مجـزرة
حمـاة الكبرى (1982) ـ 2
القمـع
الرهـيب
الدكتور
: خالد الأحمد*
يوم
الجمعة الخامس من شباط.. بدأ
النظام الحاكم يستبيح الأرواح
ويحصدها بلا هوادة وفي هذا
اليوم بالذات كانت المدينة في
قبضة النظام بصورة كاملة. كان
الجنود قد سيطروا على الشوارع
والأزقة والبيوت، ونهبوا
الأسواق في اليوم السابق.. وكان
من المفترض أن يرفع الحصار،
ويسحب الجيش -على الأقل- من
منطقة السوق.. وتتوجه الجهود بعد
ذلك للسيطرة الكلية على منطقة (الحاضر)
القديمة. في هذا اليوم تصور
البسطاء من أهل المدينة أن
الحياة الطبيعية ستعود، لأن
الجيش قد سيطر كلياً، ولا حاجة
لمزيد من الرصاص والصواريخ..
فلقد تهدم ما تهدم من المدينة..
ويكفي السلطة ذلك.
لكن
الذي حدث.. رهيب وعجيب ومخيف..
ونقلاً
عن ضباط سرايا الدفاع الذين
تسربت على ألسنتهم بعض الروايات..
عرفنا أن الأوامر قد صدرت عن
رئيس الدولة، بمباشرة أعمال
الإعدامات، بعد أن استتب الأمر
للجيش بصورة كاملة. وبهذه
الغاية، فقد قسمت المدينة إلى
أقسام، ووضعت تحت إمرة كتائب
الشطب، وطلب منها أن تنفذ بكل
الأهالي الإعدام الفوري، مع
استخدام كل الوسائل التي من
شأنها أن تشيع الحد الأقصى من
الإرهاب.. وإعطاء الضوء الأخضر
لممارسة كل الانتهاكات أثناء
عمليات الإعدام.. من نهب
واعتداءات على النساء مع حرق
البيت وهدمه كلياً إذا اقتضى
الأمر..
وهكذا
استبيحت المدينة، وهي مستسلمة
كلياً للجيش، ودون أن يكون في
شوارعها مقاتل واحد، ماخلا بعض
أشكال المقاومة الفردية
المحدودة في منطقة (الحاضر) وهذه
كان يمكن حصرها وتطويقها بسهولة..
مما يدعم ما قلناه سابقاً، حول
تصميم السلطة على اغتيال
المدينة وذبحها من الوريد إلى
الوريد.
في
هذا اليوم ارتكبت المجازر في حي
الدباغة، وشارع أبي الفداء
ونترك للتفاصيل أن تتحدث.
مجزرة
حي الدباغة: هذا الحي تسكنه
أعداد وفيرة من الأسر الميسورة
والمتعلمة، ويقع هذا الحي في
قلب المدينة تماماً، ويتفرع عن
هذا الحي شوارع جانبية.. كانت
بأكملها ذلك اليوم هدفاً للموت
الجماعي، تطل معظم البيوت على
السوق التجاري الرئيسي.. هذا
السوق الذي تم نهبه في اليوم
السابق..
يروي
الأهالي مشاهد الرعب المروعة..
يقولون.. انتشر الجنود الغاصبون
في الشوارع كالجراد.. وأخرجونا
نحن النساء من البيوت، وجمعونا
في الشوارع، وقالوا: سنحرقكم
جميعاً ونحرق بيوتكم... وبالفعل..
صبّوا المازوت أمامنا على أبواب
الدكاكين، وأخذوا يشعلون النار
من حولنا.. ونحن نصيح ونتوسل..
طلبوا منا بعد ذلك الدخول إلى
البيوت.. مرة أخرى.. وكانوا قبل
ذلك قد جمعوا كل الرجال..
رأيناهم.. يُساقون أمامنا
كالأغنام.. كان معظمهم بثياب
النوم، وبعضهم لم يرتد حذاءه..
كانوا يمشون مع الجند صامتين..
وبعد دخولنا إلى البيوت بدقائق..
انهمر الرصاص بجنون، واشتعل
الجحيم في الحي كله.. عرفنا
جميعاً.. أن كل الرجال قد
استشهدوا وحتى اليوم سيظل بناء
الأوقاف الرابض في أول هذا
الحي، شاهداً على الجريمة.. ففي
داخله تكدّست جثث الشهداء، وكان
عددهم يناهز المئة.
ولم
يكتف الجنود بذلك، بل عمدوا إلى
بعض الحوانيت الفارغة، وأدخلوا
الرجال إليها، وهناك صبّوا
عليهم الرصاص.. وحين اطمأنوا إلى
مصرعهم.. أحرقوهم وظلّت الجثث
المتفحمة داخل الحوانيت حتى
نهاية الأحداث..
