ـ

ـ

ـ

الاثنين 28/02/2005

السلام المدمِّر:

سلام الجغرافيا....!

أيمن اللبدي

في التاريخ مثلما في الجغرافيا تتوارى دوما المعالم الحقيقية للنزاعات والحروب مثلما تتوارى المعالم الحقيقية للتسويات والحلول البشرية لها خلف المسرح، وهذه الحلول البشرية والتي توافقت الدعوة على تسميتها بالسلام هي دوما حلول معلولة، بعض هذه الحلول يستحق فعلاً أن يندرج تحت ما أريد للسلام أن يكونه وهو كامن مستقرٌ في السلام الحقيقي العادل ذلك المفضي إلى تحقيق الحقوق وتمهيد الطريق إلى عمارة الأرض ووراثتها تعاوناً بين بني البشر وذلك النوع بلا ريب هو الذي أرادته الأديان جميعاً ووقفت تدعو إليه وتلح في الإبقاء عليه وما انفكت توطِّنُ المسالكَ المفضية إليه والمبقية عليه وبلغت ذروتها في أن احتفظ الإسلام لله عزَّ وجلَ باسمٍ من أسمائه الحسنى حاملاً لواءه فهو السلام.

أما بعضها الآخر فلا يستحق قطعا أن يكون إلا مغتصباً لاسم السلام كما كان حال مشهد العدوان الذي سبقه وبالتالي فهو ليس إلا فصلاً جديداً في امتداد هذا العدوان حاملاً بذور انفجار جديد قادم ٍ يكمل دورة الخرابِ في كل مرة تنضج شروط افتتاح المواجهة الجديدة، وما ذلكَ إلا لأنه قام بعيداً عن إنجاز الهدف الرئيس منه في إحقاق الحقوق وردها إلى أصحابها، وفي توفير الأمن تالياً لجهد البشر في تحقيق معادلة علة وجودهم الأولى في إعمارالكون ووراثته الورثة الصالحة وإتمام مشيئة الله على أرضه وفي بعض أملاكه التي مهدّها وسلكها لخطو هذا الإنسان ولنشاطه الذي طلب منه وحُضَّ عليه عملاً حتى غدا هذا العمل بمرتبة العبادة التامة.

والسلام على الأرض كان دوماً في نهاية الأمر محصلة لعاملي التاريخ والجغرافيا بحيث يغدو حاملاً معالم كينونته التي ستفرد نوعه من هذين العاملين (التاريخي والجغرافي) من كل بقدر ليقوم شكله ونوعيته على ما أخذ منهما وعلى ما كانت حصة أحدهما من هذا المزيج فيه، وإذا كانت التجربة قد أثبتت دوما نزوع عامل التاريخ إلى الاستجابة دوما للصفات القيمية العليا من الحق والعدل والضمير والخير لروحانية ترعاها الشرائع السماوية في الأرض وتحض عليها فيستنير بها بنو البشر أو لإنسانية بلغت درجة عالية في الإنسانية فأعملت ضميرها الحيَّ ونبلها وخيرها لإقرار ذلك هادياً مرشداً في نزاعاتها فإن ذات التجربة قد أثبتت أن في عامل الجغرافيا دوما نزوعا للصفات المصلحية الضيقة وجملة ارتباطاتها بالغرائز والمحركات البشرية البعيدة عن أثر الفكر والروح.

