مجـزرة
حمـاة الكبرى - 3
الدكتور
خالد الأحمد*
الثلاثاء:
التاسع من شباط
طوال
الليل.. لم ينقطع إطلاق الصواريخ..
وكانت أصواتها تخرق الآذان
كسكين حادة.. تتوجه عبر الظلام
الدامس -وبصورة عشوائية- نحو بيت
تعيس سيحترق مع سكانه بعد لحظات.
وكنا نتوقع دائماً أن تكون في
عداد الأهداف الصاروخية. يطلع
الصباح عن يوم لا يقل سواداً عن
الليل.
البيوت
الحزينة الصامتة، سيكون أمامها
اليوم جولات جديدة.. أثناء
النهار خف إطلاق الصواريخ على
منطقة السوق.. واقتصر على الجانب
القديم - منطقة الحاضر.
في
هذا اليوم ستقوم السلطة بجمع
الجثث من الشوارع الرئيسية،
ودفنها على عجل وفعلاً نشطت
الجرافات، وانشغل العساكر بجر
الجثث.. التي خلفت وراءها
الألبسة المثقبة بالرصاص،
والأحذية المدماة، وبقايا
الشعر البشري الذي ظل ملتصقاً
بالأحجار والتراب.
عصر
هذا اليوم.. كانت أكثر الجثث
داخل الحفر الجماعية.. وأهيل
فوقها التراب.. فكان لابد أن
يحتفل جنود سرايا الدفاع على
طريقتهم.. وبدأ الاحتفال حوالي
الساعة الثالثة بعد الظهر.
على
طول الطريق الممتد من مدرسة (المرأة
العربية) حتى منطقة البياض (إحدى
المناطق الحديثة) كان الجنود
يدفعون أمامهم أعداداً غفيرة من
الأهالي، معظمهم من النساء
والأطفال، مع عدد من الرجال..
وكانت الجموع تردد الهتافات
بحياة حافظ أسد وشقيقه رفعت..
ومن لا يرفع حنجرته بالهتاف،
تعاجله أعقاب البنادق
والهراوات. طلب الجنود من
النسوة (وهم يقهقهون) الرقص.. ومن
لا تفعل فستنال جزاءها برصاصات
سريعة.
رقصت
النسوة وهن يبكين.. وسط ضحكات
عناصر الأخوين: أسد.. كان الرجال
قد حنوا رؤوسهم إلى الأرض.. لم
يستطع أحدهم أن يرى المشهد..
كان
الموت في تلك اللحظات أهون مما
يجري أمامهم.
الأربعاء:
العاشر من شباط
هدأ
إطلاق الصواريخ هذا الصباح،
واقتصر الأمر على الرصاص الذي
كان ينهمر بلا سبب واضح بين
دقيقة وأخرى.
منطقة
السوق ستكون اليوم أهدأ من أي
يوم سابق، أما الحي القديم من
المدينة، فلا يزال داخل جهنم،
ولا تزال الصواريخ تدك ما تبقى
من بيوت.. لقد بدا واضحاً أن
الأحياء المتقدمة من الجانب
القديم للمدينة، قد أصبحت
تلالاً من الركام المختلط بمئات
الجثث من المواطنين الأبرياء.
أحياء:
البارودية -الشمالية- الزنبقي...
صارت أثراً من الأطلال.
ووجه
المدينة الجغرافي والسكاني
يتغير.. والحقد على حماة إلى
مالا نهاية. هذا اليوم -وفي بعض
الشوارع الرئيسة -من منطقة
السوق يستطيع بعض المحاصرين
الخروج إلى مسافات محدودة.. لقد
سمح الجنود لسكان بعض الأحياء
بالتجول، يندفع الأهالي مباشرة
إلى أماكن الإعدام الجماعي،
لكنهم لا يجدون شيئاً.. يقلبون
الأحذية.. والألبسة المثقبة..
ومن خلالها يتعرفون على بعض
أهليهم.
كانت
الدماء بقعاً واسعة لم يستطع
المطر الهاطل منذ يومين أن يمحو
بعض آثارها.
كان
مشهد المدينة فظيعاً.. وخرافياً..
لا يُتصور إلا في الأحلام
والكوابيس. حماة في اليوم
الثامن للمجزرة.. ليس فيها سوى
الدمار والدم وسارقي الحياة.
الخميس:
الحادي عشر من شباط
بعد
تسعة أيام من الحصار والموت
والجوع، يصبح الخوف في نفوس
الأهالي الصابرين لا مبرر له.