من
مجازر هذا الحي نسوق قصة واحدة:
عائلة (مفتاح) تسكن في منتصف هذا
السوق، وأصحابها من تجار
الأحذية المعروفين في المدينة..
دخل الجنود عليهم، فأعدموا كل
الرجال.. استطاع بعض الأهالي
إدخال الجثث إلى المنزل.. لكن
الجنود، حين عمدوا إلى حرق
السوق، والجثث داخل الحوانيت،
امتدت النار إلى منزل هذه
العائلة المنكوبة.. فاضطر من بقي
على قيد الحياة إلى الهرب..
تاركين جثث الشهداء تتهاوى
وتحترق في لهيب النار.
وحتى
يكون الحريق أشد شمولاً في هذا
الحي، عمد الجنود إلى سكب كميات
كبيرة من المازوت على أثاثات
البيوت من الداخل.. وهكذا تحوّلت
منطقة (الدباغة) بفعل الموت
والدمار والحريق إلى جدران
سوداء مهدّمة.
مجزرة
شارع أبي الفداء
أما
في شارع (أبي الفداء) الموازي
لحي (الدباغة) تماماً.. فقد تمت
المجازر بصورة أبشع وأشدّ همجية.
كان
الجنود ينتقلون بنظام من بيت
إلى بيت، وبالتتابع.. وعلى
الجانبين، على طول الشارع
الجميل الممتد من ساحة العاصي
حتى القلعة، ويقومون بعملية
الإعدام داخل البيوت ذاتها..
رجالاً ونساءً وأطفالاً..
ويخلّفون البيت وراءهم مليئاً
بالجثث، منهوباً في معظم
الأحوال.
من
مآثر ضباط سرايا الدفاع في هذا
الحي نروي الوقائع التالية:
-
يقول شاهد عيان استطاع أن ينجو
من المذبحة بأعجوبة، حين اختبأ
فلم يره الجند المنهمكون في
عملهم: قتلوا ابنتي وزوجتي أمام
عيني.. وبعد الانتهاء استدار أحد
الجند إلى الجثتين، فرأى الذهب،
فعاد وسحبه من الأيدي والأصابع..
لكن الأقراط (الحلق) استعصت
عليه، فقطع بكل بساطة الأذن
وحملها في جيبه مع الأقراط. كان
مشهداً خرافياً ظللت وقتاً
طويلاً أتخيّل أنه كابوس وليس
حقيقة.
-
مأثرة أخرى.. بناء طابقي يسكنه
إخوة عديدون من عائلة "الموسى"..
دخل عليهم الجنود وقتلوا الجميع..
حتى الطفل الرضيع على ثدي أمه..
لم ينج من المذبحة أحد، وتكوّمت
الجثث من الرجال والنساء
والأطفال داخل المنزل المنكوب.
-
جريمة أخرى تبعث على الذهول
والتساؤل: تجمعت حوالي أربعين
امرأة من نسوة الحي مع الأطفال
داخل عيادة أحد الأطباء.. التي
تقع في قبو أحد الأبنية الحديثة
في هذا الشارع.. لكن ماسورة
المياه انفجرت عليهم من تأثير
القصف.. فاضطروا للانتقال عبر
النوافذ الداخلية إلى قبو مجاور
لعائلة طيفور.. وفي هذا القبو
حدثت المجزرة.. دخل الجنود
وأخذوا يشتمون ويضربون بأعقاب
البنادق، ثم فتحوا النار على
جميع النسوة مع أطفالهن.. بعض
النـسوة ظللن فـي حـالـة نـزف
ساعات طويلة.. قبل أن يسلمن
الروح.
من
المفارقات الرهيبة.. أن طفلاً
رضيعاً نجا من المذبحة ووقع تحت
جثة أمه.. لكنه ظل يرضع الدم من
ثديها طوال يومين قبل أن يعثروا
عليه..
من
شهيدات هذه المجزرة: الشهيدة
ميسّر سمّان.. والشهيدة حياة
الأمين.. والشهيدة زوجة المقدم
فيصل دهيمش مع بعض أولاده.
وينتهي
يوم الجمعة الأسود، والدم يغسل
قلب المدينة، والليل يرخي سدوله
على جثث شهداء مظلومين ما كان
لهم من ذنب سوى أنهم مواطنون في
عهد حافظ أسد.
السبت:
السادس من شباط
يوم
جديد ومجازر جديدة. هذا (السبت)
لن يكون خيراً من (الجمعة)
السوداء. ستعمل كتائب الموت
بهمة ونشاط، وستسيل الدماء
أنهاراً.. في حي (جنوب الملعب)، و(سوق
الشجرة).