وحينما وصفت الحروب بأنها (سياسة مكثفة) وبأن السياسة في طبيعتها بدورها (اقتصاد مكثف) بحسب رؤية التفسير المادي الماركسي للتاريخ فإنها كانت بلا شك تنطلق ونصب عينيها عوامل الجغرافيا دون عوامل التاريخ التي هي عوامل تغوص عميقا في الإنسان باتجاه مكونات وجدانه وروحه وعلاقاتها مع كوكبه الذي يعيش فوقه، ولعمري فإن في ذلك كانت التوصيفات صحيحة تماما وصادقة إلى حد بعيد طالما هي في معرض الحديث عن نزعات البشر المادية البحتة ومصالحها، ولكنَّ هذه القيمة من الصحة يعتريها خلل كبير عندما ُتفرض عليها مسألة الروحانيات أو الإنسانيات فتصبح غير قادرة تلك المعادلة على العمل وتحتاج في هذه الحالة لإنشاء مرافقتها التاريخية الأثر فتصبح الحروب والنزاعات بذلك ووفق هذا المنحى من النظر ضمن حيِّز ال( إنكار مكثف ) ويصبح هذا الإنكار للغير بدوره ترجمة ل(تفرّد مكثف) يقترب إلى حدود الهوس والجنون بعظمة الوحدة.

هذه العظمة هي المقابل المنطقي والموضوعي للألوهية حتى وإن أُنكرت وادَّعت أنها تمارس دورها زلفى للألوهية أو في ترجمة لرغبتها بينما هي في واقع الأمر تشتط بعيداً في تأليه ذاتها لدرجة أنها ربما لن تفلح في أدبياتها إخفاء حقدها ومغالبتها للألوهية الحقة وتلكم هي التوصيفة التي استقدمت على سبيل المثال فكرة الاختيارية إيماناً مطلقاً لدى نفر من البشر، نعم هؤلاء النفر الذين زعموا أنهم مختارون في الأرض –ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيلا - قد نزعوا تاليا إلى إسباغ الألوهية على أنفسهم وما عادوا يحسون فرقا كبيرا بين أنفسهم ونزوعهم فيها إلى تفريدها وفصلها عن غيرها بكل ما يستلزم في ذلك من الذهاب إلى أقصى حدود العدوانية والشراسة وبين الإله الذي انتزعوه أيضا لهم وحدهم وخاطبوه على أنه لهم ولا علاقة له ولا لهم بما تبقى على الأرض أو في السماء ممن ساكنهم هذا الكوكب، ولعمري أنهم ما زالوا يحرصون وقد لا يرعون بعد ذلك كله عن وصف هذه المساكنة بالخطأ الكبير إمعانا في شططهم.

حينما شهدت أحداث التاريخ العربي الإسلامي حلوله التاريخية في مسألة السلام الذي توصلّت إليه المنظومة الفكرية آنذاك وبغض النظر عن الآخر والذي كان طوراً صاحب معتقد سماوي كما في حالة المسيحية واليهودية أو صاحب معتقد بشري كما في حالات أخرى متعددة، لم تنطلق من الإنكارية المكثفة ولا من الإفرادية الهوجاء التي تحمل في لبناتها بذور الشر كله بنزوعها إلى العلاقة المحصورة في ذاتها – في مقابل العلاقة المفتوحة في الاختيار لعلة (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف)- ولذا فقد وسعت جملة النشاطات الإنسانية عقب ذلك وأغنتها في معادلة حيوية استفادت وأفادت وقادت تلك العصور إلى قمة السلام الإنساني والعطاء البشري بتوازن فريد حفظ للعالم كل مقومات البقاء وترسّخت قيم العدل والحق والخير والمحبة الإنسانية فأنتج ذلك كله حضارة حقيقية بكل معنى الكلمة تنافس فيها عاملا التاريخ والجغرافيا لخدمة البشر من أجل حضارة متزنة وغير قلقة، هذا ما تشهد به كل السجلات التاريخية على أي حال.

