الرئيسة \  كتب  \  أكثرهن بركة

أكثرهن بركة

27.06.2013
زهير سالم




في الإصلاح
ثمة محوران متضادان متقابلان في حياة الناس , يسعى كل منهما إلى الاستئثار بهذه الحياة وصياغتها وفق تصوراته ورؤاه . ولنقل بشكل أدق إلى تغييرها إلى ما يظنه الأفضل .
 
      وأحد هذين المحورين يردف أهواء الناس ويمتطي أرجاء شهواتهم , فيندفع بهم وبها إلى قرارة البهيمة , حيث منبع الغرائز , ومستنقع الطينة الحيوانية , والقائمون على هذا المحور , وللحق نقول , فريقان ؛ فريق مضلل مخدوع يفسد وهو يظن نفسه مصلحاً , يسيء وهو يحسب أن يحسن ؛ وفريق مغضوب عليه , يملأ نفسه ووجدانه الحقد على الإنسانية , فيدفعها إلى ما فيه حتفها وهلاكها , ليتشفى بها , أو ليشبع نهمة سوء في نفسه السوداء . وكلا الفريقين من هؤلاء هم دعاة الفساد في الأرض , وأنصاره , يلتبسون دوماً بلباس النصح , ويبهرجون دعوتهم بزخرف القول , فيسمون فسادهم , تطويراً وتحديثاً , وتحرراً وتقدماً ( وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون , ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون ) .
 
     أما المحور الآخر فيختلف في موقفه عن المحور الأول من وجهتين : الأولى ؛ أنه لا يستمد رؤيته ومعاييره وقيمه , من ذات نفسه , ولا مما ينتجه فكره أو عقله , ولكن لن يستمدها من مصدر علوي ثبت له يقيناً صدق ما جاء عنه . فحياة الإنسان يجب أن تصاغ على نحو ما أراد رب الناس , وخالقهم الرحيم بهم , العليم بما يصلحهم .. ويؤمن هذا الفريق أنه لا يجوز لأهواء الناس وعواطفهم , أن تتلاعب بهذه القيم الثابتة , تغييراً وحذفاً وإضافة . وثبات هذه القيم والمعايير , لا يعني من جهة أخرى جمودها عند قوالب لا تتعداها , بل إنها جوهر نامٍ له حقيقته الثابتة , وصورته المرنة القابلة لتلبية حاجات الناس برفق ولين وسمو وجمال ..
 
والمفارقة الثانية في موقف المصلحين والمفسدين ؛ أن جهد أصحاب الإصلاح يأتي غالباً معاكساً لرغبات الناس وأهوائهم ... فإذا كان الفريق الآخر . يسعى دائماً إلى دفع العربة إلى قرارة الوادي , فإن على هذا الفريق أن يرتقي بها قمة الجبل , ومن هنا يظهر فارق الجهد , وفاقر الثمرة بين عمل الفريقين .
 
إن المصلحين والمفسدين يسعون جميعاً إلى تغيير أوضاع الناس , وقيمهم ومعايير حياتهم , وبينما يسعى المفسدون إلى التغيير نحو الأسوأ على نحو ما فعل مزدك , وماني , وحمدان قرمط , وكارل ماركس , وفرويد ... يسعى المصلحون إلى التغيير نحو الأفضل على نحو ما فعل إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد .. صلوات الله عليهم أجمعين ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين ..
***
 
وتختلف أساليب التغيير بالنسبة للفريقين , وإذا آثرنا في هذا المقام , أن نلتصق بدعاة الإصلاح , والتغيير نحو الأسمى , سنجد أمام هذا الفريق , كما أمام غيره , أسلوبين مطروحين لإحداث التغيير ...
 
     التغيير البطيء المتدرج ويطلق عليه اصطلاحاً اسم ( الإصلاح ) والتغيير الجذري السريع ويطلق عليه اصطلاحاً اسم ( الثورة ) . وتدور معارك كلامية حامية بين دعاة الإصلاح ودعاة الثورة , وكثيراً ما يختلف الناس من هذا الفريق على بعض القضايا الجزئية ويكون خلافهم في الأصل على اختيار أحد الأسلوبين , ويأتي خلافهم في الجزئيات تابعاً ... فماذا يقول انصار كل أسلوب ...
 
دعاة الإصلاح ينادون بالرفق واللين والاناة والتؤدة .. يحفظون قوله تعالى : ( اذهبا إلى فرعون إنه طغى , فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى .. ) ويقفون عنده طويلاً . يروون أيضاً ( ما كان الرفق في شيء إلا زانه , ولم ينزع من شيء إلا شانه ) ويروون ( من يحرم الرفق فقد حرم الخير كله .. ) . وقاعدتهم الذهبية ( ما لا يدرك كله لا يترك جله .. ) ويضيفون ( لأن تضيء شمعة خير من أن تلعن الظلام .. ) . ويشيرون إلى ما في منهج دعاة الثورة من حدة وعنف وقصور , فهؤلاء , في نظر دعاة الإصلاح , مضيعون للفرص , يفوتون القليل طمعاً بالكثير , فيبقون بلا كثير ولا قليل . ثم ما أكثر ما يهدرون الجهود , ويفرطون بالطاقات , في تحرك غير مسدد ولا محكم ولا يفوتهم هنا أن يلقوا إلى دعاة الثورة بالمأثور : " إن المنبت لا أرضاً قطع ولا  ظهراً أبقى .. " وأساس موقف هؤلاء الإصلاحيين الرضى بالتقدم ولو كان قليلاً , وغض الطرف عن الكثير مما حولهم وإن كان مزعجاً مقلقاً , ومد الخطوة على قدر الوسع , والاطمئنان إلى منهج السير ... دون التعلق كثيراً بالنتائج فعليهم أن يبذلوا جهدهم , وليس عليهم أن تتم المقاصد ... ومدار حركتهم وضابطها الأساسي " سددوا وقاربوا .. " .
 