مجزرة
جنوب الملعب:
سمي
الحي بهذا الاسم لوقوعه فعلاً
جنوب الملعب البلدي.. والبيوت في
هذا المكان يجب أن تكون آمنة..
لوقوعها على أطراف المدينة
وبُعْدها عن المراكز المشتعلة..
يضاف إلى ذلك قربها من المستشفى
الوطني.. الذي عسكر جنود السرايا
والوحدات حوله منذ اللحظات
الأولى، بل كانوا ضيوفاً في
معظم الأوقات على بيوت هذا
الحي، حيث يقدم لهم الأهالي
الطعام والشراب.
وكانت
المكافأة يوم السبت.. بعد أيام
أربعة من الأحداث..
وبدأ
الجنود عملهم كالعادة، بقرع
الأبواب، واستدعاء الرجال (كل
الرجال) بحجة إلقاء بعض الأسئلة
حول بعض القضايا الأمنية. خرج
الأهالي الآمنون، وقد صدقوا
أقوال الجنود.. وكان الرصاص هو
السؤال الوحيد الذي تلقاه هؤلاء
الشهداء.
ويسقط
الجميع صرعى.. وتتكوم الجثث في
الأزقة الحديثة والطرقات
المزفتة..
في
جنوب الملعب لم يبق اليوم سوى
الأرامل واليتامى، والإحصاءات
تقول: إن عددهم يتراوح ما بين (1800
- 2000) منهم الشهيد النقيب (أحمد
عزيز) من سلاح الصواريخ لم تشفع
له رتبته فقتله عناصر سرايا
الدفاع وهو بلباسه العسكري
والشهيد القاضي محمد الواهب مع
زوجته التي استغاثت فقتلوها على
الفور. والشهيد مدير السجن
المدني في حماة وهو مواطن من
مدينة دير الزور.. لم تشفع له
أيضاً طبيعة عمله كمقدم في سلك
الشرطة.
أما
الأسر.. فبعضها فقدت كل الرجال..
وبعضها الآخر فقد معظمهم، مثل
عائلة اللاذقاني (فقدت تسعة عشر
شهيداً).
عائلة
الريس (سبعة شهداء).
عائلة
قوجة (تسعة شهداء بينهم سبعة
إخوة).
وعند
هذه العائلة الأخيرة المفجوعة
قصة تروى:
"يقول
الأب الشيخ الفاني، والباقي
الوحيد على قيد الحياة: (لقد
اقتادوا أولادي السبعة مع اثنين
من الأقرباء، قتلوا الجميع
أمامي أنا ابن السبعين، توسلت
إلى الجنود أن يقتلوني معهم..
لكنهم لم يفعلوا.. بل ضحكوا
وقالوا هكذا أفضل.. حتى تموت
ببطء"!!!
الأب
المفجوع هام على وجهه منذ ذلك
اليوم، وقد تركته المذبحة شبه
فاقد العقل.
مجزرة
سوق الشجرة:
هذا
الحي يقع داخل منخفض من الأرض،
ويمتد عبر طريق طويل متعرج
آخذاً في العلو حتى منطقة
المحطة. يتصل من الجانب الآخر
بحي المرابط، وفي الوسط يقوم
جامع أثري قديم (لم يبق منه
اليوم سوى ساحة ترابية واسعة).
دخل
الجنود هذا الحي المكتظ
بالسكان، حيث تتداخل البيوت
القديمة بصورة كثيفة داخل أزقة
ضيقة متعرجة.. وجمعوا كل الرجال
من معظم البيوت، وطلبوا إليهم
الوقوف جانباً.. كانت العملية
تتم على أيدي عدد كبير من (جنود
السرايا واضعي الأقنعة والدروع)
توازعوا كل أطراف الحي وأنحائه،
بدءاً من مدخله وحتى نهايته.
وقف
الرجال على الحائط بحراسة
الجنود المدججين. ودخل عدد آخر
من الجنود إلى البيوت بحجة
التفتيش عن مقاتلين مختبئين.
كان
الحي فعلاً خالياً من السلاح..
مع ذلك ادعت السلطة أن
المقاتلين قد مروا منه.. ووزعوا
السلاح على بعض ساكنيه.
وبعد
التفتيش لم يقع الجنود على شيء..
لكن حصيلتهم من الذهب كانت
وافرة.. وبعد أن اطمأنوا إليها..
أخذوا يضربون الرجال العزل
بأعقاب البنادق، ويطلبون من
النسوة البقاء على أبواب
المنازل، للتفرج على ما سيحصل..
بعد دقائق.. أعدم الجنود الرجال
واحداً بعد الآخر.. سقط معظمهم
على عتبات البيوت.. وظل بعضهم
ينزف ساعات قبل أن يسلم الروح..
ودون أن يسمح لواحد من الأهالي
بالاقتراب..
