض الدولة ( الثيوقراطية ) أو
ما يسمى الدولة الدينية ،
والحقيقة أن كل الذي فعله
الإخوان أنهم أنزلوا النص
الشرعي ( الشورى ) تنزيلاً
عصرياً لا غير ، وكشفوا حقائق
الشريعة السمحة بلغة يتداولها
الناس لا أكثر . أما المصرّون
على إلباس الإسلام والمسلمين
جرائر الكنيسة وتصوراتها
الأوربية ظلماً وعدواناً ،
فليسوا من البصيرة والإنصاف
والإخلاص للحقيقة والتاريخ
وأنفسهم في شيء . أين هم من قول
الله تعالى : ( لا إكراه في الدين
) ، وأين هم من قول الرسول : ( ما
أُخذ بسيف الحياء فهو حرام ) ؟
بعض الإخوة
الأكراد السوريين عاتبون على
أمرين ، أحدهما عدم التوسع في
الحديث عن قضيتهم من جهة ، وثناء
المشروع على العروبة أو اللغة
العربية ، والجواب : أن الإخوان
المسلمين لا يعدون الأكراد
أقلية ، ولو رضوا هم أنفسهم بذلك
، وأن كل صنوف الظلم والاضطهاد
والتمييز يجب أن ترفع عنهم
ويعتذر لهم بأقرب فرصة ، وأن
لغتهم وحقوقهم في المواطنة
الكاملة مكفولة ، أو يجب أن تكفل
لهم . أما تقدير اللغة العربية
عند الإسلاميين – وهم يعلمون أو
يجب أن يعلموا ذلك – ليس مسألة
عنصرية أو عرقية ، بل هي مرتبطة
بفهم القرآن الكريم ودراسة
التراث الإسلامي ، ولا يجبر أحد
على تعلمها إلا للصلاة ، وحسب
ذلك من أهمية . وما نظن المسلمين
العرب أكثر احتراماً ومحبة للغة
العربية من بقية الشعوب
الإسلامية
والأكراد بالذات ، حتى نبغ
من الأكراد من نبغ بالعربية ،
مثل الملك الأيوبي أبي الفداء
ملك حماة ومحمد كرد على رئيس
مجمع اللغة العربية في
الجمهورية السورية وأمير شعراء
العرب الشاعر أحمد شوقي .
ومثل ذلك موضوع
الوحدة العربية ، ليس هو في فكر (الإخوان)
من باب التعصب القومي الذي
يصادر على الآخرين أو يتعالى
عليهم ، بل هو من عقيدتهم
التوحيدية ، التي ترفض التشظي
والتفتيت بدءاً من معاهدات
جالديران وسايكس بيكو ، وانتهاء
بالإمارات والدويلات والمحميات
، في عصر يبحث الناس فيه عن
تكتلات كونية . إن موقف الإخوان
السوريين من وحدة سورية ومصر –
وهم مختلفون مع جمال عبد الناصر
– ثم رفضهم التوقيع على ما يسمى
وثيقة الانفصال ، دليل واضح على
الروح المبدئية عند الإخوان ،
ووضعهم المصلحة العليا للأمة
فوق العنعنات وأي مصلحة سواها .
كنا نتمنى وما زلنا أن يقرأنا
الآخرون كما نحن على حقيقتنا أو
كما نريد ، لا أن يلبسونا ما لا
نرغب به أو ندعو إليه . وقد آن
الأوان لكشف كل الحقائق ،
وإعادة الأمور إلى نصابها .
*
كاتب سوري عضو رابطة أدباء
الشام
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|