لقد ألفوا الموت وألفهم.. لذلك
يخرجون من البيوت.. نساء
وأطفالاً يمشون في الشوارع، لا
يصدقون ما تراه عيونهم..
الجنود
ينظرون إلى الأهالي.. بلا مبالاة..
بل كانوا يشجعون البعض على
الذهاب إلى الأسواق لرؤية
الدمار الحقيقي.. كانوا لا يخفون
حماسهم لهذا الإنجاز الرائع (المدينة
المدمرة) الصورة الأكثر تعبيراً
عن حضارة (النظام الطائفي
الأسدي)..
كان
مشهد المدينة المذبوحة أقسى من
كل مشاهد الموت الجماعي..
الأسواق ركام من الأخشاب
والأحجار والحديد.. مع فتحات
سوداء كانت تعرف فيما مضى
بالدكاكين..
منظر
سوق الطويل يبعث على القشعريرة..
نفق مظلم دون نهاية، داخله
أكوام من الحجارة السوداء
المحترقة، تعلوها بقايا
البضائع المرمية في كل اتجاه..
حماة
في يومها الحادي عشر لا تختلف عن
صور المدن القديمة البائدة التي
كان يتركها الغزاة وراءهم أثراً
بعد عين. كأن زلزالاً قد هزّها
بقوّة، فقلب عاليها على سافلها..
أو كأن يداً شيطانية آثمة عصرت
قلب المدينة عصراً.. فانهار كل
شيء على كل شيء..
وبعد
اليوم الحادي عشر، يستطيع
الأهالي، وخلال ساعات محددة،
التجول لتأمين الحد الأدنى من
مستلزمات الحياة.. التي كانت تفد
على المدينة من القرى.. سيارات
الخبز والخضار..
مشهد
الأهالي الصامتين الباقين على
قيد الحياة.. كان يعبر عن عمق
المأساة الآنية والقادمة.. بعد
فقدان كل شيء..
الثاني
عشر من شباط:
هذا
اليوم وما تلاه من أيام المحنة..
لم يكن أخف وطأة، بالرغم من رفع
الحصار النسبي عن بعض الشوارع،
فقد بدأت ترد القصص تباعاً على
ألسنة الناس، وكان كل ما سمعناه
سابقاً، على هوله، لا يشكل إلا
جزءاً يسيراً من الحقيقة. بعض
القصص لا تستطيع الطاقة البشرية
احتمال تفاصيله، وبدأنا برحلة
تقصي حقائق جديدة.. وسمعنا للمرة
الأولى بمجزرة العميان.. بمجزرة
الأطفال، بمجزرة مفتي المدينة
وشيوخها، بمجزرة النساء في
الحمامات القديمة، بجرائم
المستشفى الوطني، بحكايا
المعتقلات مع عشرات القصص
المروعة التي يقف دونها العقل
البشري ذاهلاً مشدوهاً وعاجزاً
عن التصور والفهم، ناهيك عن
المنطقة القديمة التي لا تزال
جحيماً يشتعل.. وجثثاً تقذف تحت
الركام والرماد..
مأساة
الحي القديم لا يمكن حصرها ولا
رصد صورها، لأن شهودها يقبعون
اليوم في الحفر الجماعية، أو
تحت مياه نهر العاصي، ومع ذلك،
تسربت فيما بعد، بعض الحكايا
التي تعبر عن جانب يسير من مأساة
الحي القديم لا نستطيع سردها
لكثرتها وتداخلها حيث يشكل كل
إنسان هنالك مأساة متكاملة.
ننتهي
من يوميات الحزن، لنعرج على
تفصيلات بعض المجازر.
مجزرة
العميـان:
في
منطقة المحطة مدرسة للمكفوفين..
تعلّم القرآن واللغة العربية..
ويقوم على التدريس فيها شيوخ
عميان مقيمون.. أثناء الأحداث
داهم جنود سرايا الدفاع المدرسة..
لم يجدوا في داخلها سوى الشيوخ..
ومعظمهم ناهز الستين من العمر..
وبعضهم متزوج وعنده عدد من
الأولاد. لنستمع إلى التفاصيل.
يبدأ
الجنود بضرب الشيوخ بالجنازير..
فتسيل الدماء من رؤوسهم وأيديهم..
يتوسل المكفوفون.. لكن الجنود لن
يتوقفوا عن الضرب إلا بشروط.. ما
هي الشروط؟
يطلبون
من الشيوخ العميان أن يرقصوا..
