(12 رمضان)
وجـْد
كلما أوغلت الفهوم في معرفة
الخالق فشاهدت عظمته ولطفه
ورفعته، تاهت في محبته فخرجت عن
حد الثبوت.
وقد كان خلق من الناس غلبت
عليهم محبة فلم يقدروا على
مخالطة الخلق. ومنهم من لم يقدر
على السكوت عن الذكر، وفيهم من
لم ينم إلا غلبة، وفيهم من هام
في البراري، ومنهم من احترق في
بدنه. فيا حسن مخمورهم ما ألذ
سكره، ويا عيش قلقهم ما أحسن
وجده.
كان أبو عبيدة الخواص قد غلبه
الوجد كان يمشي في الأسواق
ويقول: واشوقاه إلى من يراني ولا
أراه، وكان فتح بن سخرف يقول: قد
طال شوقي إليك، فعجل قدومي
عليك، وكان قيس بن الربيع كأنه
مخمور من غير شراب، وكان ابن
عقيل يقول: إن التبذل فيه سبحانه
أحسن من التجمل في غيره.. هل رأيت
قط عراة أحسن من المحرمين! هل
رأيت للمتزينين برياش الدنيا
كأثواب الصالحين! هل رأيت
خماراً أحسن من نعاس المتهجدين!
هل رأيت سكراً أحسن من صعق
الواجدين! هل شاهدت ماء صافياً
أصفى من دموع المتأسفين؟ هل
رأيت رؤوساً مائلة كرؤوس
المنكسرين، هل لصق بالأرض أحسن
من جباه المصلين! هل حرك نسيم
الأسحار أوراق الأشجار فبلغ
مبلغ تحريكه أذيال المتهجدين!
هل ارتفعت أكف وانبسطت أيدي
فضاهت أكف الراغبين! هل حرك
القلوب صوت ترجيع لحن أو رنة وتر
كما حرك حنين المشتاقين؛ وإنما
يحسن التبذل في تحصيل أوفى
الأغراض. فلذلك حسن التبذل في
خدمة المنعم.
ابن الجوزي
صيد الخاطر
|