آخر
هذا اليوم.. غادر الجنود أزقة
الحي.. ماخلا بعض الدبابات
الرابضة على مداخله، وظلت جثث
الشهداء مرمية على الأرض
المبللة بالأمطار، بعض الأهالي
يقرؤون الفاتحة على أرواحهم..
وبعد أيام عشرة حملتهم الجرافات
إلى الحفر الجماعية..
يقول
شهود العيان: (في الحي هناك أمٌّ
قتلوا لها كل أولادها على عتبة
الدار.. وظلت الجثث أمام عينيها
طوال أيام عشرة يهطل عليها
المطر، ويغطّيها التراب وهي لا
تستطيع شيئاً سوى البكاء
أحياناً، وقراءة القرآن
أحياناً أخرى. كانت تخرج كل يوم
تغطيهم وتعود.. إلى أن جاءت
الجرافات ونقلتهم مع الجثث
الأخرى.
وفي
هذا اليوم تستوقفنا حوادث أخرى
غير المجازر.. جديرة بالرواية..
فقد تسربت إلى المواطنين حكايات
متعددة عن حدوث حالات اقتتال
عنيفة بين الجنود أنفسهم.. فقد
لاحظ الأهالي أثناء المداهمات
والتفتيش، أن بعض الجند كان
يحاول التعبير عن ألمه وضيقه
مما يحصل مظهراً عجزه أمام
الأوامر العسكرية التي تحتم
عليه التنفيذ.
وكان
بعض الجند أيضاً.. قد أقام صلات
إنسانية مع بعض الأهالي
المحاصرين.. فجلب لهم الطعام.. أو
الحليب للأطفال..
هؤلاء
الجند.. وعبر مشاهد الموت والدم..
لم يستطيعوا (وهم بشر) أن
يتماسكوا. نعود إلى الواقعة -يقول
الجنود أنفسهم- إن كتيبة سرايا
الدفاع التي نفذت حكم الإعدام
في الشهداء من أهالي (جنوب
الملعب) قد تعرضت في داخلها إلى
ردّات فعل حادة من قبل بعض
الجنود التابعين للسرايا
بالذات، حيث عمد هؤلاء إلى فتح
النار على رفاقهم، وحاولوا
الوصول إلى الضابط المسؤول
لاغتياله..
هذه
الواقعة حصلت في شارع (العلمين)،
وبعد الانتهاء من مجزرة (جنوب
الملعب) مباشرة، لكن الجند
المتمردين أعدموا على الفور،
وكان عددهم (سبعة).
وقائع
أخرى يمكن أن نسردها سريعاً،
تؤكد أن الجندي (الإنسان) لا
يمكن القضاء عليه كلياً..
وبالرغم من كل عمليات غسل
الدماغ.. يبقى الحس الوطني في
النهاية هو الأقوى..
في
شارع أبي الفداء بالذات، وحيث
كان القصف قد شمل البيوت
والأهالي جميعاً.. فإن جندياً
استطاع أن ينقذ أسرة كاملة.. حين
ادعى أمام الضابط، أنه لم يجد في
البيت الصغير أحداً.. بينما
الأسرة مختبئة في الداخل.. وحين
رآها الجندي، وكان وحيداً.. طلب
بسرعة من أفرادها الهدوء
والاختفاء داخل الخزائن.. وعاد
أدراجه بسرعة، بعد أن أطلق
عيارات نارية على باب المنزل،
وقنبلة حارقة في الزقاق.. وقال
للضابط المكلف: المنزل فارغ لم
أجد أحداً.
-
حكاية أخرى من شارع أبي الفداء
أيضاً..
عثر
جندي بين جثث القتلى على ثلاثة
من الجرحى وقعوا تحتها.. وكانت
جراحهم طفيفة. اقتادهم بسرعة،
وأدخلهم إلى مخزن قريب جانبي،
وأقفل عليهم الباب، وطلب إليهم
الهدوء الكامل.. وكان مركز وحدته
في الشارع بالذات.. هذا الجندي
كان يأتي يومياً بالأربطة
والطعام والشراب.. حتى نهاية
الأحداث وانسحاب الجيش من
الشوارع، إلى أماكن التجمع.. حيث
خرج الجرحى الثلاثة، وكان الظن
أنهم في عداد القتلى.. ورددوا
القصة العجيبة.. والثلاثة اليوم
أحياء يرزقون.
الأحد:
السابع من شباط
المدينة
المحاصرة تتنفس عن صباح جديد..
رائحة الموت والدم والبارود
تخيّم على سماء المدينة الأسود..
لاشيء يوحي بأن هذا اليوم سيكون
أخف من سابقه.. كان الجو ثقيلاً
على الذين لا يزالون تحت الحصار
داخل البيوت.. ورهيباً على الذين
شاهدوا أحبتهم يذبحون أمام
أعينهم، دون أن يستطيعوا حراكاً.