يبكي هؤلاء.. لكن العساكر يشعلون
قطعة من الخشب ويضعونها على لحى
المكفوفين.. ويحترق الشعر
الأشيب في الوجوه الطاهرة،
ويهدد الجنود من جديد -إما الرقص
وإما الموت حرقاً.. فيرقص الشيوخ
العميان.. والجنود يضحكون.. وحين
تنتهي المسرحية.. يتقدم الجنود
بكل بساطة، ويشعلون النار في
ثياب المكفوفين، ثم يطلقون
الرصاص، ويتلوى الشهداء،
ويسقطون صرعى، لكن جثثهم تتابع
الاحتراق.
من
شهداء هذه المجزرة الشيخ شكيب
وهو كفيف ناهز الستين من عمره،
والشيخ أديب كيزاوي وعنده تسعة
من الأطفال، والشيخ أحمد
الشامية مقرئ القرآن الضرير.
مجـزرة
المفـتي والعلمـاء:
أما
علماء الدين فقد تبعوهم إلى
بيوتهم، واقتادوهم واحداً بعد
الآخر. بدؤوا أولاً بمفتي حماة
الشيخ بشير المراد، ويقع بيته
في منطقة باب البلد.. ذهب الجنود
إليه، وأخرجوه من داره مع
مجموعة من أقربائه.. وأخذوا
يضربونه.. ويـعفرون لحيته
بالتراب.. وقاموا بسحبه على
الأرض، ثم أحرقوه وهو حي.. (ذهب
من هذه العائلة تسعة شهداء كلهم
من علماء الدين).
-
أما الشيخ منير حوراني، فقد
اقتادوه مع ولديه.. وأعدموهم
جميعاً، وكانوا قد أعدموا ابنه
الشهيد رائد الحوراني قبل سنوات.
-
الشيخ عبد الله الحلاق: اقتادوه
من أحد الملاجئ وكان مع مجموعة
من أهل الحي.. طلب منه الجنود
ساخرين أن يتلو القرآن، عسى أن
يجد الله له مخرجاً! أطرق الشيخ
الجليل الشجاع، وقرأ بعض آيات
القرآن الكريم.. لكن الضابط
المسؤول سخر وقال له: "إن ربك
لن ينجدك، لقد حانت ساعتك،
وسنضعك في جهنم" اقتادوه إلى
سوق الحدادين، وسكبوا عليه
برميل المازوت، وأحرقوه.. نعم..
أحرقوا هذا الشيخ الوطني الجليل
ابن الثمانين عاماًَ دون أن
يتحرك فيهم عصب، أو يرفّ لهم جفن.
الشيخ
عبد الرحمن الخليل: وهو عالم
ضرير.. ناهز الثمانين من العمر.
عرف منذ شبابه بمواقفه النضالية
ضد كل أشكال التسلط السياسي
والاجتماعي. هذا الشيخ الفاني
يسكن في حي الحاضر، وقد احترق
منزله أثناء القصف الصاروخي..
يقول شهود العيان من جيرانه
الذين أخذوا بالهرب حين بدأت
البيوت كلها تشتعل: إنه أخذ
يستنجد ويطلب من الجنود الذين
حوله أن يساعدوه على الخروج..
لكنهم ألقوا على المنزل قنبلة
حارقة، فتهاوى البيت كلياً..
واحترق الشيخ داخله.
نترك
هذه الأحداث دون تعليق..
فالكلمات واللغة عاجزة عن
الوصول إلى التعبير المناسب.
مجـزرة
الأطفـال:
في
نهاية شارع الثامن من آذار، حيث
يقوم تقاطع مع سوق الطويل، يقع
مسجد يسمى (الجامع الجديد) في
داخله وقعت مجزرة رهيبة بعد
أربعة عشر يوماً من الأحداث..
وكان الناس قد بدؤوا يخرجون
قليلاً إلى الشوارع. طلب الجنود
من الأهالي التوجه نحو سيارات
الخبز في طرف الشارع.. أسرع
الأطفال، وكانوا بالعشرات،
حملوا الخبز وقفلوا عائدين..
اعترضهم الجنود.. وطلبوا إليهم
الدخول إلى الجامع الجديد،
وهناك فتحوا عليهم النار.. وسقطت
الأجساد الطرية، وسالت الدماء
الطاهرة على الخبز الذي كان لا
يزال في الأيدي الصغيرة.