لا يمكن بحال أن يُنكر ذلك على هذه الحضارة التي عاش في كنفها أصحاب الديانتين السماويتين اليهودية والمسيحية تحديداً بمنتهى الحرية الحقيقية وتحت حكم العدالة القصوى من أجل خير الجميع، وهكذا ففي محركات النزاع من الجانب العربي الإسلامي تاريخيا فإن مكونات الاختيارية التي أفردت مكون الوحدة في هذه الحضارة العربية الإسلامية كانت قائمة على تفرّد العلة من أجل البناء والإعمار لا من أجل الحصر والاستكبار في علائق مغلقة على العرقية والنوازع ولهذا جاءت الإنكارية التي قادت إلى نزاعات الحضارة العربية الإسلامية إنكارية معلولة على فعل الآخر وما قد يلحقه من خراب بمعادلة عمارة الأرض وليس عليه تحديداً لذاته، وتبع ذلك أن جملة حلوله التي قدمها ووقف عندها كانت دوما من أجل عمارة الكون واستدعاء الآخر للتعاون في سبيل ذلك ( وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) وكان ذلك مقوم السلام التاريخي دوما الذي قدمته هذه الأمة للعالم.

في مشهد مقابل وفي مناطق أخرى شهدت نزاعات العالم منذ أمد قريب أو بعيد وسواء أكانت تلك التي اصطرعت بين عدد من الأمم أو تلك التي كانت ضمن مشهد الحروب الأهلية نماذج مختلفة كانت فيها مركبات الجغرافيا هي العامل الفاعل المشاهد، كما كان سلامها أيضا مبنياً على عوامل الجغرافيا، منتجاً ذلك السلام الذي أدى طويلا إلى حالات انفجار هذه النزاعات وتجددها ولو بعد حين، إذ طالما كانت عوامله قائمة على المصالح المتغيّرة فإن شروط احتقانه في داخله قابعة بانتظار لحظة الحسم القادمة وصاعق التفجير المقبل، خذ مثالاً في الحربين العالميتين الأولى والثانية لديك عشرات الشواهد على هذا الحال ودلائل عدة تصلح لقياس عوامل الاضطراب حتى في داخل هذه التسويات التي ما فتأت تشتعل في داخل مكونات الانفجارات القادمة والتي أكدت نوعية التسويات المؤقتة التي أنتجت، وإذا كانت أوروبا قد أدركت أخيرا أن عوامل التاريخ هامة في تثبيت سلامها الداخلي عبر ما ناضلت طيلة عقود لتحقيقه بين شعوبها والتي جاءت أخيراً في صيغة منظومة الاتحاد الأوروبي التي حرصت على تشييده ضمانا لذلك،  فإن دولا أخرى وأماكن أخرى في العالم لا زالت بعيدة عن تحقيق هذا المنال حتى الساعة.

إن سلام الجغرافيا التام في أوروبا لم يصمد طويلا بينما صمد سلام التاريخ الروحاني الإسلامي عدة قرون، وصمد سلام التاريخ الإنساني في آسيا ردحاً من الزمن قبل أن ينهار الاتحاد السوفييتي ومنظومته الشرقية لأسباب مختلفة، وها هو السلام ( الجغراتاريخي) في أوروبا قائم صامد يحقق نموا مضطرداً ويغذ الخطى عبر منظومة الاتحاد الأوروبي عنصر استقرار واتزان في هذا العالم في أحد أوجه نشاطاته المعنية بالسلام الدولي، وهذا النمط من السلام هو ذاته الذي قامت عليه تسويات النزاعات الأهلية العتيدة في دول العالم الجديد كما في الولايات المتحدة الأمريكية واستراليا مثلا وتسويات دولة التمييز العرقي في جنوب أفريقيا من ناحية أخرى، وكلما ازدادت عناصر التاريخ الإنساني في سلامها هذا كلما تأصّل سلامها وازدادت استقراراً ومنعة وازداد عنصر ما تقدمه من مساهمة في سلام واستقرار الكون، ولعل هذا العنصر التاريخي الإنساني يأتي تحصيلا لنضالات المساواة والحرية التي تقوم بها حركات ومؤسسات هذه المجتمعات وتكون مظلة لأصحاب الدار من السكان الأصليين أو المستقدمين في عصور العبودية من الزنوج أو الوافدين بعد ذلك إليها.

