مع
أنها تأخرت ربع قرن وجاءت
منقوصة
يبقى
منح جوازات سفر للمنفيين خطوة
صحيحة على طريق الألف ميل
الطاهر
إبراهيم*
الرقم 17 التاريخ
17 – 3 – 2005
(تقرر منح وتجديد جوازات
السفر لجميع المواطنين العرب
السوريين في الخارج ومن في
حكمهم لمدة سنتين بغض النظر عن
الأسباب التي كانت تحول دون ذلك
) ( وزير الخارجية في 17/3/2005 ).
هذا التعميم الذي صدر عن وزير
الخارجية السوري ووزع على جميع
البعثات القنصلية خارج سورية،
وتقرر بموجبه منح جميع
المواطنين السوريين خارج القطر
السوري جوازات سفر لمدة سنتين،
كان له وقع كوقع الصخرة الكبيرة
التي ألقيت من شاهق على بحيرة
عشرات آلاف السوريين الذين مضى
على وجود بعضهم منفيين خارج
القطر أكثر من ربع قرن.
ومع أنها تأخرت في حصولها، فإننا
ابتداء نرحب بهذه الخطوة،
القصيرة في طولها، الهامة في
تأثيرها. ولا يمنعنا الترحيب من
أن نبدي بعض الملاحظات التي
تلقي الضوء على قضية، غاية في
الأهمية، عانى منها المواطن
المهجّر قسرا عن وطنه، وقد
جاءته بعد طول حرمان.
أولا:تنبع أهمية هذه الخطوة ،على
قصرها،أنها جاءت لتصحح بعض ما
كان مخالفا للمادة (43) من
الدستور السوري التي نصت على أن:
(القانون ينظم الجنسية العربية
السورية ويضمن تسهيلات "للمغتربين"
العرب السوريين). فكما هو واضح
من التعميم أعلاه فقد كانت
التعليمات المعمول بها في
السفارات والقنصليات تقضي
بحرمان المغتربين المنفيين
وزوجاتهم وأبنائهم "لأسباب"
لم يفصلها التعميم وإن كانت
معروفة للجميع وهي كون هذا
المنفي معارضا للنظام. وهذا
الحرمان مخالف
لما ورد في المادة 43 أعلاه ،حيث
لم يرد فيها أي استثناء.
ثانيا: جاءت هذه الخطوة منقوصة
ومخالفة أيضا لما ورد في المادة
(25) في فقرتيها(3 ) و(4) حيث نصتا
على أن(المواطنين متساوون أمام
القانون في الحقوق والواجبات،
وتكفل الدولة مبدأ تكافؤ الفرص
بين المواطنين).ومعروف أن
الصفحة الأولى من غلاف جواز
السفر مدون عليها فقرة تقول أن
مدة جواز السفر هي ست سنوات، وهو
ما درجت عليه إدارة الهجرة
والجوازات داخل القطر وما هو
معمول به في القنصليات السورية،
حيث يمنح المواطن الذي أدى
الخدمة العسكرية الإلزامية أو
دفع البدل جواز سفر صالح لمدة ست
سنوات.
فعندما جاء النص أعلاه على منح
المنفيين جواز سفر لمدة سنتين،
يكون هذا التعميم قد خالف ما جاء
في المادة 25 أعلاه التي نصت
على تساوي المواطنين في الحقوق.
وهكذا يكون هذا التعميم قد
اعتبر المواطن المنفي "ثلث
مواطن". وتبقى هذه الخطوة
ليست أول مرة تنتقص فيها حقوق
المواطن المنفي. فقد حصل ذلك قبل
أربع سنوات عندما صدر تعميم تحت
رقم38 في
17/2/ 2001 يقضي بمنح المواطن المنفي
جواز سفر لمدة سنة واحدة.أي أن
ذلك التعميم قد جعل السوري
المنفي يساوي
"سدس مواطن". ومع ذلك فقد
عادت أجهزة الأمن لتضغط من جديد
وتم إلغاء التعميم بعد شهر واحد.
ثالثا:وفي المرتين الحالية
والسابقة عملت وزارة الخارجية
على مساواة المواطن السوري
المنفي مع غير المنفي بالواجبات
حسب نص المادة 25 من الدستور. فقد
تم إلزام المواطن المنفي بدفع
رسوم الاغتراب كاملة، وليس سدس
الرسوم أو ثلث الرسوم، علما أن
بعض المنفيين يعجز عن تأمين
قيمة رسوم الاغتراب، ما يجعله
يبقى خارج هذه "المكرمة" أو
عليه أن يستدين، وهو في بلاد
الغربة.