مجـزرة
النسـاء في الحمـامـات
القـديـمة:
القصص
هناك لا تصدق.. يرويها الناس
بجنون وذهول.. كان الجنود يدخلون
إلى الملاجئ، وينتقون الفتيات
الصغيرات، ولا يعرف الأهل بعد
ذلك عنهن شيئاً.
في
حمام الأسعدية الكائن في منتصف
سوق الطويل، وجدت جثث كثيرة
لفتيات معتدى عليهن ومقتولات.
مجـازر
المستشفى الـوطني:
وهذه
المجازر فاقت الوصف والتصور..
داخل
المستشفى كانت واحدة من فرق
الموت التابعة لسرايا الدفاع،
قد تمركزت بصورة دائمة طوال
الأحداث، وكان عملها أن تجهز
على الجرحى من الأهالي. يقول
شهود العيان: كان الوضع في داخل
المستشفى رهيباً فظيعاً،
القتلى بالعشرات يملأون
الممرات والحديقة الخارجية..
وفي بعض الأماكن تكدست الجثث
فوق بعضها، وبدأت تفوح منها
روائح الأجساد الميتة المتفسخة..
معظم هؤلاء القتلى من الذين كان
يرسلهم المعتقل الملاصق
للمستشفى في المدرسة الصناعية..
حيث يموت كل يوم العشرات.
أكثر
الجثث كانت مشوهة أو مقطعة أو
مهروسة أحياناً، وكان من الصعب
التعرف على أي واحدة منها. تجمع
كل يوم أكوام الجثث في سيارات
النفايات، وتنقلها الشاحنات
إلى الحفر الجماعية.
أحياناً
كان يفد إلى المستشفى بعض
الجرحى.. هؤلاء كانوا لا ينتظرون
طويلاً.. فإن فرقة الموت تباشر
عملها بهمة ونشاط.. وبالسكاكين
والسواطير تعمد إلى تقطيع الجسد
الجريح.
في
إحدى المرات.. قتلوا جريحاً..
وأخرج أحد الجنود قلبه.. هذه
القصة ليست خرافية.. والشهيد
الذي أخرجوا قلبه يدعى (سمير
قنوت) من حي الحاضر.
قصص
المستشفى الوطني كثيرة جداً..
حيث تحول هذا المكان إلى مسلخ
بشري لا مثيل له في التاريخ
القديم والمعاصر.
جـرائم
المعتقـلات:
الهمجية
الجديدة تتفوق على الهمجية
القديمة في فن الاعتقال
والتعذيب حتى الموت حرقاً أو
جوعاً أو تقطيعاً بالسواطير
والسكاكين.
المعتقلات
في حماة أثناء الأحداث كثيرة
متعددة، لكن أشهرها معتقل
المدرسة الصناعية.. هذا المعتقل
حشدت السلطة في داخله الآلاف..
وتكدست الأجساد البشرية
المنهكة داخل الغرف الواسعة
الباردة.
كان
المعتقلون يظلون أياماً بلا
طعام.. يدخل عليهم الجنود بعد
يومين.. بشيء من الماء والخبز
اليابس.. وينثرون ذلك أمامهم كما
تطعم الكلاب والقطط.
ويخضع
المعتقلون إلى عمليات تحقيق
يتخللها تعذيب وحشي على أيدي
الجنود والضباط.. وغالباً ما
تنتهي هذه التحقيقات بالسجناء،
وقد تحول معظمهم إلى جثث مشوهة
ومضروبة بالسكاكين أو البلطات،
وبعضهم هرست رؤوسهم بملزمة
الحدادين هرساً.
بعض
السجناء كان يحاول الانتحار
تخلصاً من العذاب النفسي
والجسدي الطويل.. وبعض السجناء
كان يطلب من الجنود أن ينفذوا
حكم الإعدام فيه على الفور،
وسريعاً ما يلبون الطلب.
قصص
لا تصدق يرويها بعض الناجين من
المعتقلات عن صورة جهنم نظام
أسد القابعة في المدرسة
الصناعية.
-
في معتقلات أخرى كانت الأمور
أدهى.. ففي معمل البورسلان وتحت
إمرة الجيش مباشرة اقتاد الجنود
الآلاف من الرجال.. تركوهم في
العراء وتحت المطر والبرد بلا
طعام.. وكالعادة كانت التحقيقات
تنتهي بجثث جديدة.. لا تقذف هذه
المرة في حديقة المستشفى الوطني..
بل تتلقفها الأفران ذات الحرارة
المرتفعة جداً في معمل
البورسلان، داخلها أُحرقت مئات
الجثث.. وهكذا يتكشف علم الجريمة
عن آخر منجزات الحضارة (الأسدية).