أما دعاة الثورة فيحترقون أمام تلك الطروح الهادئة الباردة .. وأول ما يحفظون , في هذا المقام , " سيد الشهداء حمزة , ورجل قام إلى إمام جائر أمره ونهاه فقتله .." , ( خذوا الإسلام جملة أو دعوه جملة ) . إن المناهج الترقيعية مرفوضة , وإن على المسلم أن يقيم بنيانه على أساس متين ركين يكون بلا دَخَل , ولا شوائب , ولا كدر ... ( لا لقاء في نصف الطريق ... ) ويلحظ هؤلاء ما يحدث في حياة الناس من تغيير بجهود القوى المناقضة , أو بجهود دعاة الفساد فيضحكون من دعاة الإصلاح , ويلقون في وجوههم قول الشاعر ...
     متى يبلغ البنيان يوماً تمامه          إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم
 
     ويضيفون : إن الجهد الذي يبذل لإصلاح جزيئات تفصيلية هنا وهناك , يمكن أن يضم وينظم ليقوم بالإصلاح الشامل , ويحقق الهدف المنشود .
***
 
وبين دعاة ( الإصلاح ) ودعاة ( الثورة ) يبقى لنا الإسلام الذي تعلق كل فريق بجانب من نصوصه , ويبقى وجه الحق في هذا المقام مذخوراً بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :
     " من رأى منكم منكراً فليغيره ... بيده , فإن لم يستطع فبلسانه , فإن لم يستطع فبقلبه , وذلك أضعف الإيمان .. " .
 
     وتبقى القدرة أساس التغيير , ومعقده ومناطه ..
***
 
ويأت هذا العمل الأدبي المتواضع قطرة في بحر الحياء اللجي ؛ قد يرتاح إليه قوام , وقد يأسف على الجهد الذي بُل فيه آخرون .. إن الذي يحمل إلى صاحبه الرضى , أن يكون نسمة رضية على شراع التغيير وحسبنا قول نبي الله شعيب عليه السلام :
     ( إن أريد لا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله ... عليه توكلت وإليه أنيب )
17 شعبان 1407هـ
المؤلف
 
المشهد الأول
 
     " في قصر عبد الملك . غرفة مترفة مفروشة فرشاً عربياً أنيقاً , في صدرها يجلس عبد الملك بن مروان .. رجل وسيم الطليعة عظيم الرأس , عليه أبهة الملك , وحوله بعض خاصته يتحدثون في شؤون الخلافة وأمر ابن الزبير .. " .
 
عبد الملك " إلى أحد جلسائه " : متى وصولك من العراق يا أبا مالك ؟
 
أبو مالك :أمس ليلاً يا أمير المؤمنين .
 
عبدالملك : وما أخبار العراق وأخبار جندنا يا أبا مالك ؟
 
أبو مالك : لقد قوي أمر مصعب بن الزبير يا امير المؤمنين , ولقد انضمت إليه سُلَيْم وعامر بن قيس .. بل إن قيساً كلها تكاد تكون معه ..
 
عبد الملك : من لي بزفر بن الحارث ؟ من لي بجحاف ؟ هل يمكن أن نستميلهم يا أبا مالك ؟!
 
أبو مالك : يا أمير المؤمنين ..! إن مصعباً أبصر من أخيه عبد الله في سياسة الملك .. إنه ينفق على أصحابه من غير إقتار ..!
 
أبو عامر : دعك من هذا يا أبا مالك .. إن ابن الزبير أتقى وأروع من أن يبذر مال المسلمين في شراء المؤيدين .. إن عبد الله يريد أن يحمل الأمة من جديد على سيرة الراشدين .. إنه يريد أن يعلّم الناس أنه ليس لهم في هذا المال إلا حق واحد ...
 
عبدالملك : أراك تميل إلى ابن الزبير يا أبا عامر ..!
 
أبو عامر : يا أمير المؤمنين .. أنت تعلم أنني لا أستطيع السكوت عن حق .. وكلنا نعلم – يا أمير المؤمنين – أن الراشدين لم يكونوا يدفعون درهماً في غير وجهه .. وأننا إنما غامرنا بذلك في سبيل هذه الدنيا ..!
 
عبدالملك : وهل يطيق الناس في هذا الزمان سيرة الراشدين يا أبا عامر ؟!
 
أبو عامر " بهدوء " : والله يا أمير المؤمنين إن الناس ليفرحون بذلك ويستبشرون به .. ولكن الذين يأبونه هم المنتفعون من أصحاب المراكز .. الذين يريدون لأنفسهم نصيباً أكبر من بيت المال ... وهل يتضخم نصيبهم إلا على حساب الضعفاء والفقراء ؟!..
 
عبد الملك : ويحك يا أبا عامر ..! عهدي بك محباً للمال حريصاً عليه ..
 
أبو عامر : عندما تعطيني – يا أمير المؤمنين – فوق حقي من هذا المال , ألست تقتطع ذلك من بيت المال ؟!
 
عبد الملك : بلى ...
 
أبو عامر : فلنعلم جميعاً أن ما نصيبه من بيت مال المسلمين فوق حقوقنا , إنما هو من أموال اليتامى والآرامل والمساكين الذين لا يأبه بهم مصعب ولا أمير المؤمنين ...
 
أبو مالك : هل كان الأعرابي الذي جاء يسأل عبد الله ابن الزبير الراحلة من رؤوس الناس ؟ فلماذا منعه الراحلة حتى دفعه إلى هجائه , أليس هذا من حماقة ابن الزبير ؟!
 
عبد الملك : هل هجا أحد الأعراب ابن الزبير ؟!
 
أبو مالك : نعم يا أمير المؤمنين ..!
 
عبد الملك : وماذا قال ؟
 
أبو مالك : لقد نعته بالشحيح ووصفه بالملحد .. لأن عبد الله – كما تعلمون – يا مولاي .. يصف نفسه بالعائذ بالبيت , فسماه الرجل ملحداً فيه أحذاً من قوله تعالى : ( ومن يُرِد فيه بإلحادٍ بظُلمٍ ) .
 
عبد الملك : وكيف قال الأعرابي ؟!
 
أبو مالك : قال : " ليس بالإمام الشحيح الملحد " .
 