كانت
المدينة تحتضر، والدم الندي
يغسل شارع (أبي الفداء)، وشارع (الدباغة)،
و(حي جنوب الملعب)، وكل بيوت (الحاضر)
التي تخرّ على ساكنيها الشهداء.
كانت
حماة تسقط رويداً رويداً..
والخناجر تطعن في كل أنحاء
جسدها.. لكن الموت الكلي دوّن
جولات جديدة ستكون اليوم في حي (الوادي)
و(المحطة).
مجزرة
حي الوادي:
يقع
هذا الحي داخل منخفض من الأرض،
كانت تقوم على جنباته المغاور
أصلاً، ومنذ عشرات السنين،
يزدحم هذا الحي بأكثر الشرائح
الاجتماعية في المدينة فقراً أو
بؤساً، معظم الساكنين كانوا إلى
وقت قريب دون عمل ثابت (بائعون
متجولون أو حمالون على الظهور
أو الحمير).. هؤلاء انتعشت
أحوالهم المادية قليلاً حين
قامت في المدينة بعض المصانع..
فانخرطوا فيها صغاراً وكباراً..
لأنها تعطيهم دخلاً شهرياً
ثابتاً هؤلاء المعدمون..
استطاعوا تأمين حياة (مستورة)
كما يقال.. هذا الحي بسكانه
الفقراء كان هدف السلطة (الثورية)
صباح يوم الأحد.. والسبب على
لسان السلطة: أن هذا الحي كان من
أكثر الأماكن تأييداً للمعارضة
المسلحة.. وقد التحق بعض رجاله
للقتال.. قد يكون هذا الكلام
صحيحاً ومنطقياً في ضوء البؤس
الاجتماعي الذي يعاني منه سكان
هذا الحي.. لكن ذلك لا يبرر
الجريمة، ولا يبرر بقاء مئات
الأطفال في حالة يتم داخل بيوت
أشبه بالجحور، مع مئات الأرامل
اللواتي فقدن كل معيل: الزوج
والولد والأخ.
النسوة
من أهل هذا الحي يتحدثن بصراحة
ووضوح: (دخل الجنود علينا من كل
منافذ الحي، وسدّوها
بالدبابات، وأخذوا يطلقون
الرصاص في كل اتجاه، ويحرقون
بعض البيوت التي يشتبهون أنها
آوت بعض المقاتلين.. أكثر بيوت
الوادي كانت قد تشققت أو تهدم
بعض جدرانها من تأثير القصف..
أخرجوا الرجال من كل البيوت،
وساقوهم كالقطيع خارج الحي.. حتى
لم يبق أحد فوق الرابعة عشرة..
وتركونا مع الأطفال فقط..
بيوتنا
أثارت امتعاضهم.. لعلهم أشفقوا
علينا.. لم يجدوا ما يسرقونه.
انتظرنا طويلاً دون أن يعود أحد..
ثم أخبرنا الناس بعد ذلك عن جثث
كثيرة مرمية في حديقة مدرسة (المرأة
العربية) الواقعة خلف الحي..
هناك قتلوا كل رجالنا، ولم
يتركوا لنا شيئاً.. أكثر البيوت
مهدمة، ولا تصلح للسكن، والزوج
والابن والأخ ذهبوا إلى غير
رجعة".
الدخول
إلى هذا الحي بعد قتل كل رجاله
مسألة تبعث على الذهول والجنون
معاً.. هؤلاء الفقراء المعدمون..
هؤلاء الأطفال اليتامى الحفاة
العراة في برد الشتاء قد فقدوا
مرة واحدة كل شيء. حتى الراتب
الشهري قطعته الدولة بحجة أن
الشهداء يعتبرون من المفقودين
وليس هناك ما يثبت وفاتهم، ولا
يجوز إعطاء الراتب قبل التأكد
من ذلك (وكيف يتأكد الأهالي
وآلاف الجثث المتفسخة في الحفر
الجماعية قتلت، ودون أن يسألها
جندي عن اسم شهيد واحد؟) ومن
يستطيع من هؤلاء الفقراء أن
يقول للسلطة الحاكمة: إن الجنود
العاملين تحت إمرتها، قد قتلوا
لهم أولادهم وإخوتهم وأزواجهم
وبأوامر منها؟
من
الأمثلة الحية الموجعة في هذا
الحي.. عائلة العويّر.. وكانت
مؤلفة من ستة إخوة يسكنون بيتاً
واحداً مع زوجات أربعة، وأم
عجوز وجيش من الأطفال.. قتل جميع
الإخوة.. وظلت الأم العجوز
الفانية مع الأرامل والأطفال..