ومن معتقل البورسلان نقدم صورة
واحدة معبرة (مصرع الدكتور حكمت
الخاني) وقد تم على يد الجنود
وأمام مجموع المعتقلين.
كان
الجنود قد جمعوا المعتقلين
أرتالاً.. وبدؤوا يسألون عن بعض
الأسماء.. وكان الطبيب الشهيد مع
السجناء..
عرف
الجند أن من بين معتقليهم رجلاً
طبيباً، وهذه صفة يجب أن تأخذ
حقها من العقاب في عرف السلطة
الغاشمة.
سحب
الجنود الدكتور الخاني ورموه
أرضاً.. وبدؤوا بضربه وركله..
يقول أحد المعتقلين: فجأة رأيت
الدكتور الخاني يتدحرج كالكرة
على الأرض، وتنفر الدماء من
رأسه. تقدم الجلادون بعد ذلك
وبدؤوا بضربه بالبلطات وهو
يتلوى، ثم صاح أحدهم: أنت طبيب
عيون.. سنقتلع عينيك.. وفعلاً.. تم
اقتلاع عيني الدكتور على مرأى
من المعتقلين وبقايا الحياة لا
تزال تسري في جسده ثم سحبت الجثة
ورميت يومين على باب المستشفى
الوطني. هذه عينة واحدة من جرائم
المعتقلات وهي غنية عن التعليق.
بعد
ذلك، هل اكتفت السلطة؟.. لنلق
أولاً نظرة على واقع المدينة
بعد أسابيع ثلاثة من بداية
المجزرة، حتى العشرين من شباط
كانت التقديرات الأولية على
النحو التالي:
عدد
القتلى يقارب الثلاثين ألفاً..
نسبة الخراب الكامل حيث تحولت
الأحياء إلى ساحات ترابية بلغت
40% من مساحة المدينة.
الحياة
الاقتصادية معدومة كلياً بعد
التخريب الكامل لجميع الأسواق
ونهبها وحرقها فضلاً عن استشهاد
أو اختفاء العدد الأكبر من
التجار أصحاب المحلات التجارية.
الوضع
السكاني رهيب.. وتدل الإحصاءات
أن الفاجعة كانت من الشمول بحيث
لم تبق عائلة واحدة في المدينة
لم تفقد بعض رجالها أو كلهم
أحياناً..
ماذا
يريد مصاصو الدماء أكثر من ذلك؟..
سنترك الإجابة لأحد كبارهم الذي
لم تروِ دماء الثلاثين ألفاً
عطشه.
في
الثاني والعشرين من شباط
حدثت
الواقعة التالية، وهي باتت
معروفة للجميع يتناقلها الجنود
والأهالي على السواء.. يزور رفعت
أسد المدينة ويحوم فوقها بطائرة
هيلوكبتر، حتى يتأكد بنفسه من
حجم الدمار.. بعد ذلك يعقد
اجتماعاً في المطار مع كبار
ضباط سرايا الدفاع، ويسألهم عن
التقديرات الأولية لعدد القتلى.
يقولون: عشرين ألفاً، لكن
الجلاد لا تسره الإجابة فيقول:
هذا الرقم قليل بالقياس إلى
تعداد سكان المدينة البالغ أكثر
من مئتي ألف.. يجب أن يرتفع الرقم..
يجيب أحد الضباط: لقد اعتقلنا
معظم الرجال الباقين،
واحتجزناهم في المعتقلات، لكن
عدداً لا بأس به من أبناء
المدينة، استطاع الهرب أثناء
الأحداث باتجاه القرى.
هنا
يطلب (رفعت أسد) بالتحديد أن
يوعز الجيش المتواجد في حماة
إلى السكان أن الأمور قد انتهت
عند هذا الحد، وأن منع التجول
سيرفع عن المدينة اعتباراً من
نهاية الأسبوع.. وفعلاً بدأت في
اليوم التالي (تحديداً في
الثالث والعشرين من شباط مساء
الثلاثاء) سيارات الجيش تذيع
بمكبرات الصوت انتهاء منع
التجول اعتباراً من صباح
الأربعاء (الرابع والعشرين من
شباط) شاع الخبر بسرعة، وعاد عدد
كبير من المهاجرين إلى حماة
مساء يوم الخميس (الخامس
والعشرين من شباط) إلى بيوتهم
وممتلكاتهم.. وكانت الواقعة
الرهيبة يوم الجمعة السادس
والعشرين من شباط.
