(8 رمضان)
(يحبهم
ويحبونه)
تأملت في قوله تعالى: (يحبهم
ويحبونه). فإذا النفس تأبى إثبات
محبة للخالق توجب قلقاً، وقالت
محبته طاعته فتدبرت ذلك فإذا
بها قد جهلت ذلك لغلبة الحس،
وبيان هذا: أن محبة الحس لا
تتعدى الصور الذاتية، ومحبة
العلم والعمل ترى الصور
المعنوية فتحبها؛ فإنا نرى
خلقاً يحبون أبا بكر رضي الله
عنه، وخلقاً يحبون علي بن أبي
طالب رضي الله عنه، وقوماً
يتعصبون لأحمد بن حنبل، وقوماً
للأشعري، فيقتتلون ويبذلون
النفوس في ذلك وليسوا ممن رأى
صور القوم، ولا صور القوم توجب
المحبة؛ ولكن لما تصورت لهم
المعاني فدلتهم على كمال القوم
في العلوم، وقع الحب لتلك الصور
التي شوهدت بأعين البصائر، فكيف
بمن ضيع تلك الصور المعنوية
وأبذلها.
وكيف لا أحب من وهب لي ملذوذات
حسي؟!
وكيف لا أحب من عرفني ملذوذات
علمي، فإن التذاذي بالعلم
وإدراك العلوم أولى من جميع
اللذات الحسية؟!
هو
الذي علمني، وخلق لي إدراكاً
وهداني إلى ما أدركته..
ثم إنه يتجلى لي في كل لحظة في
مخلوق جديد أراه فيه بإتقان ذلك
الصنع وحسن ذلك المصنوع..
فكل محبوباتي منه وعنه وبه،
الحسية والمعنوية، وتسهيل سبل
الإدراك به، والمدركات منه،
وألذ من كل لذة عرفاني له، فلولا
تعليمه ما عرفته.
وكيف لا أحب من أنا به، وبقائي
منه، وتدبيري بيده، ورجوعي إليه..
فكذلك الكامل القدرة أحسن من
المقدور، والعجيب الصنعة أكمل
من المصنوع، ومعنى الإدراك أحلى
عرفاناً من المدرك، ولو أننا
رأينا نقشاً عجيباً لاستغرقنا
تعظيم النقاش وتهويل شأنه،
وظريف حكمته عن حب المنقوش،
وهذا مما تترقى إليه الأفكار
الصافية إذا خرق نظرها الحسيات
ونفذ إلى ما ورائها؛ فحينئذ تقع
محبة الخالق ضرورة.
وعلى قدر رؤية الصانع في
المصنوع يقع الحب له. فإن قوي
أوجب قلقاً وشوقاً، وإن مال
بالعارف إلى مقام الهيبة أوجبت
خوفاً، وإن انحرف به إلى تلمح
الكرم أوجب رجاء قوياً، (قد علم
كل أناس مشربهم).
ابن الجوزي
صيد الخاطر
|