وبدون أي دخل مادي.. حيث قطعت
رواتب هؤلاء الشهداء جميعاً..
مجزرة
المحطة:
المحطة
من المناطق الحديثة نسبياً في
المدينة.. وهي تتفرع إلى عدد
كبير من الأحياء المحيطة.. منها
حي الحوارنة.. وقد قدّر عدد
القتلى في هذه المنطقة بحوالي
خمسمئة شهيد ينتمون لأكثر من
مائة عائلة تسكن هذا الطرف من
المدينة.
ورغم
أن المنطقة لم تطلق رصاصة واحدة
ضد السلطة، ولم تشهد شوارعها
مقاتلاً واحداً، والجيش عسكر من
ليلة الأحداث على أبنيتها،
واحتل الكثير من منازلها. ومع
ذلك كانت هذه المنطقة السكنية
مسرحاً لعمليات الإبادة طيلة
يوم الأحد الدامي.
سرايا
الدفاع تمركزت بصورة مكثفة داخل
شوارع منطقة المحطة، واتخذت من
بعض البيوت أماكن إقامة ثابتة
لها، بعد أن قتلت أو أمرت
أصحابها بالرحيل. وداخل هذه
البيوت، عمد الجند من اليوم
الأول إلى سرقة كل شيء... وكان
الأثاث ينقل أمام أعين الجميع
على الشاحنات.. لم يتركوا حتى
الملاعق والصحون..
بعد
ذلك عمدوا إلى تخريب البيوت من
الداخل بشكل مقصود.. كسروا
الأبواب والنوافذ، وأشعلوا
فيها النار للتدفئة .. لوثوا
الجدران ببقايا الطعام .. حوّلوا
الغرف إلى مراحيض، وتركوا
داخلها أكوام النفايات
والقاذورات.
يقول
أولئك الذين عادوا إلى بيوتهم
بعد رحيل عناصر السرايا:
»كانت
البيوت شيئاً فظيعاً. ماذا
كانوا يفعلون فيها -لا ندري-
سرقوا كل شيء حتى الصحون
والثياب الداخلية.. فضلاً عن
الذهب والأثاث والأدوات
الكهربائية... لوثوا الجدران
بفضلاتهم.. كانت البيوت مزبلة..
كانوا حيوانات«.
لكن
الأمر -في منطقة المحطة- لو
اقتصر على احتلال البيوت ونهبها
لهان الأمر. لقد عمد جنود
السرايا وبأوامر مباشرة من ضباط
الكتائب، ظهر يوم الأحد، إلى
جمع أكبر عدد ممكن من الشباب،
معظمهم في سن العشرين.. اقتادوهم
من البيوت، وأدخلوهم باحة محطة
القطارات خلف السكة الحديدية،
وطلبوا من أصحاب البيوت المطلة،
أن يخرجوا ليتفرجوا على احتفال
الموت.. وهناك فتحوا النار على
الأجساد الغضة، وسقط الشهداء
مضرجين بدمائهم.. وبقيت جثثهم
طيلة تلك الليلة تنهشها الكلاب
الجائعة المنتشرة في البراري
المجاورة.
وفي
أحياء أخرى من منطقة المحطة،
جمعوا أعداداً أخرى من الشباب.
وأعدموهم داخل مدرسة (المرأة
العربية).. أو على جدار (مدرسة
العميان).. وبعد يومين جاؤوا
بالجرافات، ونقلوا الجثث إلى
حفرة واسعة.. تقع خلف السكة
الحديدية قرب المقبرة.
طيلة
يوم الأحد كان الموت يسعى من بيت
إلى بيت.. لو استطاعت السلطة
لصادرت هواء المدينة.. وكنا
نتساءل مشدوهين: هل يعقل أن يصل
السلوك البشري في هذا الزمن
الحضاري إلى هذا القعر من
التوحش والجريمة؟. لكن الموضوع
ليس محض جريمة. إنها مؤامرة
مدروسة، من أجل أن يكبر نزيف
الدم حتى يغطي كل مواطن. إنهم
دون شك يذبحون سورية. نعم كانوا
يذبحون سورية عبر حماة..
الاثنين
الثامن من شباط:
يوم
أسود جديد.. نتعقب الإذاعات.. ألم
يسمع بموت مدينتنا أحد؟ الإذاعة
السورية.. لا تزال على عهدها..
تتحدث عن المواطن في ظل (الثورة)..
عن (سوريا الصمود).. عن (الشعب
الذي يؤيد السلطة ويلتف حولها) ..
عن. عن.. يا لهذا الإعلام الفضيحة..
كان صوت المذيع أقسى وقعاً من
الموت.
حتى
الإذاعات الأخرى لا شيء. لا شيء.