مجزرة
السادس والعشرين من شباط (الجمعة
الحزينة):
منذ
الصباح تهدر شاحنات الجيش على
الطرقات وتظهر حركة غير عادية
من تنقلات الجنود الذين انسحبوا
وتمركزوا في معظم الأبنية
المرتفعة. بعض الناس ممن وفرتهم
المجزرة كانوا في الشوارع أو
على أبواب البيوت.. وكان الجميع
يتناقلون الأخبار بذهول. في
أزقة جانبية تكاثر تجمع الأهالي
أطفالاً ونساء وعدداً من الرجال
الناجين، وهذا طبيعي بعد السماح
بالتجول وبعد حصار دام أسابيع
ثلاثة. يبدأ عمل الأهالي
ويقودون ما تيسر منهم شيوخاً
وأطفالاً ورجالاً خرجوا لتوّهم
من المعتقلات، وحين لا يكون
العدد وفيراً يقرعون الأبواب (دون
تمييز) ويطلبون المزيد ولم يأت
عصر هذا اليوم إلا والشاحنات قد
امتلأت بما يقارب الثلاثة آلاف
من المعتقلين بينهم رجال شيوخ
تجاوز بعضهم الثمانين عاماً..
وكان ظن الجميع أن العملية
وقائية لامتصاص ردات الفعل على
إثر فتح التجول.. لكن الشاحنات
توجهت إلى مقابر (سريحين) وداخل
عشرات الحفر المتسعة أُجبر
المعتقلون على الركوع وانهمر
عليهم الجحيم والموت دفعة واحدة
من رصاص المئات من جنود سرايا
الدفاع المدربين جيداً على
معالجة حالات كهذه، وانتهى يوم
السادس والعشرين من شباط الأسود
وقد ارتفع عدد الشهداء في
المدينة إلى ما يقارب الخمسة
والعشرين ألفاً من الشهداء، لم
ينج من المذبحة سوى رجل واحد.
حين انهالت الجثث عليه.. انتظر
هبوط الظلام وغادر المقبرة عبر
البساتين والقرى وكان هو الشاهد
الوحيد الباقي على قيد الحياة
الذي روى حقيقة المذبحة على
النحو الذي وصفناه آنفاً.
من
شهداء هذه المذبحة: عبد الرحمن
نعيمي.. وهو شاعر وله قصائد
متعددة في مديح حافظ أسد لم
تنفعه يوم المذبحة. المحامي
تايه جمعة وهو من الأعضاء
البارزين في الحزب الشيوعي
التابع لخالد بكداش. المواطن (عيسى
عرجة) مسيحي ويبلغ الثمانين من
العمر. (منقذ ريس) وعمره أحد عشر
عاماً.
بعـد
شـــباط:
وينتهي
شباط.. لكن السلطة لم تنته بعد..
وطوال شهر آذار يمتد العقاب
ليتناول هذه المرة حجارة
المدينة وقبورها وآثارها
وجوامعها وكنائسها.. وهكذا
يرتدي الحقد الطائفي ثوباً
جديداً. محمد ياسمين واحد من
أبرز ضباط سرايا الدفاع عينته
السلطة خلال آذار حاكماً عرفياً
على المدينة، لكن المساجد
بمآذنها تحرك أحقاد الوالغين
بالدم.. ويصدر ياسمين أوامره..
يجب أن تهدم كل الجوامع.. وتبدأ
المعركة مع الحجارة.. في كل يوم
تتكفل أطنان من الديناميت بقتل
المقدسات والتراث والتاريخ..
بدؤوا بالجامع الكبير وعمره
آلاف السنين.. ظلوا يومين يعملون
حتى استطاعوا تقويض أركانه..
جامع السلطان لم يستطيعوا هدمه
كلياً، فضربوا المئذنة والسقوف
واتكأت الحجارة البيضاء
الحزينة على بعضها وانتثرت
المصاحف بينها واختلطت الأوراق
المقدسة بالركام، وعلى مدى
أسبوع كانت مساجد المدينة
تلالاً من الحجارة والإسمنت
والتراب، لكن الحقد مازال يشتعل
في الصدور وسيمتد إلى الكنائس..
سرقت الأيقونات المقدسة
والثريات والتحف منها أولاً.. ثم
جاء دور التدمير. تحولت الكنائس
إلى خراب ودمار.
الأبنية
القديمة في حي الكيلانية الأثري..
وفي منطقة الحاضر.. تحولت بفعل
التلغيم والتفجير إلى فجوات
ترابية هائلة.