الدولة الأقوى في العالم اليوم أي أمريكا إذن قامت على مزيج من عوامل الجغرافيا أساساً وبعض ملامح التاريخ وفي حربها الأهلية الطويلة كانت محطة لفعل هذه العوامل واصطراعها معا، وفي نضالات مكوناتها الثقافية والمطالبة بالمساواة شواهد على نقص عوامل التاريخ في هذه التسويات لصالح عوامل الجغرافيا، وصحيح أيضا أن هذه القوة المادية الطاغية لم تستطع حتى الساعة أن تخلق في الشق الحضاري الحقيقي الروحاني أيَّ إنتاج موازٍ رغم شعاراتها التي تحاول تسويقها من نمط ( الديموقراطية – الحرية – العدالة ) وذلك لأنها أصلا قامت فاقدة لذلك في مكوناتها وفي لبناتها الواحدة حيث هي فاقدة لشيء وتدعي أنها تعطيه الأمر الذي صبغ سوريالية المشهد الذي يتمثل اليوم في هذا العالم، ولكن لا يجب الإغفال بأن حدة الإنكار عند أمريكا للآخر ليست قائمة على مركب حقيقي من التفرّد المغلق وهذا ما جعلها أقل خطرا -حتى عهد قريب- على البشرية في التقييم الأخير ولا يمكن لها بحال أن تدعي ذلك نظرا لطبيعة فكرها الجغرافي المصلحي إلا أن محافظيها الجدد وعقلية تطعيم تفرّدها بالحلف الصهيوني يجعل هناك أبعاداً جديدة لمستقبل خطر شهد العالم في ولايتي البوش بعضاً من النتائج الأولية لما يمكن أن تكون عليه مشاهد العرض الأخير لو تسنى له أن ينفذ إلى المسرح!

المدهش أن كلاً من أمريكا وأوروبا وهما اللتان قامتا على أساس سلامهما (الجغراتاريخي) تذهبان فيما تعرضان على العالم في بعض أماكن النزاعات اتجاهاً غريباً في الإصرار على فرض سلام الجغرافيا على هذه الأمم وهذه الشعوب وأحيانا في تسويات حروب أهلية لدى شعب ما، ومن المنطق ربما أن لا نتوقع منهما أن يغذا الخطى باتجاه سلام تاريخي إنسانياً أو روحانياً ولكن على الأقل أن تقدما نموذجا يكون صورة عما استقرت عليه تجربتهما نفسها وما لمستاه من نمط مفيد !، فكيف بهما وهما اليوم في اتجاه آخر تماما يهددان بما يقدمان من الإصرار على سلام الجغرافيا السلم الإقليمي لهذه الأماكن وحتى السلم الدولي في أحيان أخرى كما هو الحال في هذه المنطقة الملتهبة، أليس في ذلك منتهى الانتهازية السياسية والبشرية ودوما السؤال لماذا ؟ والجواب دوماً لمصالحهما الذاتية فهما يمارسان وللأسف الشديد دوراً سلبيا بحق الأمم الأخرى التي تنزع إلى تقليدهما فيما سعيا إليه وربما أنكرا عليها ذلك في أنانية بغيضة – مع التمايز أحيانا في نسبة ذلك بينهما -!