صمت عربي مريب وغربي مشبوه، لا
يتحدث إلا في اللحظة المناسبة
له وحسب علاقته بنظام الحكم
السوري.. هذا اليوم -الاثنين- لن
يختلف أبداً عن الأيام السابقة -
ستستمر حملات الإبادة بشراسة
وقوة. وسيكون الموعد.. مع حي
الباشورة - حي المرابط- باب
القبلي.
حي
الباشورة:
وهو
حي مرتفع ملاصق لمنطقة (الدباغة)..
وكان منذ اللحظات الأولى هدفاً
مباشراً للصواريخ تدك معظم
بيوته التي تنهار على جثث لا حصر
لها.
هذا
الحي لم ينج منه إلا القليل..
استطاعوا عبر مساعدة بعض الجنود
الهرب إلى أحياء أخرى. وهؤلاء
الجنود كانوا يفعلون ذلك خفية،
تحت تأثير الدوافع الإنسانية..
لكنهم لم يكونوا كثراً.
ما
حصل داخل هذا الحي.. سمعناه من
ألسنة الجنود.. يقول بعضهم وهو
يضحك:
"قتلنا
الجميع في ا(لباشورة) لم نترك
حتى الرضيع، لقد ساعدوگ—",®وgط·1xُِي§[آô(pغم ْ€ُںتلين ضد السلطة".
كان
الجنود يتحدثون بحرية ولا
مبالاة تصل إلى حد الهوس.. يقول
بعضهم بكل تبجح ووقاحة: "قتلنا
في (الباشورة) مئات الرجال
والنساء والأطفال.. وتركنا
الجثث للكلاب والقطط".
لكن
جنوداً آخرين كانوا يبدون مخاوف
وتحفظات واضحة، ويقولون بما
يشبه الإحساس بالعجز إزاء كل ما
يحدث: "نحن مأمورون.. يقتلوننا
إذا لم ننفذ".
سوق
المرابط:
الضباط
يمسحون خرائط المدينة.. ويريدون
قتلى من بقي من الأحياء.. إنه
ربيع الموت يزهر في كل شوارع
حماة دون استثناء. واليوم سيحل
البلاء على سوق المرابط .. هذا
الحي التجاري المكتظ بالبيوت
والسكان.. كما سيشهد هذا الحي
معركة ضارية بين عناصر سرايا
الدفاع وعناصر الوحدات الخاصة..
من أجل الوصول إلى سوق الصاغة
واحتلاله، هذا السوق الضيق الذي
يقع في منتصف سوق المرابط
تماماً..
لأيام
خلت استطاع سكان حي المرابط أن
يفتدوا أرواحهم بالممتلكات،
يقدمونها للجنود، فيتم العفو
عنهم.. لكن ذلك لم ينقذ الحي..
وحين وصل التعداد إليه.. خرج
رجاله من البيوت الآمنة على
أيدي الجند، وكان يصيبهم الضرب
والجلد.. ثم الإعدام. وقد بلغ عدد
الشهداء من عائلة واحدة في هذا
الحي هي عائلة "النوري"
أربعين شهيداً.
أما
ما تبقى من الرجال في الأحياء
المجاورة على قيد الحياة.. فقد
جمعوا أرتالاً أرتالاً.. وهددهم
الجنود بجعل الدبابات تمشي
فوقهم، إذا لم يرددوا الشعارات
التي تقدس حافظ أسد وشقيقه رفعت:
(لا
إله إلا الله حافظ ولي الله ...)
(قائدنا
من القرداحة.. بيعطي على الله
لاحة) بالعامية ويردد المساكين
والجنازير وأعقاب البنادق
تنهال على رؤوسهم.
ولا
تنتهي المسرحية عند هذا الحد. .
يساق الجميع بعد ذلك إلى معتقل
المدرسة الصناعية مشياً على
الأقدام وعلى طول الطريق عبر
شارع العلمين كانت أفواج
المعتقلين تهرول أمام الجند
حافية تتلقى الضربات بصمت وصبر..
وحين تصل إلى المعتقل.. فإن
أحداً لن يستطيع أن يتوقع خروج
رجل واحد.. فمعظم المعتقلين
كانوا يعدمون على الفور، وتلقى
جثثهم في حديقة المستشفى الوطني.
معركة
سوق الصاغة:
تستحق
هذه المعركة أن نتوقف عندها
قليلاً.. إنها تقدم فكرة واضحة
عن (الأخلاق الثورية) التي يتمتع
بها حراس النظام.
عومل
سوق الصاغة من بداية الأحداث
معاملة خاصة.. فقد طوّق بحراسة
مشددة ويبدو أن الأوامر كانت
صريحة إلى الجنود الصغار.. بعدم
الاقتراب من المخازن إلا بإشراف
الضباط الكبار المسؤولين.