سوق
الطويل بعد حرقه قاموا بهدمه
كلياً.. وأصبح اليوم نفقاً
طويلاً من الحجارة والركام
والجدران المهشمة المتداعية،
حتى المقابر نالت نصيبها من
الحقد الطائفي، وعلى مدى أسبوع
تكفلت الجرافات والمداحل
بتسويتها مع الأرض.. وهكذا استوى
في المدينة الشهيدة الأحياء
والأموات.
مـجزرة
حـماة.. لماذا؟
الآن
وبعد أن رأينا ما حلّ بهذه
المدينة المغدورة من فظائع
وأهوال، ينتصب السؤال: مجزرة
حماة.. لماذا؟ لماذا سوريا،
ولماذا حماة بالذات؟
إن
الجواب على هذا التساؤل يكشف كل
أبعاد الحقيقة. لنترك النظام
أولاً يقدم إجابته.. لنترك
المجرم يبرر للآخرين جريمته: في
رواية لمجلة الطليعة الصادرة في
باريس نقلاً عن مسؤول سوري رسمي
"أن حوالي 200 مسلح نزلوا في
ليل الثاني من شباط (فبراير) عام
1982 واحتلوا المدينة وصفوا حوالي
90 شخصاً من أتباع النظام،
وسيطروا على المراكز الهامة،
وأعلنوا العصيان المسلح، عند
ذلك اضطرت السلطة السورية
لاتخاذ القرار (بتنظيف) المدينة
منهم، وإعادة الأمن إلى المدينة".
انتهت
الرواية الرسمية السورية، من
فمك ندينك! إن النظام الأسدي
بعرضه للمسألة بهذه الطريقة
يدين نفسه: إذا كان مئتا شخص قد
تمردوا على السلطة، فلماذا قتلت
الدولة ثلاثين ألف إنسان؟
ولماذا هدمت أكثر من ثلث
المدينة؟
لنفترض
جدلاً أن مئتي مسلح في مدينة
تعدادها ربع مليون، أعلنوا
عصياناً مسلحاً، فهل يحق للحاكم
أن يدمر المدينة بأهلها من
النساء والأطفال، أي أن يحمّل
"ربع مليون إنسان" مسؤولية
مئتين فقط!؟
-
ألم يكن بالإمكان أي حل آخر؟ غير
قصف المدينة بالطيران ورجمها
بالصواريخ؟!
-
أي حاكم في الدنيا مجنون ينتفض
ضده مئتا إنسان، فبدل أن
يلاحقهم أو يحاكمهم أو يفاوضهم،
يضرب المدينة التي هم منها
بالصواريخ والمدفعية
والدبابات، فيقتل الأطفال
والنساء والشيوخ والمدنيين
الآمنين، ويهدم المنازل على
رؤوس أصحابها؟ وتكون النتيجة
ثلاثين ألف إنسان ما بين قتيل و..
ملحوظة:
في »حرب« حماة لم يكن هنالك
جرحى، لأن قوات أسد كانت تلاحق
الجرحى حتى المستشفيات وتجهز
عليهم.
(يجب
أن نثمن معاً هذا الوجه الحضاري
الجديد!!!).
مرة
أخرى نعود إلى سؤالنا الحار
والمدهش: لماذا؟
لقد
أراد النظام على ما يبدو أن يعطي
درساً بليغاً لكل المدن السورية
لكي تتذكر دائماً وأبداً أنها
إذا ما فكرت يوماً بأي تحرك ضد
النظام فستلقى نفس المصير. ومع
هذا وذاك يبقى التساؤل المرير:
لماذا؟ معلقاً يلح في طلب
الجواب.
من
أجل ذلك لابد من وضع مأساة حماة
في سياقها السياسي والتاريخي،
لابد من الإمساك بالبعد
التاريخي -أجل- لأن الحدث لم
يخلق من فراغ، ولم يهبط فجأة من
سابع سماء، وإنما سبقته أحداث
متصلة ببعضها البعض.. والحاضر
الدامي هذا هو من نتائج الماضي
وعصارته..
هذا الماضي لا يمضي أبداً،
بل يستمر فينا وفي دورة الحياة..
يلقي بظله الكثيف على الحاضر
ليصوغ معه آفاق المستقبل.