عبد الملك " يضحك " : ليس الإمام بالشحيح الملحد .. أفلح والله الأعرابي .. ولقد أعجبني هذا اللقب لابن الزبير .. فأشيعوه عني .. " يلتفت إلى أبي عامر " : أرأيت يا أبا عامر .. لقد انقضى عهد أبي بكر وعمر .. " يلتفت إلى الحاضرين جميعاً " : أيها الناس لا تكلفونا أعمال المهاجرين الأولين وأنتم لا تطيقونها ..!
–يدخل الحاجب –
 
الحاجب : رسولك إلى سعيد بن المسيب بالباب ..
 
عبد الملك : رسولي إلى سعيد .. دعه يدخل ..
" ويدخل رجل عليه أثر السفر "
 
الرجل : السلام على أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته ..
 
عبد الملك : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته .. ماذا وراءك يا أبا الحارث .. بم تبشرني ؟!
 
أبو الحارث : " يصمت وكأنه يبحث عن مدخل للحديث " .
 
عبد الملك : ماذا بك يا أبا الحارث .. لقد أخفقت في مسعاك .. كنت أعلم ذلك سلفاً .. إن لم يأتني سعيد طائعاً ليأتيني مكرهاً ..
 
أبو الحارث " وقد بدا عليه الإشفاق على سعيد " : هوّن عليك يا أمير المؤمنين , فليس عند سعيد ما تكره ..
 
عبد الملك : وليس عنده ما أحب ..
 
أبو الحارث : يا مولاي ..! أنت أعلم مني بسعيد وفقهه ومكانته بين أهل المدينة .. إنه لا يرى البيعة لخليفتين وليست عنده منازعة لأحد ..
 
عبد الملك : وهل يعتبر ابن الزبير خليفة ؟!
 
أبو الحارث : أولا يدّعي ابن الزبير ذلك ؟!
 
عبد الملك : وهل يجعلني سواء وابن الزبير ..!!
 
 " يصمت الرجل من جديد , ينتبه عبد الملك إلى أنا أبا الحارث ما زال واقفاً " : لا عليك يا أبا الحارث .. لا عليك .. اجلس ..! " يجلس الرجل حيث ينتهي به المجلس " .
 
عبد الملك " مجاملاً " : هل كانت رحلتك ميسرة ؟!
 
أبو الحارث : كل شيء في طاعة أمير المؤمنين يهون ..
 
عبد الملك : وكيف وجدت أهل المدينة ؟!
 
أبو الحارث : ما تزال ذكريات وقعة يزيد في رؤوسهم ..
 
عبد الملك : ما لي وليزيد .. مالي وليزيد .. أنا عبد الملك ابن مروان وليست بيزيد بن معاوية ..!
 
أبو الحارث :إن القوم ما عرفوا من بني عبد شمس غير يزيد ..
 
عبد الملك : ماذا تقصد يا أبا الحارث ؟
 
أبو الحارث : أقصد لو أن أمير المؤمنين اصطنع عندهم يداً لعلها تغسل الماضي ..
 
عبد الملك : أحسنت .. ولكن ماذا ترى أن أفعل ؟
 
أبو الحارث : عندي رأي ؛ بل هو نصيحة ..
 
عبد الملك : قل ..
 
أبو الحارث : سمعت أن عند سعيد بن المسيب فتاة يافعة قارئة لكتاب الله , عالمة بالسنن , يثير أحاديث النساء جمالها ..
 
عبد الملك : ماذا تقول ؟..
 
أبو الحارث : والوليد ابن أمير المؤمنين وولي عهد المسلمين ما زال في حاجة إلى ..
 
عبد الملك : فهمت .. فهمت .. كفى ..
 
أبو الحارث : وإني لأرجو أن يقرب ذلك ما بين سعيد وأمير المؤمنين ..
 
عبد الملك : ولكن .. أتظن أن سعيداً الذي منع بيعته يزوج ابنته ..؟!
 
أبو الحارث : والله إني لأرجو ذلك ..
 
عبد الملك : ويحك يا أبا الحارث .. إنك إن أخفقت في هذه المرة , ستجعل سعيداً في موضع سخط مني لا يعرف بعده الرضا .. وأنت تعرف عزمات ابن مروان .
 
أبو الحارث : ما أريد إلا الإصلاح أمير المؤمنين وابن أمير المؤمنين ..
 
عبد الملك : والله إن سعيداً لأهل أن يخطب إليه , وإن رفض بيعتنا واشترى عداوتنا ..
 
أبو الحارث : فعساه أن يكون الصهر . والصديق والمبايع .
 
عبد الملك : قد أسندت إليك هذا الأمر .. فابذل لسعيد ما طلب , من مهر .. أو متاع , واقبل منه ما اشترط على الوليد من شروط , لعله يرضى .. وما أظنه يرضى ..!!
 
المشهد الثاني
 
     " في مسجد المدينة , في إحدى زوايا المسجد , جلس شيخ وقور هو سعيد بن المسيب يحدث الناس ... البساطة تشيع في كل شيء ؛ في وجوه الناس .. وألبستهم .. وطرائق جلوسهم .. " .
 
أحد الجالسين : سيدي الشيخ .. إنني شاب أريد الزواج ولا أطيقه لكثرة ما يغالي الآباء في المهور .. حتى والله لقد خشيت على نفسي العَنَت , فهل في دين الله أن يكون مهر الفتاة كذا وكذا من الذهب والفضة ..؟!
 
سعيد بن المسيب : لا حول ولا قوة إلا بالله .. يا بني .. إنها الفتنة والفساد العريض اللذان حذر منهما رسول الله صلى الله عليه وسلم . يا ودي .. لقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وإذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه , إلا تفعلوا تكن فتنة وفساد كبير " .. وهذه الفتنة وذلك الفساد لا يصيب الشباب وحدهم يا بني .. الفساد الكبير سيحيق بالمجتمع كافة وليعلم هذا الذي يمسك ابنته عن الزواج , انتظاراً لصاحب المال والثراء , أن الدائرة ستدور أولاً عليه وعلى ابنته .. وأن اللقاء بين الرجل والمرأة سنة من سنن الله , ولن تستطيع كل قوانين الأرض أن توقف سنة الله سبحانه , وليس أمام سد أبواب الحلال إلا فتح أبواب الحرام , علم ذلك من علمه , وجهل ذلك من جهله ..
 