بدأ
الصراع حقاً بداية الأحداث بين
ضباط الوحدات الخاصة وضباط
سرايا الدفاع حول أحقيّة كل من
الطرفين في نهب السوق.. وتطوّر
هذا الصراع يوم الاثنين إلى
صدام عنيف على مدخل السوق، وقد
استخدم الطرفان المتصارعان
السلاح الخفيف والثقيل. على أثر
ذلك حصلت مداخلات من قبل رجال
السلطة، وعلى أعلى المستويات،
تقرر بعدها أن يكون سوق الصاغة
من نصيب السرايا التابعين
مباشرة (لرفعت أسد) على أن يسمح
للوحدات أن تقوم بنفس اليوم
بتفتيش منطقة (المدينة) حيث يسكن
معظم الصاغة.. ولابدّ أن يكون
هؤلاء قد احتفظوا بشيء من الذهب
في بيوتهم، وكانت حجة ضباط
السرايا منطقية لأن جنودهم
كانوا مشغولين طيلة الأيام
الماضية بعمليات الإبادة، وما
تسنَّى لهم السرقة كما يجب،
بينما استغل ذلك جنود الوحدات
الخاصة، فسرقوا ونهبوا، وجمعوا
الذهب من معظم بيوت المدينة.
وفعلاً.. وضع ضباط السرايا
أيديهم على سوق الصاغة، وأقاموا
لهم مركزاً لتجميع المصوغات في
أحد المخازن.
بالطبع
جمع الذهب بكامله، وفتحت
الصناديق الحديدية بدقة
وعناية، وعلى أيدٍ مدربة.. وحين
فرغت المخازن تماماً، تركها
ضباط السرايا نظيفة إلا من
الصندوق الحديدي الفارغ الذي
احتفظ به ومعظم الصاغة فيما بعد..
للذكرى.
حي
باب القبلي والمدينة والجراجمة:
(باب
القبلي) من الأحياء المتطرفة عن
المدينة، وهو يشكل مع منطقة
الجراجمة حزاماً من الفقر، يحيط
بحماة من جهة الجنوب، بيوت هذه
الأحياء المتواضعة تؤوي في
داخلها لألوف من كادحي هذه
المدينة.
تلك
الأحياء التي تنتهي عملياً عند (الجامع
الكبير) أقدم جامع في سورية،
كانت هدفاً (منذ الساعات الأولى)
مركّزاً لهجوم الصواريخ،
فاحترقت بيوت، وهدمت بيوت..
فقراء
هذه الأحياء تعرضوا لكل أشكال
القمع.. الضرب والإهانات
والمداهمات.. والسرقات
والاعتقال..
يوم
الاثنين كان الموعد الذي لا
ينسى. اصطف الرجال بالعشرات..
على حائط الجامع الكبير ضربهم
الجند بأعقاب البنادق.. وقالوا
لهم بالحرف: (لن يكون هناك رب
يحميكم.. سنقتلكم الآن) وعلى باب
المسجد الكبير.. سقط الشهداء..
وامتزج التراب المبلل بماء
المطر بالدماء الطاهرة.. ظلت
الجثث أياماً.. ثم حملت
بالجرافات إلى الحفر..
كان
عدد شهداء حي باب القبلي فقط
أكثر من مئة شهيد.. بينهم
الأطفال الذين لم يتجاوزوا
الثانية عشرة من العمر..
أما
منطقة (المدينة) فتقع عند نهاية
حي باب القبلي.. وتبدأ اعتباراً
من الجامع الكبير باتجاه شارع
ابن رشد.. المتصل بحي الدباغة.
تتميز
هذه المنطقة بأنها المقر
الطبيعي والدائم لسكان المدينة
من المسيحيين ويعرف هذا الحي
بجماله لقربه من نهر العاصي،
وبالأبنية الفخمة فيه، مع
الكنيسة الجديدة التي تقوم في
منتصفه.
هذا
اليوم كان حي (المدينة) كباقي
الأحياء هدماً وسرقات وإعداماً
جماعياً أغار أولاً جنود
الوحدات الخاصة على بيوت الصاغة..
ضربوهم وأسالوا الدم من أجسادهم
بحثاً عن الذهب.. ثم جمعوا
الشباب من الحي.. ووجهوا إليهم
الإهانات والشتائم.. واتهموهم
بتأييد المعارضة ضد السلطة.. (الحجة
التي كانت تتذرع بها السلطة
لذبح المدينة)، بعد ذلك اختاروا
العناصر الشابة وأعدموهم على
الفور. لقد دفعت (حماة) الثمن
غالياً من دم رجالها المنتسبين
إلى كل الطوائف جزاء وعيها
الوطني.
*كاتب
سوري في المنفى
|