قتلوه
في اللحظة..
ولكنه قتلهم في التاريخ
عود
على بدء
(أحاديث
غير سياسية)
زهير
سالم*
ولأن الأحرار لا يحسبون على
الأشخاص، ولأن الأحرار يمتلكون
موازينهم وحساباتهم التي لا تمر
على العشارين والصيارفة
والمرابين أكتب عوداً على بدء.
أكتب لأبين أن الصغار وحدهم هم
الذين يبقون أسرى الحسابات
الصغيرة في المواقف الجلل،
والصغار وحدهم هم الذين تسد
عليهم آلامهم الحقيقية، وأؤكد
على وصف الحقيقية، آفاق الرؤية،
أو تطمس في نفوسهم معين التسامح
أو ينابيع الحب. الصغار وحدهم هم
الذين يتلجلجون دائماً في شباك
الكراهية والبغضاء وحب
الانتقام.
فرض الله سبحانه وتعالى القصاص
عدلاً وحياة وتقويماً للحياة
البشرية بكل ما يختلج فيها من
بغي واعوجاج فقال (ولكم في
القصاص حياة..) وفتح في جدار الحق
الأبلج هذا نافذة ذات ريح طيب
للتسامح والعفو فقال: (وأن تعفوا
أقرب للتقوى..) وقال: (فمن عفي له
من أخيه شيء فاتباع بالمعروف..)
وفي قوله (من أخيه) أفق لا يرقاه
إلا القليلون.
وفي أفق ثان من آفاق الإنسانية
الرحبة الراعية للحب والتسامح
والتآخي والتأسيس على رفض
الكراهية والبغضاء.. في أفق ثان،
يقف رسول الله صلى الله عليه
وسلم على رؤوس سادة قريش، وهم
الذين خذلوه وعذبوه وشردوه
وصحبه، قالوا ساحر، وقالوا كاهن
وقالوا مجنون. هم الذين كانوا
يضعون الجمر على صدور أصحابه
فلا يطفئه إلا (ودك أجسامهم) أي
الدهن الذائب منها. وهم الذين
قتلوا من أصحابه سمية وياسراً،
وفعلوا ما فعلوا به يوم أحد،
كسروا رباعيته وأدموا وجهه،
وقتلوا عمه حمزة، ومثلوا به. هم
الذين علقوا صاحبه (خبيب بن عدي)
على الصليب، يوماً فقال قولاً
يستحضره كل مسلم حتى
اليوم
ولست أبالي حين أقتل مسلماً
على أي جنب كان في الله
مصرعي
يقف على رؤوس القوم، لا ليعدد
مخازيهم، ولا ليذكرهم بجرائرهم
وجرائمهم، ولا ليستحضر كل
الآلام التي سببوها له
ولأصحابه، ولا العذابات التي
صبوها عليه وعليهم، لم يفعل
شيئاً من ذلك، لأن ذلك شأن
الصغار، ولأن العظماء عندما
يصنعون انتصاراتهم العظيمة
يحتفظون بعظمتهم، وبشموخهم
وبترفعهم، يُسقطون كل الحسابات
(السوقية) ليدخلوا في السياقات
الإنسانية والحضارية.
قال: ما تظنون أني فاعل بكم؟!
قالوا أخ كريم وابن أخ كريم. قال:
اذهبوا فأنتم الطلقاء!! ببساطة
ويسر وسماحة، على سنة أخيه يوسف
الذي ألقاه إخوته في غيابة الجب
طفلاً صغيراً، وأورثوه الأسر
والضياع والسجن.. فقال لهم
بتلقائية، الكريم ابن الكريم
ابن الكريم: (لا تثريب عليكم
اليوم يغفر الله لكم..)
في أفق ثالث..
يقول معاوية بن أبي سفيان، رضي
الله عنه وأرضاه، لرهط من قريش
حكموه في خلاف بينهم: يا معشر
قريش، أتريدون أن أحكم بينكم
بالحق، أو بما هو أفضل من الحق، قالوا: وهل هناك أفضل
من الحق؟ قال: نعم، العفو..
العفو الأقرب للتقوى ، والأقرب
للفضل الذي تلقفه بطل الأمة
وقائدها صلاح الدين بن أيوب يوم
نصر حطين. يوم صف في سرداقه ملوك
المحتلين وقادتهم الذين
اغتصبوا ديار المسلمين، وجاسوا
خلالها قتلاً وتدميراً وفساداً.
يجلس ملوك القوم ينتظرون النطع
والجلاد، ولكن النفس العظيمة
لابن الأمة العظيم، تأبى، يمد
يده لأسراه العطاش من لهب
الشمس، ولهب الأرض المحترقة تحت
أقدامهم، ولهب الريح التي لفحت
وجوههم، ولهب الحرب التي أتت
على كل شيء حتى خيمة مليكهم،
ولهب الهزيمة التي أوقعت في
الأسر الصليب المقدس الذي
يطلقون عليه صليب الصلبوت،
والذي حفظ ليعاد فيما بعد
لمقدسيه، وأخيراً لهب الخوف
الذي جعل ألسنة القوم قطعاً
خشبية تلتصق بحلوقهم ينسى
القائد العظيم، ابن الأمة
العظيمة، التثريب على القوم،
ينسى تعداد الجرائر والجرائم
والانتهاكات ويمد يده ليسقي
العطاش بالماء المثلوج المحلى
بالجلاب.
وفي دار ابن لقمان في مصر
مازالت آثار لويس الرابع عشر
ملك فرنسا في عهد صبيح الطواشي
أثراً لتتلى اليوم على مسامع
بوش وأعوانه الذين لا يعرفون
حرمة الأسير.
آفاق إنسانية وحضارية وإسلامية
ننتمي إليها ونتطلع إليها ونقرأ
على أساسها الأحداث ونفسر
المواقف.
الانتقام
شفاء النفس لساعة، والعفو صناعة
للتاريخ و للحياة وللإنسان
أيضاً. كنا نتمنى أن يجد المالكي
والطالباني في قوله تعالى (وأن
تعفوا أقرب للتقوى..) ذكرى، أو في
مقولة يوسف عليه السلام (لا
تثريب عليكم اليوم..) عظة، أو في
وقفة رسول الله صلى الله عليه
وسلم على رؤوس قريش يوم الفتح
قدوة كنا نتمنى على الطالباني
والبرزاني وكل الذين يظنون أن
الانتقام رجولة.. أن يتعلموا أن
الانتقام أفق واطئ لأصحاب
النفوس الصغيرة.
كنا نتمنى على الذين يظنون أنهم
يتحدرون من نسل العظماء أن
يقرؤوا سفر مجدهم ومجدنا جميعاً
في سيرة عظيم مثل صلاح الدين.
نعم انتقموا فقتلوه في اللحظة،
ولكنه قتلهم في التاريخ.ومرة
أخرى ليس دفاعا عن شخص،وإنما
دفاع عن حضارة وقيم.
---------------
*مدير مركز الشرق العربي
للاتصال بمدير المركز
00447792232826
zuhair@asharqalarabi.org.uk
13/01/2007
|