رجل آخر : كيف قلتم سيدي الشيخ بارك الله فيكم ؟!
 
سعيد بن المسيب : أقول إنه ليس أمام سد أبواب الحلال إلا فتح أبواب الحرام .. وإن سنة الله لغالبة وإن حكمه لمسيطر , ومن أراد أن يتيقنّ فليمدد إصبعه إلى النار ليختبر الاحتراق ..
 
رجل ثالث : يا سيدي .. إن الآباء يزعمون أن بنانهم هن اللواتي يرفضن الزواج إلا على كذا وكذا من المهر .. وإن الأمر أصبح بيد النساء , كل واحدة تحب أن تباهي بمهرها في المجالس .
 
سعيد بن المسيب : إن المسؤولية أولاً , مسؤولية الآباء وإن كانوا صادقين ؛ لأنهم لم يربوا بناتهم التربية التي تجعل الفتاة تفهم دورها في الحياة .. وتزنها بالموازين القسط .. وما أظن فتاة عاقلة يقول لها أبوها : إن فلاناً ذو خلق ودين قد جاءك خاطباً فترفضه رغبة في الذهب والفضة , وحين ترفض الفتاة الكفء الصالح انتظاراً لصاحب المال , تكون قد حكمت على إنسانيتها بالإعدام , وعلقت على نفسها بطاقة تحمل تسعيرتها .. أو تقول : أنا لمن يدفع أكثر ..
 
رجل آخر : علم الله يا سيدي أن المشكلة ليست مشكلة الفتيات , وإنما هي مشكلة الرجال .. إنها مشكلة الأب الذي يريد أن يباهي بمهر ابنته .. بل أن يأكله ..
أسمعت يا سيدي أن بعض الآباء يأكلون مهور بناتهم على عادة أهل الجاهلية ..
 
سعيد بن المسيب : لا حول ولا قوة إلا بالله .. لا حول ولا قوة إلا بالله ..
إن المرأة إذا كثر مهرها وغلا , أفزع منها الصالحين من الخاطبين فرغبوا عنها .. ذلك أن الصلاح والمال ليسا قرينين .. بل قلّما يجتمعان في إنسان , فوليّ المرأة الذي يغالي في مهرها , ثم لعله يأكله , مضطر أولاً إلى أن يتساهل في أخلاق هذا الخاطب فيرضى بالرجل الدون في أخلاقه وفي دينه , وهذا أول السقوط في رجولة هذا الأب ..
 
     ثم إنه عندما يأكل مهرها كله أو بعضه .. إنما يشهد على نفسه بسقوط النخوة والشهامة .. ألا أفَّ لأب يسترد من ابنته ثمن لقمة أطعمها إياها أو ثوب كساها إياه .. ألا تباً لأب تقعد به مروءته على أن يكرم ابنته , فيبلغ به البخل والحرص , أن يستلب منها ما فرض الله سبحانه وتعالى لها .. ألا إنها النذالة .. والفسولة .. والسقوط .. ألا إنها النذالة والفسولة والسقوط ..
" يضطرب المجلس وتعلو الهمهمة , ويتابع الشيخ .. " :
 
إن مجتمعنا يباع كل شيء فيه بالمال .. لمجتمع يسير إلى الدمار .. وإن مجتمعاً يقوّم كل شيء فيه بالمال لمجتمع قد ماتت فيه كل معالم الخير .. إننا حين نجعل الأخلاق والفضيلة أساس حياتنا , نكون قد فتحنا أمام الناس سبل التنافس في الخير . وحين نكرم الناس على الأساس الذي كرمهم الله به وهو التقوى نكون قد سلكنا الصراط السوي , أما حين نزن كل شيء بميزان الذهب والفضة .. حتى بناتنا .. فأولى لنا .. ثم أولى لنا ..
 
الرجل الأول : هل حقاً يا سيدي أن غلاء المهر يذهب يُمْن المرأة ؟!
 
سعيد بن المسيب : لقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " أقلّهن مهراً  أكثرهنّ بركة " .. ذلك أن المرأة التي ارتفع مهرها , لا تكاد تصل إلى بيت زوجها إلا وقد غلبه الدين .. ودب إليه الفقر .. وركبه العجز ؛ فإذا هو يعيش حياة مشقة وشدة كانت هي سبباً فيها .. وهي من ناحية أخرى ستشاركه قسوة العيش وشظفه , فيكون شؤمها على نفسها وعلى زوجها , ولو رضيت معه بالقليل لعاشا معاً في بحبوحة ورخاء , ونعما في أيامهما الأولى بيسر الحياة ولين العيش ..
 
رجل آخر : أيهما أكرم للمرأة يا سيدي .. ارتفاع المهر أو قلته ..؟!
 
سعيد بن المسيب : لو كان في ارتفاع المهر كرامة للمرأة لأكرم به رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجاته أمهات المؤمنين , ولو كان فيه كرامة لكان أولى بها بناته صلى الله عليه وسلم , ولو كان غلاء المهر سنة رشيدة أو عادة حميدة لما تزوج فتى الفتيان علي كرم الله وجهه من الزهراء بنت الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ وهل كان مهر فاطمة إلا رهن درع علي , فمن كان منكم مفاخراً في مهر ابنته فليفخر على فاطمة في مهرها , ومن كان من الفتيان مفاخراً بكثرة ما يدفع فليفاخر أبا الحسن في ذلك .. وإنما زيادة المهر من الرجل استكمال لموضع النقص من رجولته , وزيادة مهر المرأة استكمال لموضع النقص من إنسانيتها ..
" يدخل رجل ملثم إلى المسجد . فجأة يرخي طرف اللثام عن وجهه . ويسلّم على القوم . يرد بعض الناس السلام .. " .
 
سعيد بن المسيب : أبا الحارث .. ما أسرع ما عدت .. أما رحلت منذ أيام ..!؟!
 
