لجنة
التحقيق الدولية
تتقدم
نحو دمشق
زهير
سالم*
يقولون في الأدب: الأسلوب هو
الرجل. ويبدو أن هذه الحقيقة
تمتد إلى كل مجالات الحياة. فروق
ظاهرة لا شك بين رئيسي لجنة
التحقيق الدولية (ميليس) و(براميرتس)
كان الأول يتحرك والحقائق
تتناثر حوله بينما يؤثر الآخر
على أن يضم كل رصيد عمله إلى
صدره.
بارتياح عام قوبل تقرير لجنة
التحقيق الدولية بقيادة المحقق
براميرتس. خلاف ما كان عليه
الأمر أيام ميليس حيث كان
السوريون يتذمرون بضجيج. هذه
المرة الأمريكيون والفرنسيون
مرتاحون والسوريون والبنانيون
وآل الحريري أيضاً مرتاحون.
ولارتياح النقائض أكثر من
دلالة، فلكل فريق سببه
للارتياح، فبعض الارتياح حقيقي
حيث يبدو الرجل الذي يعمل بصمت (واثق
الخطوة يمشي ملكاً..) وبهدوء
متعمدين بعيداً عن الضجيج أبعد
عن احتجاجات المحتجين. ومنهج
مثل هذا جدير بأن يبعث الارتياح
في نفوس الذين ينشدون الحقيقة
ويسعون إليها، بينما يبعث الصمت
الوقور الارتياح الظاهري في
نفوس أولئك الذي ظل ميليس
يذكرهم صباح مساء بأن الموت
قادم!! فكثير من الناس مع يقينهم
بأنهم ميتون، لا يرتاحون لذكر
هذه الحقيقة، ولا يحبون التوقف
عندها.
المحطة الأولى التي يمكن أن
نتوقف عندها في تقرير (براميرتس)،
تعلن بجلاء ووضوح (أتاك الموت يا
تارك الصلاة). تتجلى هذه الحقيقة
في إشارة التحقيق في الفقرة
السادسة إلى أن المحققين
يقتربون من (تحديد الظروف
الدقيقة للتفجير والطريقة التي
نفذ بها، وسيؤمن هذا حلقة
أساسية في سلسلة الأدلة
الضرورية لتحديد هوية
المرتكبين والممولين
والمنتظمين والمتواطئين
ومحاسبتهم.
لكن اللجنة تعتبر أنه من غير
المناسب في هذه المرحلة الكشف
عن تفاصيل إضافية متعلقة بعملها
لأن من شأن ذلك أن يعرّض بدون
داع (أمن الشهود للخطر..) ويعرقل
جمع الأدلة في المستقبل ويقوض
نتيجة التحقيق بشكل عام).
إن ما يستخلصه أي متابع من هذه
الفقرة هو:
1ـ أن التقرير لم يفصح عن جميع
الحقائق التي توصلت إليها
اللجنة، بل هي ترى أن وقت الكشف
عن هذه الحقائق لم يحن بعد، بل
هو مضر بعمل اللجنة، ربما يرى
البعض أنه (من عمود إلى عمود
يفرجها الرب المعبود..) وبالتالي
فهم مرتاحون لأن المراهنة على
كسب الوقت هو جزء من
استراتيجيتهم.
وتشير الفقرة أيضاً بجلاء
ووضوح وقطع إلى أن المجموعة لم
تنفذ بيد فرد (أبو عدس) أو مجموعة
صغيرة، وإنما هناك هيكلية هرمية
من (المرتكبين والممولين
والمنظمين والمتواطئين..) ولا بد
أن اللجنة قد وضعت هؤلاء جميعاً
في دائرة التفحص لتصير بهم إلى
الحال الذي إذا أخذوا بها لم
يفلتوا من الإدانة.
وتشير هذه الفقرة أيضاً إلى أن
هؤلاء (الممولين والمنظمين
والمتواطئين والمرتكبين..)
لايزالون في موقع النفوذ
والقدرة على إلحاق الأذى
بالآخرين، فهي تعتبر أن جزءاً
من أسباب الصمت الذي تلجأ إليه
هو الخوف من تعريض (أمن الشهود
للخطر) (ويعرقل جمع الأدلة) و(تقوض
نتيجة التحقيق..) فلو كان مرتكب
الجريمة فرداً أو مجموعة معزولة
لما أمكن لها أن تشكل أي خطر
راهن أو مستقبلي على (الشهود) أو
مجريات التحقيق. فما يقوله
التحقيق بطريقة مباشرة هو أن
مرتكب الجريمة جهة مركزية
مايزال لها حضورها ونفوذها.
ثم إن استمرار احتجاز رؤساء
أجهزة الأمن اللبناني حتى بعد
هذا التقرير تؤكد أن توجهات
ميليس لم تكن تضرب في بيداء. وأن
التقرير الحالي يسير في نفس
الاتجاه العام الذي سار فيه
تقرير ميليس الأول وهذا يعني أن
مجموعة (الممولين والمرتكبين
والمتواطئين والمنظمين) ماتزال
تحط رحالها عند رؤساء الأجهزة
الأمنية اللبنانية أرضاً
وسقفاً...