أما
منظمة العفو الدولية فقد ذكرت
في تقريرها الذي أرسلته إلى
حافظ أسد عام 1983:
"تقول
الأنباء التي تلقتها منظمة
العفو الدولية -وقد حملت الصحف
بعض تلك الأنباء- أنه في يوم 2
شباط (فبراير) 1982 بعد الغروب
بقليل حاول بعض الجنود السوريين
النظاميين مهاجمة أحد البيوت في
المنطقة الغربية القديمة من
مدينة حماة، وحاصرت قوة عددها 90
جندياً على رأسهم ضابط (ملازم)
بيتاً يشتبه أنه يحتوي على
مستودع كبير للأسلحة، يمتلكه
الإخوان المسلمون، وعند بدء
الهجوم تمكن المجاهدون
المسلمون من التربص للجنود
والقبض عليهم أو قتلهم بعد
معركة دارت بينهم، ثم نزعوا
عنهم ملابسهم العسكرية، وتحصّن
الثوار على أسطح المنازل
والأبراج.
وفي
الصباح التالي أعلنت مكبرات
الصوت على سكان حماة من مآذن
المساجد أنه قد تم تحرير
المدينة، وسيتبع هذا تحرير بقية
البلاد" واحتل الثوار دور
الحكومة، ومراكز قوات الأمن،
ونهبوا الأسلحة، وبدأوا في
إعدام موظفي الحكومة ومن
تعاونوا معهم، ويقال أن عدد
القتلى على أيدي المتظاهرين ضد
الحكومة في أول يوم كان 50 شخصاً
على الأقل.
فما
كان من الحكومة إلا أن طوقت
المدينة، وأرسلت عدداً من
الجنود يتراوح بين ستة آلاف
وثمانية آلاف جندي بينهم وحدات
من اللواء 21 الخاصة. وفي يوم 11
شباط (فبراير) عرض التلفزيون
السوري فيلماً يمثل مستودع
الأسلحة التي قيل إنها وجدت في
حماة، منها 500 بندقية أمريكية و40
قاذفة صواريخ تحمل على الأكتاف
مع صواريخ تخترق الفولاذ، وكذلك
ترسانة ضخمة للسلاح والذخيرة.
ويقول
بعض المراقبين: إن الأحياء
القديمة من المدينة ضربت
بالقنابل من الجو لتسهيل دخول
القوات العسكرية والدبابات
خلال الطرقات الضيقة، مثل حي (الحاضر)
الذي محقت الدبابات بيوته خلال
الأيام الأربعة الأولى من
القتال، وفي 15 شباط (فبراير) بعد
عدة أيام من قذف القنابل الشديد
أعلن وزير الدفاع السوري اللواء
مصطفى طلاس أن الفتنة قد أخمدت،
غير أن المدينة بقيت محاصرة
ومعزولة، واستمر التفتيش
والاعتقال على نطاق واسع خلال
الأسبوعين التاليين، وانتشرت
أخبار متضاربة عن الفظائع التي
ارتكبتها قوات الأمن، وقتل
السكان الأبرياء بالجملة، وليس
من السهل معرفة ما حدث على وجه
التحديد، غير أن منظمة العفو
الدولية قد سمعت عن إعدام جماعي
لسبعين شخصاًَ خارج المستشفى
المدني يوم 19 شباط (فبراير) وأن
سكان (الحاضر) لقوا حتفهم على
أيدي سرايا الدفاع في نفس
اليوم، وأن أوعية معبأة بغاز
السيانيد قد ربطت بأنابيب من
المطاط في مداخل المباني التي
يظن أنها مساكن المتمردين. ثم
فتحت فيها وقضت على جميع
سكانها، وأن الناس جمعوا في
المطار الحربي وملعب المدينة
وفي الثكنات العسكرية وتركوا في
العراء أياماً بدون مأوى ولا
طعام.
إن
أحداث القتل والإعدام المجاوزة
للقانون التي أوردناها هنا هي
مخالفة خطيرة للحق في الحياة،
ذلك الحق المقدس الذي نص عليه
الإعلان العالمي لحقوق
الإنسان، والاتفاقية الدولية
بشأن الحقوق المدنية والسياسية
(المادة 16):
"لكل
إنسان الحق الطبيعي في الحياة،
ويحمي القانون هذا الحق، ولا
يجوز حرمان أي فرد من حياته بشكل
تعسفي".
ولانريد
إلا أن يقدم هؤلاء المجرمين
الذين ارتكبوا هذه المجزرة إلى
قضاء عادل ، في الدنيا ، كي
يعتبر البشر ... وفي الآخرة
سيقدمون إلى أحكم الحاكمين ...
ومصيرهم جهنم وبئس المصير ...
*كاتب
سوري في المنفى
|