أبو الحارث : عدت إليك ..
 
سعيد بن المسيب : ألم تفرغ بعد من الحديث ؟!
 
أبو الحارث : جئتك ببشارة ..
 
سعيد بن المسيب : البشارة ألا تجيئني ..
 
أبو الحارث : جئتك خاطباً ..
 
سعيد بن المسيب : خاطباً ؟!!
 
أبو الحارث : ابنتك للوليد .. ابن أمير المؤمنين .. وولي عهد المسلمين ..
 
سعيد بن المسيب : ليس هنا مقام الكلام " ينهض من مجلسه .. فيما تعلو همهمة الناس .. بينما يخرج الشيخ مع صاحبه .. " .
 
أحد الرجال : أترون سعيداً يزوج ابنته ..؟!
 
آخر : ما أظنه يفعل ..
 
ثالث : ليته يفعل ..
 
رابع : لماذا ؟!
 
آخر : لتكون لنا يدُ عند أمير المؤمنين ..
 
الرابع : أتريد أن نأكل الدنيا بالشيخ وابنته ..
 
الأول : إنها فتنة أخرى نجيء للشيخ بعد فتنة البيعة ..
 
رجل ثان : أرى أن ننتظر لنعلم ما يكون من أمر الشيخ .. ها قد جاءته الدنيا تسعى إليه ..
 
الثالث : ولعله إن رفض .. أن تقبل ابنته .. وهل ابنته إلا إحدى النساء ..؟!
 
الأول : لننتظر .. لننتظر ..!!
 
المشهد الثالث
 
في بيت سعيد بن المسيب , حجرة صغيرة , حصير ووساد , جلس سعيد وابو الحارث " .
 
سعيد بن المسيب : هيه يا أبا الحارث .. ما تزال الدنيا تدور بي مذ كلمتني .. ماذا وراءك ؟!
 
أبو الحارث : " يعتدل في جلسته ويقترب من سعيد كأنه يسرّ إليه .." .
 
سعيد بن المسيب : ويحك .. ماذا هناك ؟!
 
أبو الحارث : هنيئاً لك صهر أمير المؤمنين ..
 
سعيد بن المسيب : ومن أخبر عبد الملك أن عندي بنتاً ..؟!
 
أبو الحارث " باعتداد " : أنا ..!
 
سعيد بن المسيب : أنت ؟ وبالأمس كنت تزعم نصحي ..
 
أو الحارث : وهل فعلت ذلك إلا حباً بك ..
 
سعيد بن المسيب : حبا بي ..؟!
 
أبو الحارث : من عساك تزوج ابنتك أفضل من الوليد بن أمير المؤمنين وولي عهد المسلمين وفتى بني أمية جمالاً ونضارة ؟!
 
سعيد بن المسيب " بعصبية " : وما شأني أنا بالوليد ..؟
 
أبو الحارث : شأنك , شأن المسلمين , شأن أهل المدينة , شأن ابنتك , هذا كله متعلق بالوليد ..
 
سعيد بن المسيب " يزفر زفرة طويلة .. يسند رأسه إلى الجدار .. يغمض عينيه كمن تدور به الدنيا "
 
أبو الحارث : كنت أظن أنني سأنال منك البشارة .. ماذا أصابك ؟!
 
سعيد بن المسيب " لنفسه " : ابنتي لابنه .. ابنتي للوليد .. ابنتي لولي عهد المسلمين ..
 
أبو الحارث : ولا تسألني عن الماس واللولو .. عن الجواري والخدم .. عن القصور العالية في جنات الشام .. عن الفرض والرياش الناعمة ..
 
سعيد بن المسيب " لنفسه " : ابنتي .. في القصور على الرياش .. مع اللؤلؤ والماس .. بين يديها الجواري والخدم ..
 
أبو الحارث : السعادة .. الرفاه .. لين العيش ..
 
سعيد بن المسيب " يكرر بآلية " : السعادة .. الرفاه .. لين العيش ..
 
أبو الحارث : ولا تنس مكانتك يا سعيد ..
 
سعيد بن المسيب " ينتبه فزعاً كمن يهب من حلم مزعج " : مكانتي ؟! وأنا أيضاً يا أبا الحارث ؟!
 
أبو الحارث : أنت ستكون نسيب الخليفة .. ستسدد .. وتنصح .. وتأمر .. وتنهى ..
 
سعيد بن المسيب " بامتعاض " : أجئت تخطب ابنتي للوليد أم تخطب بيعتي لبني مروان ..؟!!
 
أبو الحارث : لا .. لا يا سعيد .. إنها مصلحة المسلمين .. فما أجمل أن تكون بجوار أمير المؤمنين .. تنصحه وتسدده وترشده .. كم في هذا من الخير للمسلمين !؟
 
سعيد بن المسيب : هكذا إذن ..؟!
 
أبو الحارث " وقد ظن أن سعيداً وافق على الزواج " : ماذا قلت في هذا أيضاً ؟!
 
سعيد بن المسيب : إذاً أنا وابنتي في صفقة واحدة .
 
أبو الحارث : لا تتسرع يا سعيد .. لا تربط بين المصاهرة والبيعة .. إن أمير المؤمنين يريد مصاهرتك ولو لم تبايع .. هذا كلامه هو .. ولقد قال : إن سعيداً أهل لأن يخطب إليه , ولو رفض بيعتنا .
 
سعيد بن المسيب : اسمع يا أبا الحارث .. أبلغ عبد الملك أنني لا أرغب في تزويج ابنتي ..
 
أبو الحارث : ماذا تقول : يا سعيد ماذا تفوت على ابنتك هذه الفرصة ؟ من عساه يكون أجدر بها من الوليد ؟
 
سعيد بن المسيب : يا أبا الحارث .. إنني أريد ابنتي مثل فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم تنام على جلد كبش , وتجر الرحى , وتنضح الماء .
 
أبو الحارث " وقد أسقط في يده " : ماذا ؟! إنني لا أصدق .. أنت تحرجني .. أنت تهلك نفسك .. ماذا أقول لأمير المؤمنين ؟!
 
