عبير
الطفلة
العراقية المغتصبة
بين
براثن الغيلان
زهير
سالم*
عبير
تنادي، لا أحد يلبي...
معذرة
يا طفلتي، قومك بالأمس لم
يكونوا هناك، وهم اليوم ليسوا
هنا. معذرة.. فقد غابت عنك عين
البرّاض، ولم تسمعك أذن المعتصم.
تلاشت صورتك، بين براثن
الغيلان، في تلافيف ألبومات
الغناء، وضاع صوتك في ضوضاء
اللجاجات بين فقيه ومرجع وآغا
وسيد..
معذرة
يا طفلتي...!!
عبير
تبكي..
عيناها
لم تعودا (غابة نخيل ساعة السحر)
كما رآهما السياب. عيناها جمر،
وبحر دموع، وبراكين ألم تتفجر..
قلبها
النابض يتلمس الطفولة في مرتقى
إنساني فيجد الناس كلهم ذئاباً..
وفي مرتقى إسلامي فلا يجد إلا
خاتل صيد يغدو ويروح، وفي مرتقى
عربي فيدرك أن العروبة لم تعد
تعني أكثر من (كوفية وعقال)
فيرتد إلى أفقه العراقي.. واهاً
ثم واهاً لدعبل الخزاعي إذ يجيب:
إني
لأفتح عيني حين أفتحها
على كثير ولكن لا أرى أحداً
*
*
*
عبير
تموت...
لم
تمت عبير ساعة عدا عليها
العادون، لم تمت عبير عندما سفح
طهرها الآثمون، ولا عندما
أطلقوا النار على جسدها الغض
الطري، ولا لحظة أشعلوا فيه
النيران..
عبير
ماتت عندما نادت فلم يلب أحد من
قومها النداء.. عبير ماتت ساعة
لم يؤلم جرحها أجساد الموتى،
ولم يُسمع صراخها من في القبور..
ماتت عبير لأنها لم يغضب لأجلها
أحد، ولم يثأر لشرفها أحد...
فيا
أيها النائحات النادبات
اللاطمات على أرض العراق ليس
لكنّ اليوم إلا النحيب والبكاء..
عبير
ماتت...
وأحلامها
الباسمة اندثرت، الماضي القصير
بكل براءته تصرم، والحاضر
الكئيب بكل قذاراته أناخ على
قبور أو قلوب ـ لا فرق ـ الأحياء.
الماضي اندثر، والحاضر أناخ،
والقادم.. قادم بوش وجنده، قادم
حضارة السُّعار، وثقافة
الاغتصاب؛ اغتصاب الإرادة
واغتصاب الشرف؛ القادمين من
حضارة السعار وثقافة الاغتصاب
هم السادة والقادة هم الخصم
والحكم والجلاد.
عبير
ماتت...
لم
تأسف على الموت، لم تبك على
الحياة، لم تشعر منذ ولدت أن
هناك ما يستحق أن تحيا من أجله،
ولم تعرف من يستحق أن تبقى له،
بهدوء مجلل بالوقار رحلت..
عبير
ماتت... لتموت..
لتتدثر
بطهر السحاب، ولتحضن الطهر في
عالم لا طهر فيه، أرادت أن تنقذ
طهر العالم، وبراءة العالم، من
براثن الغيلان. الغيلان الذين
لم يعرفوا، كما لم يعرف قادتهم،
ولم تعرف أمهاتهم ولا آباؤهم
ولا مشرعوهم ولا قضاتهم، معنى
الطهر.. لا ولم يدركوا ملامح
البراءة، براءة الطفولة، في
وجوه الأطفال، لأنهم لم يكونوا
قط أطفالاً ولم يستمتعوا قط
بدفء الأمومة في أحضان الأمهات!!
عبير
ماتت...
من
أول الطريق عادت، قبل أن تتعب
عادت، لأنها رأت عالماً مزروعاً
بالغيلان، محكوماً بالغيلان.
عادت إلى مسقط رأسها، بين يدي
خالقها تنشد، لعلها تُسمِع أو
تُسمَع: أيها القلب.. أيتها
النفس.. أيها الجسد.. ما أجمل
الأفول ساعة الغروب القانية.
فتأفل عبير.
عبير
من أول الطريق تعود، وقد وهبها
عالم الحاضرة السخي لحداً
لآمالها وآلامها.. قدم لها حفار
القبور (بوش) كل ما يستطيع؛
لحداً يحتوي الآمال والآلام.
وهو كل الذي استطاع تقديمه حتى
الآن لأطفال العراق..
عبير
ذبلت..
ساعات
الغبطة تلاشت، تبخرت الحياة
كضغث حلم، انفلتت الذكريات تبحث
عن ذاكرة، ساعات الألم عبرت،
وبقي الصوت ينادي:
عبير..
لا ترحلي!!
رحيلك
حكم قاس على وجودنا!! نحن الأهل
والقوم والعشيرة نحن الآباء
والأعمام والأخوال والإخوة
والجيرة.. نحن الخالات والعمات
والأخوات والرفيقات.. رحيلك حكم
بالموت علينا، وموتنا في صمتنا،
وها أنت تسمعين هذا الصمت
المميت..
عبير
جرحك غارَ عميقاً بعيداً في
قلوبنا.. الآن وأنت في لحدك
الواسع تمرحين، نحن علينا هذه
الدنيا الواسعة تضيق، يضيق
علينا كل شيء. كل شيء يضيق، يضغط
على صدورنا، على قلوبنا، على
رؤوسنا، تضيق علينا الأرض بما
رحبت، تغلي صدورنا كما باطن
الأرض يغلي.. لسنا ندري أين ومتى
وكيف ينفجر البركان؟!
عبير
تسأل ساخرة: أو ما انفجر، بعدُ،
البركان؟!
---------
*مدير
مركز الشرق العربي
للاتصال بمدير المركز
00447792232826
zuhair@asharqalarabi.org.uk
08/07/2006
|