في فلسطين اليوم يكمن التحدي الحقيقي حيث العدوانية والطغيان الذي طالما مثلته وتمثله الصهيونية وصبغتها اليهودية المتعصبة في أشدِّ أمثلة (التفرّد المغلق) والقائم على أعتى أنواع (الإنكار الحاد) والذي ما اكتفى بذلك بل تحالف في موقع متقدّم مع عوامل الجغرافيا الطاغية ليفرض معادلة فريدة في قبحها وشرورها ليس فقط على فلسطين وشعبها أو على عمقها العربي الإسلامي، بل على العالم أجمع بما فيه ذلك الاتحاد الأوروبي، وهنا تكمن الانتهازية والغباء السياسي الذي تمارسه أوروبا تحديدا لا سيما وهي المسئولة الأولى تاريخيا بحق هذه القضية عبر تعاميها عن حقيقة الأهداف التي تسعى إليها هذه الصهيونية، وإذا كانت الإمبريالية الدولية قد دعمت الصهيونية ردحا من الزمن واعتبرتها حليفا لها في صراعها الماضي من أجل الجغرافيا وبعض عوامل التاريخ الحقودة وليس الطيبة منها، فإنها اليوم وعلى لسان بوش وتحت صمت أوروبا تنادي علنا بإطلاق مركّب التدمير الكوني للعالم من خلال المناداة (بدولة يهودية نقية) وما يحمله ذلك من حقيقة منتهى الذهاب إلى النزاع المفتوح دوليا من جديد والذي عبّرت عنه بعض النظريات النازعة إلى هذه الصراعية في أمريكا ذاتها من نمط فوكوياما وصراع الحضارات الذي استقت منه إدارة بوش بعض موحياتها.

سلام الجغرافيا الذي تسعى أمريكا لفرضه على الشعب الفلسطيني هو سلام غير عادل وغير محق ولا يحمل أياً من بذور الخيرية فيه، بل هو سلام قلق حامل معه كل بذور احتقانه وانفجاره ولو بعد حين، هذا السلام الذي يتجاهل تماماً ليس فقط الشعب الفلسطيني وحقوقه الوطنية الثابتة والتاريخية والمشروعة في كل أرضه، لا بل يمتد ليتجاهل معه الحقوق الحضارية والدور الحضاري العربي الإسلامي في هذه المنطقة ويمعن في تقديم مسوّغات هذا التجاهل تحت مظلة (همبابا) الإرهاب الذي تحاول أمريكا أن تلصقه بهذا البعد الحضاري وبهذه المنطقة الحضارية والثابت قبل وجود أمريكا نفسها، وقدّم لها العون في هذا المسعى المراوغ نواتج ممارسات شاذة لفرق إسلامية لا علاقة لها من قريب أو بعيد بالطرح الحضاري الإسلامي وإن ادعت نشاطها تحت مظلة تدعيها باسمه.

هذا السلام المصطنع والموغل في جغرافيته هو موغل أيضا في عدوانيته ضد البشرية والإنسانية وضد عمارة الكوكب ومعادلتها وسيقود قطعا في قادم إلى شرور كبيرة تحصدها أولا هذه الدولة المصطنعة للصهيونية في فلسطين وأمريكا ذاتها وتحالفاتها المنشأة على قاعدة تحقيق هذا النوع من السلام، يبدو في الواقع وحقيقة أن محور ومثلث الشرور والطغيان في عالم اليوم يتكون من هذه الجهات التي تغذّ الخطى في هذه المغامرة والعجيب أنها بموازاة ذلك تنفذ إلى ذات النوع من السلام لفرضه على أقطار العرب واحدة واحدة وقد بدأته في العراق عبر احتلالها البغيض وشرعت تجهّز لانقضاضاتها القادمة على الدول العربية الأخرى وربما الإسلامية تاليا كما في حال إيران ودوماً تحت ذات الذرائع وذات الحجج التي لم تجد لها قيمة في الصدقية ولا في المنطقية وسقطت جميع أقنعتها منذ حرب العدوان على العراق مؤخرا بينما في صراعها مع كوريا الشمالية مثلاً هي في معرض آخر تماما.