سعيد بن المسيب : هل كلفتك بأن تبحث لي عن زوج لابنتي .
 
أبو الحارث : ولكن .. ولكن ما كنت أظنك ترفض صهر أمير المؤمنين .
 
سعيد بن المسيب : وهل بايعتُ أميرك هذا ؟
 
أبو الحارث " بحدة " : ما كنت أظنك ترفض مصاهرة عبد الملك ابن مروان وابنه الوليد بن عبد الملك ..
" يتحرك سعيد من مكانه كأنه يطلب إلى الرجل الانصراف " .
 
أبو الحارث : لا .. لن أنصرف بهذه السهولة .. لا بد أن تراجع نفسك .. لا بد أن تعيد النظر في أمرك .. اتق الله في نفسك , فعبد الملك بطاش لا يرحم .. فلا تفجعن المسلمين في نفسك .. اتق الله في ابنتك .. فلا تعضلها .. ثم لعلك تزوجها بعض الموالي .. فمن يتقدم إليها بعد أن رَفَضْت ولي عهد المسلمين .. من سيجرؤ على خطبتها !. فكر فيما تفعل يا سعيد ..
 
سعيد بن المسيب : جزاك الله خيراً على أمرك بالتقوى وأسأل الله أن يعيننا عليها ..
" يقف سعيد , ويقف أبو الحارث ممسكاً به " .
 
أبو الحارث : يا سعيد .. لا تشتر عداوة أمير المؤمنين ..
 
سعيد بن المسيب : لست حريصاً على عداوة أحد .. ولكني لا أبيع ابنتي ..
 
أبو الحارث : أستغفر الله .. ومن رام أن يشتري ابنتك أأقول لك إن عبد الملك قد فوضني أن أدفع لك كل ما تطلب .. وأن أنزل على كل شرط تشترطه عليه أو على الوليد ..
 
سعيد بن المسيب : أنت سمسار عبد الملك ..
 
أبو الحارث : أنت تتهمني يا سعيد .. والله ما زلت أدرأ عنك غضب أمير المؤمنين .. وما زلت أصل بينكما ما انقطع .. وكلما مددت لك سبباً قطعته .. فماذا عساي في هذا أقول ؟
 
سعيد بن المسيب " ببساطة " : تقول : إن سعيداً لا يرغب في زواج ابنته الآن ..
 
أبو الحارث " كمن وجد مخرجاً " : ولكن الجواب ليس من حقك فقط .. لا بد أن تستشير الفتاة .
 
سعيد بن المسيب : أنا وليها .
 
أبو الحارث : أفيجوز لك أن تزوجها بمن تكره ..
 
سعيد بن المسيب : لا ...
 
أبو الحارث : إذن لا يحق لك أن تجبرها على الرفض , لا بد لك أن تستشيرها وبحضرتي ..
" سعيد يتأمل قليلاً "
 
سعيد بن المسيب : أستشيرها وبحضرتك , وإن كان قياسك هذا فاسداً ..
 
أبو الحارث : هيا بنا إليها ..
–يخرجان –
 
المشهد الرابع
 
" وينتقل المشهد إلى حنجرة مقطوعة بستارة , سعيد وأبو الحارث أمام الستارة .. " .
 
سعيد بن المسيب : يا بنيتي أتسمعينني ..!
 
الفتاة " من وراء الستارة " : نعم يا أبتاه ..
 
سعيد بن المسيب : هذا أبو الحارث الذي كنت أحدثك عنه منذ أيام .. والذي جاءني يحثني على بيعة عبد الملك ابن مروان .. أتذكرين ؟!
 
الفتاة : وأذكر أنك رددته بلطف دون أن تعطيه ما يريد ..
 
سعيد بن المسيب : لقد جاءني اليوم بأمر جديد ..
 
الفتاة : وما هو ؟!
 
سعيد بن المسيب : أظنه يتعلق بالأمر السابق .. إنه يريد أن يخطبك للوليد بن عبد الملك , فماذا تقولين ؟!
 
أبو الحارث " " يسبق الكلام ثم يبدأ حديثاً هادئاً " : اسمعي يا ابنة أخي .. لقد جئتك والله بعز الدهر .. وسعادة العمر .. وهناءة الحياة .. أتدرين أني أخطبك لابن أمير المؤمنين وولي عهد المسلمين ؟! إنني أريد أن نقلك إلى قصور الشام وجناتها .. لتعيشي بجوار أمير المؤمنين , وقد عهد إلي أمير المؤمنين أن أبذل لك ما تطلبين من ذهب وفضة .. ولا تنسي ما في قصور أمير المؤمنين من ذهب وزبرجد ولؤلؤ .. من خدم وحشم وجوار .. من ديباج وحرير .. وفرش ورياش .. إنني أريدك أن ترفلي بالحرير وتتقلبي على النعيم : فماذا تقولين ؟!
 
سعيد بن المسيب " مقاطعاً " : أما إذا أبيت إلا الكلام فلا بد لي أن أقول أنا أيضاً ..
" يظهر في صوته نبرة الرجاء وكأنه خاف أن يميل قلب الفتاة مع أبي الحارث " .
 
اسمعي يا بينّة .. إن أبا الحارث قد قال وأطنب وذكر أموراً هي من زهرة الحياة الدنيا فصدق فيها .. وأعيذك بالله أن يكون لها عندك رواج .. إن أبا الحارث يا بنية .. يخطبك للوليد ليجعلك دمية في قصره وحلية في نسب أولاده .. وكأني بأبي الحارث هذا قد جلس إلى عبد الملك فتفاوضا بشأن الوليد وامرأته على المسلمين فأراد أن يقرباه من قلوب الناس .. فما وجد غيرك وغير أبيك يأكلان بهما الدنيا .. وأنت يا بنية أحفظ لما علمتك .. وأذكر لما أدبتك .. ولقد تعهدتك بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .. والوليد هذا الذي يقف ببابك اليوم – فيما بلغني – لا يزال يلحن بلسان قومه فما بالك بكتاب ربه ..!! واذكري يا بنية ما ذكّر الله به أمهاتك من أزواج النبي بقوله : ( إن كنتنّ تُرِدْن الحياة الدنيا وزينتها فتَعاليْنَ أُمَتِّعْكُنّ  وأُسَرّحْكُنّ سراحاً جميلاً , وإن كنتنّ تًرِدْن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجراً عظيماً ) .
 