رابعا:ماتزال العقلية الأمنية
تهيمن على التعاميم التي تتعلق
بالمنفيين السوريين حتى عندما
تأتي تلك التعاميم ببعض
الانفراج.فقد جاء في شرحٍ
للتعميم السابق مرفقٍ معه
مايفيد بأن:(منح جواز السفر لا
يعني إسقاط المطالبات
القانونية أو غيرها من الأسباب
التي كانت تحول دون ذلك –أي دون
منح جواز السفر- وبإمكانهم
تسوية هذه الإشكالات عبر
السفارة أو بواسطة ذويهم أو
شخصيا لدى عودتهم إلى القطر).
وإذا كانت كلمة "القانونية"
قد وردت في النص آنفا، فإنما كان
ذلك لذر الرماد في العيون، لأن
الأسباب القانونية وهي التي
تعني عدم دفع غرامة ترك العمل أو
تكاليف الإيفاد ممن لم يعودوا
إلى القطر بعد إنهاء الدراسة،
ما كانت لتقف حائلا أمام منحهم
جواز سفر. ما يعني أن "غيرها
من الأسباب" تعني الوضع
الأمني حصرا. وأن هؤلاء
المنفيين حتى ينالوا حقوقهم
كسوريين، لابد لهم من العودة من
خلال البوابة الأمنية. وأن
المعارضين السياسسيين ،وحتى
إشعار آخر، ما يزالون ضمن فئة
"البدون" التي فرضتها
عليهم أجهزة الأمن لحرمانهم من
حقوقهم الأساسية التي كفلها لهم
الدستور تبعا لمواطنيتهم التي
ورثوها عن عيشهم وعيش آبائهم
لمئات السنين على أرض سورية
الوطن.
ومع أن معاناة المغتربين
المنفيين القسريين وعائلاتهم،
ليست القضية الغلط الوحيدة في
القطر السوري، وليست أكبر أخطاء
وخطايا الحكم الاستبدادي الذي
اختطف الوطن والمواطن منذ أكثر
من أربعة عقود، فإن هذه
المعاناة مع قضية المعتقلين
والمفقودين تبقى "الدمل"
الذي يعتمل في جسم الوطن ويهدد
بكوارث سياسية واجتماعية مالم
تعالج وطنيا بعيدا عن أجهزة
الأمن.
ومع كل ما أبدينا من ملاحظات حول
خطوة منح جوازات سفر لمدة
سنتين، فإن هذه القضية، وإن
تركت في المدى القريب أثرا
إيجابيا على حياة المنفي وأهله
في الوطن الذين يعيشون همومه عن
بعد، فإنها ستبقى محدودة الأثر
على المدى المتوسط والبعيد، لأن
سبب البلايا كلها هو قانون
الطوارئ الذي غيب الحريات وسمح
باغتيال أمن المواطن، وأي خطوة
لا تستهدف العودة بالبلاد إلى
الديموقراطية ستكون رتوشا
ودهانات تذهب مع أول هطول جديد.
وقد لخص الأستاذ الأديب "ميشيل
كيلو" معاناة مواطني الغربة
السوريين في مقال قيم، نشرته له
النهار البيروتية في 6 شباط من
العام الماضي 2004 تحت عنوان "مشكلة
البدون في سورية"، جاء فيه:(
مشكلة "بدون" الخارج، وهم
مواطنون سوريون غادروا البلاد
بلا سبب، أو لأسباب محددة
سياسية أو اقتصادية أو
جرمية،وأمضوا القسم الأكبر من
أعمارهم خارجها، لكنهم حرموا حق
العودة إليها، أو حق امتلاك
وثائقها الرسمية كهويتها وجواز
سفرها، وانقطعت، أو بالأصح
قُطعت، علاقاتهم معها، إلا
الأمنية منها، لأنهم موجودون
ككائنات امنية فقط، فلا وجود
لهم إلا بصفتهم هذه، ولا حقوق
لهم ولا واجبات، مع أن بعضهم ذهب
إلى المهاجِر طلبا للرزق).
فقط أقول أن الأستاذ "كيلو"
حاول أن يتقمص الحالة البائسة
لهؤلاء المنفيين في
غربتهم،وشخّص ،ببلاغة مشهود له
بها، بعض ما يعانيه هؤلاء، ولكن
تبقى المعاناة الحقيقية أكبر من
الوصف،بل قد تفوق التصور الذي
يمكن أن يتخيله من لم يعش القضية.
ولعل الإصرار على حرمان المواطن
من وطنه،تبقى الجريمة الكبرى
التي تجعل مرتكبها ينسلخ عن
وطنه، لأن من يفعلها يكون قد فقد
الإحساس بالمواطنية.
* كاتب سوري منفي
المشاركات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|