لقد حرص الشعب العربي الفلسطيني على توضيح رغبته الحقيقية في السلام رغم كل الظلامات التاريخية بحقه فصاغ استراتيجيته الأولى في السلام القائم على أساس مركب التاريخ الحضاري أولا فإن لم يكن من الناحية الروحانية على قاعدة تجربته الحضارية العربية الإسلامية في فلسطين عبر آلاف السنين وقبل أن تضع الصهيونية قدمها عدوانا في أرض فلسطين وبغيا، فعلى أساس مركب التاريخ الإنساني بدولة واحدة على امتداد أرض فلسطين التاريخية يفتح فيها شعب فلسطين العربي بمكوناته الثلاث الإسلام والمسيحية واليهودية ذراعيه لمن يتوافق من هؤلاء المستقدَمين على البقاء ضمن هذه المنظومة وبأبعادها الإنسانية كلها من أجل ممارسة إنسانية سليمة وحل تاريخي شامل هو في حقيقة الأمر (سلام الفرسان)، بيد أن الصهيونية العدوانية وحليفتها ومتحزبتها أمريكا ومن يقف معها أمعن في رفض ذلك اعتمادا على طغيان قوة المادة وعطّل هذا الحل النموذجي للمنطقة وللعالم.

وحينما اشتدّ أوار هذه المواجهة التاريخية وطال أمدها وتغيَّرت شروط كثيرة في المحيط الإقليمي والدولي استجابت حركة الشعب العربي الفلسطيني التحررية ووافقت على أن تطرح سلاما أشبه ما يكون بخلطة سلام ( الجغراتاريخي) الذي قامت عليه أمريكا ذاتها في محاولة من شعبنا المحب للسلام أن يصل إلى نهاية وحيث الأولوية لعوامل الجغرافيا –كما تصرُّ عليه وتمليه موازيين القوى- مع بعض عوامل التاريخ الإنسانية وقبل شعب فلسطين مقاربة من هذا النوع مرحليا عبر( سلام الشجعان)، لا بل استعدَّ لأن يكون شكل هكذا سلام مع كونفدرالية تضم فلسطين وكيان دولة (إسرائيل) والأردن وحتى سوريا ولبنان لتكون عناصر الاستقرار أكبر ما يمكن، ونادى بذلك على أمل إلا أن هذه المعادلة حوصرت بحصار القائد الشهيد واغتيلت معه وأصبح هذا السلام الروائي بلا رجعة كل ذلك بمشاركة أمريكا وصمت باقي الرُّباعية العتيدة.

فما الذي تريده أمريكا ودولة الكيان لشعب فلسطين وللمنطقة ؟

إنهما تريدان فرض سلام الجغرافيا المنقوص وبالتوصيف الصهيوني البحت، ونحن نرفض هذا السلام رفضاً باتاً حيث جزء من رفضنا هذا هو حرصنا على السلام نفسه وحرصنا على هذا السلم الدولي العالمي، وفي الوقت الذي تدركان قطعا أن هكذا سلام لا يمكن فرضه مهما طال الزمن على هذا الشعب فإنهما لا تنفكان وفي روعيهما قلق وفزع مما يملكه شعب فلسطين لتفجير هذا النوع من السلام في أي لحظة وتفجير جداره العازل وكنتوناته ومعازله وترتيباته الأمنية السياسية مهما بلغت، وشعب فلسطين لا يملك فقط جهوزية كفاحية عالية لهذا التحدي تترجم نفسها عبر رباطه وكفاحيته الخلاقة العالية وفدائه الذي لا ينضب، بل أيضا في الكامن لديه وعبر امتلاكه عوامل أخرى أهمها عامل الديموغرافيا في مواجهة عامل الجغرافيا، ولذا فإن على أمريكا و(إسرائيل) أن تتذكرا جيدا أن خيار شعبنا الأخير هو إطلاق هذه الديموغرافيا من عقالها والمناداة بدولة واحدة على كل تراب فلسطين وقطع كل أشكال النضال بهذا الاتجاه إن لم تقدما صيغة معقولة لسلام (جغراتاريخي)، فالديموغرافيا التي ترعبهم وترهبهم هي سلاحنا النووي الكوني لفرض سلام التاريخ الإنساني في فلسطيننا مهما طال الزمن ونحن مع حركة التاريخ ولذا سننتصر.

المشاركات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