     فاختاري يا بنية ما شئت .. فإن اخترت ما اختارت أمهات المؤمنين فقد فزت بما فزن .. وإن اخترت ما زين لك أبو الحارث من متاع الدنيا " يرتجف صوته قليلاً " زوجتك فكان لك سراحاً جميلاً .. ولا تذكري أن أباك كان سعيد بن المسيب ..
 
أبو الحارث : أتهددها يا أبا سعيد !! أتتبرّأ منها إن اختارت كفأها من قريش , ثم من بني أمية .. ثم من بيت الخلافة .. هذا هو العضل بعينه ... ووالله يا بنيتي .. إن ما ذكر أبوك من شأن زواجك والبيعة لا أصل له .. وأشهد ان عبد الملك قد رغب فيك لما سمع عن دينك وعلمك وأمور أخرى قد بلغته عنك .. وقد قال لي إن سعيداً لأهل أن يخطب إليه وإن رفض بيعتنا .. فلا يدخلن في نفسك ما دخل في نفس أبيك .. ثم الأمر إليك فانظري ماذا ترين .. ولا تنسي أن رفضك سيجرّ على أبيك مالا يعلم مداه إلا الله من غضب عبد الملك .. فاتق الله في أبيك ..

 
الفتاة " من رواء الستارة بصوت فيه بعض الضعف " : يا أبا الحارث .. " الغم على وجه سعيد والبشر على وجه أبي الحارث " أرأيت إن أجبت صاحبك إلى ما يرغب .. فماذا يكون لي عنده ؟!
 
أبو الحارث : ما شئت .. أنت تطلبين , تشترطين .. وكل طلب أمر , وكل شرط عهد , وأنا زعيم بذلك . إن شئت ذهباً , أو فضة , أو لؤلؤاً , تخيري من الجواري ما شئت ..
 
الفتاة " مقاطعة " : يا أبا الحارث !! ما عن هذا سألتك ..!
 
أبو الحارث : عن ماذا إذاً ؟! عن مكان سكنك .. إن لك أن تنظري قصور الإمارة , بل قصور الشام , فتختاري أجملها في عينيك وأكملها في نفسك ..
 
الفتاة : لو تركت لي فرصة الحديث .. يا أبا الحارث ..
 
أبو الحارث : أتحبين أن أتعهد لك .. ألا يضارك الوليد ما عشت ..
 
الفتاة : يا أبا الحارث .. أتسمع ..
 
أبو الحارث : نعم ..
 
الفتاة : أنا فتاة حافظة لكتاب الله فكم يقرأ الوليد منه ؟
 
أبو الحارث : إن الوليد .. إن الوليد مشغول بأمر الإمارة ..
" يتهلل وجه سعيد " ..
 
الفتاة : وكم يحفظ صاحبك من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم !
 
أبو الحارث : يا بنيتي ..
 
الفتاة : يا عم .. إننا أهل بيت ليس لنا إرْبٌ في غير هذين .. فإن أرادنا صاحبك فليأتنا بهما .. ثم ننظر في أمرنا ..
 
أبو الحارث : ثم تنظرين !! ثم تنظرين !! وما ذكرت لك من الذهب والفضة ..
 
الفتاة " مقاطعة " : إن ما ذكرت لنا من الذهب والفضة والخدم والقصور والرياش والسرور من متاع هذه الدنيا .. ولقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة .. فانظر كم جئت من هذا الجناح ؟ أجئت بعشره .. أو ربعه .. ويحك لو أتيت به كله ما كان أهلاً لأن تطرف إليه عين , أو يهتز له قلب ..
 
" يتهلل وجه سعيد , ويستبشر , ويبدو أبا الحارث كاسفاً "
 
وأنت يا أبتاه ..
أخفت ؟! خشيت أن تختار ابنتك قصور بني أمية .. لقد أحزنني – يا أبتاه – إشفاق سمعته في صوتك.. وإن كنت أعلم إنه إشفاق المحب الناصح .. وليس إشفاق المتوجس الخائف .. لقد ربيت يا أبي فأحسنت .. وعلمت فأوفيت .. ومن لم يكن له في كتاب الله عاصم فما له من عاصم .. إن لي – يا أبتاه – في أمهات المؤمنين أسوة , ولي في الزهراء قدوة .. أختار الله والدار الآخرة , يا أبتاه , وإني لأمانة في عنقك تضعها حيث تشاء .. لقد أحرجك أبو الحارث حين ألجأك إلى هذا الموقف , ولا عليك بعد اليوم , أن تقولي في أمري ما شئت ..
 
سعيد بن المسيب : بوركت .. بوركت .. بوركت يا بنية ( تدمع عيناه )
 
أبو الحارث " يضرب يداً بيد " : وهي أيضاً , وهي أيضاً , وهي أيضاً ابنة أبيها ..!!
 
المشهد الخامس
 
" مجلس الشيخ في زاوية المسجد , مكان الشيخ لا يزال فارغاً , والتف الناس حول بعضهم ينتظرون الشيخ , ويخوضون في حديث هامس .. " .
 
أحد الرجال : أسمعتم ما كان من أمر الشيخ مع أبي الحارث ؟ أتراه زوّج ابنته للوليد ؟!
 
رجل آخر : ما كان الشيخ ليفعل ولكن لست أدري تفاصيل ما حدث ..
 
رجل ثالث : لقد ردّه الشيخ خائباً .. حتى الفتاة عندما ألحّ عليها أبو الحارث بأن تقبل ..! سألته كم يحفظ الوليد من كتاب الله .. " يضحك القوم همساً " .
 
رجل آخر : والله إني لأخاف على الشيخ من عبد الملك .. إن بني مروان لا يهمهم إلا أن يثبتوا ملكهم .
" يصل الشيخ فيتزحزح الناس من مجالسهم , ويسير حتى يبلغ مجلسه " .
 