في الفقرة التاسعة يتحدث
التحقيق عن تنظيم العلاقة مع
سورية ويوضح بأنه (جرى التوصل
إلى تفاهم مشترك حول أنماط
العمل في مجالات مثل الوصول إلى
الأفراد والمعلومات ومقابلة
الشهود/ المشتبه بهم وإطار
العمل القانوني القابل للتطبيق
والتواصل مع الحكومة. وسيوضع
هذا التفاهم على محك الاختبار
في الأشهر المقبلة..)
في هذه الفقرة نستقبل رسالتين..
الأولى هي أن هذه التفاهمات
التي أبرمت مع الطرف السوري لم
تدخل مرحلة التنفيذ أو الاختيار
بعد، ولذلك فكل ما ذكرته اللجنة
عن تعاون سورية هو بالحقيقة وعد
بالتعاون على أسس معينة سيصار
إلى اختباره في الأشهر القادمة.
والثانية هي أن التفاهم
المشترك حول أنماط العمل في
مجالات مثل الوصول إلى الأفراد
والمعلومات ومقابلة الشهود/المشتبه
بهم.. قد شمل بشكل ما اللقاء
المرتقب مع رئيس الجمهورية
ونائبه. فأي معنى تحمله هذه
الرسالة، وأي حقيقة تشير إليها؟!
في الفقرة السابعة عشرة..
تؤكد اللجنة بقيادتها الجديدة
رد كل الشبهات التي أثيرت حول
منهج عمل اللجنة السابقة، بشكل
غير مباشر، وبالتالي اعتماد
جوهر النتائج التي توصلت إليها
تلك اللجنة بعد عملية مراجعة
وتوثيق، يقول التقرير:
(راجعت اللجنة العمل السابق: كل
البيانات الاستخبارية
والمعلومات والأدلة التي جمعت
منذ انطلاق عملها في حزيران 2005
وشملت المراجعة تقويم الطريقة
والمنطق المعتمدين في جمع هذا
الكم الكبير من المواد وتقويم
المعايير التي اعتمدت في جمع
الأدلة والمقاييس القانونية)
وأخضعت للبحث الجديد كل فئات
جمع الأدلة مسرح الجريمة ـ
تنفيذ عملية الاغتيال والروابط
مع المرتكبين المزعومين..)
وماذا كان نتيجة كل هذه
المراجعات خلال الأشهر
السابقة؟ كانت النتيجة أن اتخذت
اللجنة قراراً بالتوقف عن
متابعة بعض الخيوط التي جرى
تحديدها سابقاً. والتثبت من
منفعة خسوط أخرى وتأكيدها..)
ويقول في الفقرة الثامنة
والعشرين مؤكداً هذا بأن اللجنة
تتابع خيوطاً واعدة وتتوصل إلى
صورة واضحة في هذا الصدد..
وبالطبع فإنه من الخيوط التي
أكدت اللجنة على متابعتها خيط
دمشق حيث تلقي اللجنة بثقلها في
المرحلة القادمة في هذا الاتجاه.
أما ما جاء في الفقرة الثالثة
والثلاثين فهو الأشد وضوحاً في
تحديد الجهة المتوارية وراء
الأكمة في إطار أكثر عمومية
أصبح من الواضح أن الوسائل
والأساليب المستخدمة في عملية
إرهابية بمثل هذا الحجم أكثر
تعقيداً في مرحلتها التحضيرية
والتخطيطية وأبسط في تنفيذها.
ويبدو أن منفذي هذه الجريمة
محترفون جداً في المقاربة التي
اعتمدوها. إذاً فهم خططوا نسبة
عالية جداً من النجاح، ونفذوا
العملية بمعايير عالية من
الانضباط الذاتي الفردي
والجماعي. يجب الافتراض أن
واحداً منهم على الأقل هو على
الأرجح خبير في هذا النوع من
الأنشطة الإرهابية.
ثم إن فكرة التفجيرين
المتلاحقين تنبئ عن مدى حرص
الجهة الفاعلة على إخفاء وبعثرة
الأدلة وتضليل المحققين حين
يتداخل تفجيران في وقت واحد!!
ليس في تقرير لجنة التحقيق ما
يبعث بأي رسائل تطمينية باتجاه
دمشق. الحقيقة أن الأنشوطة بدأت
تضيق رويداً رويداً على أعناق
الفاعلين وبطريقة لا تترك لهم
أي مجال للتذمر أو التشكك. لسنا
معنيين باستباق الحقائق، ولا
بتثبيت اتهامات لم تثبت ولكننا
نقرأ التقرير بالطريقة التي
يرفضها الآخرون. تقرير لجنة
التحقيق الدولية لا يقل خطراً
عن التقريرين الأولين إن لم
يتقدم عليهما كل الذي نريد أن
يبقى خطر الإدانة عندما تثبت
متعلقاً بالذين ارتكبوا
الجريمة دون سورية الحبيبة
سورية الإنسان والوطن.
*مدير
مركز الشرق العربي
----------------------
للاتصال بمدير المركز
00447792232826
zuhair@asharqalarabi.org.uk
19/03/2006
|