سعيد بن المسيب : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..
 
الحاضرون : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ..
 
سعيد بن المسيب " يتفحص القوم واحداً واحداً وبسمة راضية على شفتيه " : أين ابن أبي وداعة ..؟ هذا اليوم الثالث الذي لا نراه فيه .. لا بد أن يكون قد طرأ له طارئ ..
 
أحد الحاضرين : أألتمسه لك يا سيدي ..
 
سعيد بن المسيب : إذا شئت ..
" .. ينطلق الرجل في طلب ابن أبي وداعة "
 
أحد الحاضرين : من أين ينفذ الشيطان إلى قلوب بني آدم يا سيدي ..؟!
 
سعيد بن المسيب " يبسمل ويحمد الله تعالى .. " : ليس للشيطان سلطان على بني آدم يا بني .. وإنما هي نفوس الناس حين تضعف فتميل مع الشهوات وتستمرئ المتع , وكلما أغلق الإنسان باباً وترفع عن الإغراءات فاز في امتحانه , ليتعرض لامتحان غيره أشدّ منه وأدق حتى يكون من عباد الله المخلصين .. فلا تضره فتنة أبداً .
 
الرجل : لو ضرب لنا الشيخ مثلاً ..
 
سعيد بن المسيب : يفتح الشيطان على الإنسان باب الدنيا أو التعلق بها , أو الإيثار لها .. فإن اشتغل بها ونسي آخرته , وأعرض عن ربه , فقد امتلكه الشيطان وكان أمره إلى خسار , وإن أعرض عن الدنيا فتح عليه حب الجاه والحمد عند الناس .. فإن تغلب عليه فتح عليه من أبواب العجب والكبر والحسد ..
 
وفتح على الرجال والنساء باب فتنة بعضهم ببعض .. وهكذا ما تزال الفتن تعرض على القلوب كالحصير عوداً عوداً .. كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
 
" يدخل الرجل ومعه ابن أبي وداعة .. وهو رجل ضئيل الجسم بائس المنظر .. " .
 
ابن أبي وداعة : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .. سألت عني يا سيدي ..؟!
 
سعيد بن المسيب : لقد أهمني غيابك .. فما أخرك ؟
 
ابن أبي وداعة : جزاك الله خيراً يا سيدي .. لقد توفيت زوجتي .. فاشتغلت بتجهيزها ودفنها ..
 
سعيد بن المسيب : إنا لله وإنا إليه راجعون .. آجرك الله في مصيبتك يا ولدي .. هلا آذنتنا فحضرناها ..
 
ابن أبي وداعة : لم أشأ أن أتعبكم يا سيدي .
" وينضم إلى المجلس بهدوء " .
 
سعيد بن المسيب : هل أحدثت زوجة بعدها يا بني ؟!
 
ابن أبي وداعة : لا يا سيدي ..
 
سعيد بن المسيب : أتأوي إلى بيتك .. في حزنك ووحشتك منفرداً ماذا لو تزوجت ؟
 
ابن أبي وداعة " يطرق في حياء " : يا سيدي من .. من يزوجني ؟ أنا رجل فقير .. لقد كانت زوجتي ابنة عمي , ولقد ساعدني عمي رحمه الله على الزواج ..
 
سعيد بن المسيب : أفقير أنت ؟
 
ابن أبي وداعة : نعم يا سيدي .. أنا لا أملك إلا درهمين ..
 
سعيد بن المسيب : درهمان ..؟ ألا يزوجك أحد بدرهمين .
 
ابن أبي وداعة " بانكسار واستغراب " : من يزوجني ؟!
 
سعيد بن المسيب : أنا ..
 
" والحاضرون يفتحون أفواههم يعلو وجوههم الاستغراب , ويسود صمت " ..
 
ابن أبي وداعة : سيدي ماذا تقول ؟!
 
سعيد بن المسيب : أنا أزوجك بدرهمين .. إن قبلت ..
 
ابن أبي وداعة : أنا أقبل .. أن .. أنا ..
 
أحد الحاضرين : مطلوبة الوليد بن عبد الملك تتزوج بدرهمين ؟!
" يزوي الشيخ وجهه عن الكلمة ويسأل ابن أبي وداعة بقوة .. ؟
     هل قبلت يا بني ..؟!
 
ابن أبي وداعة " بصوت مرتجف " : قبلت .. نعم قبلت ..
 
سعيد بن المسيب " للحاضرين " : اشهدوا أني قد زوجت ابنتي لابن أبي وداعة على درهمين ..
" تعلو همهمة في المجلس " ..
 
سعيد بن المسيب : أتعلمون أن أبي وداعة حافظ لكتاب الله عالم بسنن رسول الله .. أتعلمون من طيب خلقه وحسن سمته وهديه ..
 
الناس : اللهم نعم ..
 
سعيد بن المسيب : فأين يقع الدرهمان من رجل مثله .. وإنما هما عربون مودة ورحمة ..
" ينهض الشيخ من مجلسه ويتحلق الناس في أحاديث .. "
 
المشهد السادس
 
     " باب قصير في حائط ترابي .. وقف الشيخ قبالة الباب واستترت خلفه فتاة محجبة , يقرع الباب .. صوت من الداخل ..
     من الطارق ؟
 
سعيد بن المسيب : سعيد ..
 
" الصوت من الداخل يقترب .. " : سعيد .. سعيد .. أي سعيد ..
 
" ويُفتح الباب , ويظهر ابن أبي وداعة "
     سيدي كنت أحق بالمجيء إليك ..
 
سعيد بن المسيب : ذكرت أنك رجل عزب .. وأنك قد تزوجت الليلة فكرهت لك أن تبيت وحدك , فجئتك بزوجك .
" ينحرف الشيخ , ويدفع ابنته برفق .. " .
 
المشهد السابع
 
     " الشيخ في مجلسه .. "
 
     يهجم عليه رجال الشرطة وبأيديهم السياط , يفرقون الناس عنه , ثم ينهالون عليه ضرباً ..!! ا . هـ .
– ستار الختام –