الرئيسة \  واحة اللقاء  \  أميركا التي خرجت ولم تعد

أميركا التي خرجت ولم تعد

30.08.2021
ساطع نور الدين


المدن
الاحد 29/8/2021
ملعونة أميركا في الغزو كما في الرحيل. مهزومة أيضاً، بلا شك. مذمومة طبعا على ما خلفته من خسائر بشرية هائلة، ومن دمار وخراب، لن تدفع ثمنه أبداً، ولن تعتذر حتى. لن تعوض المتضررين ولن تساعدهم. جل ما تفعله هو ان تمدّ جسراً جوياً، لترحيل المتعاونين مع قواتها ومنحهم حقوق الاقامة والجنسية الاميركية.
في حالتي الغزو، أو الرحيل، لا يجوز أن تكون اللعنة على أميركا واحدة. المشهد الافغاني نموذجي، يختزل ذلك السلوك الاميركي التقليدي، في كل مكان في العالم.. لكنه، في الاصل وفي الجوهر، يوجه رسالة الوداع الى العالم الاسلامي والعربي، التي لا مجال بعدها للقاء. حسم الاميركيون أمرهم أخيراً، وقرروا محو ذلك العالم من ذاكرتهم تماماً. ليس هناك تفسير آخر، لذلك المشهد، الذي لا يقاس اليوم بحجم الخسائر في الارواح الاميركية والافغانية، ولا طبعا بحجم الهزائم السياسية والاقتصادية لأي من البلدين.
يخطىء كثيراً من يتجاهل ذلك التفسير، الذي لا تنكره أميركا ولا تخفيه، بل هي تفخر به، وتعتبره شرطاً ضرورياً لإعادة تأهيل أميركا من الداخل على المستويات السياسية والاجتماعية وعلى صعيد البنى التحتية التي تقرر إنفاق 2،5 تريليون دولار عليها. الاستثناء الايراني لهذه القاعدة، او لتلك السياسة الاستراتيجية الاميركية، مؤقت وعابر: لا يريد الاميركيون توريث إيران نفوذاً ودوراً يفوق حجمها وحقها الطبيعي في الشرق الاوسط، كما فعلوا لدى خروجهم من العراق العام 2011، كما لا يودون طبعا السماح بتحويلها الى قوة نووية في منطقة ملتهبة أصلاً.. يمكن ان تشكل خطراً ما على مستقبل دولة إسرائيل النووية، مع علمهم أن القدرة النووية الايرانية هي مشكلة روسيا والصين أكثر مما هي مشكلة أميركا.
من هذه الزاوية الضيقة ربما تسلل الامين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، لشن هجومه الاخير على أميركا، بناء على معطيات الماضي، التي تدين الاميركيين بلا أدنى شك، وعلى مجريات الحاضر التي يظهر فيها المفاوض الاميركي مع إيران بأعلى درجات الخبث والنفاق والاحتيال. أما عن المستقبل، فإن السيد لا يملك منه سوى التقدير بأن التسوية، أو المصالحة التاريخية الاميركية الايرانية آتية لا محالة. وعندها لكل حادث حديث. طبعا، ثمة في طهران، من يريد الايهام بأن المقاومة الايرانية خاصة (والشيعية عموماً) هي التي تجبر الاميركيين على الفرار من العالم الاسلامي، ويريد تتويج المفاوضات النووية بنصر إيراني لا يمحى، حتى ولو كان من دون يورانيوم مخصب ومن دون مفاعلات نووية.
في الحسابات اللبنانية، كان من التقليدي أن يحيل السيد، بوصفه الناطق الرسمي بإسم السلطة اللبنانية، اسباب الكارثة الداخلية الى أميركا، وسفارتها وسفيرتها في بيروت. هو لا يستطيع أن يضع الملامة على اي من الرؤساء الثلاثة ، ميشال عون ونبيه بري ونجيب ميقاتي. فللحزب شراكة مع كل منهم، وحصة في قراراتهم وحضور في صراعاتهم. وهو لا يزال يعتقد أن توجيه غضب الجمهور اللبناني نحو أميركا قليل الاضرار كثير المكاسب. مع العلم ان ذلك الجمهور يعرف جيداً أن مكامن الكارثة ومصادرها داخلية، وتكاد تكون جينية، مستمدة من التكوين اللبناني الذي يقدّس السوق السوداء، في جميع التعاملات التجارية وغير التجارية، ويعتبرها شطارة ومهارة. 
لكن تلك الاحالة لم تمر مرور الكرام في واشنطن. ثمة من سأل عن أي دور أميركي في لبنان يتحدث نصر الله؟ عن أي تدخل؟ عن أي وظيفة تؤديها السفارة والسفيرة في هذه المرحلة؟ من هو المسؤول الاميركي الذي خالف التعليمات وأجاز العمل في لبنان؟ المؤكد أنه ليس الرئيس جو بايدن، الذي لم يعد يتذكر أين يقع لبنان، ولا وزير الخارجية انتوني بيلنكن الذي لا يعرف لبنان أصلاً، ولا حتى مدير وكالة الاستخبارات الاميركية وليام بيرنز الذي زار لبنان سراً قبل أسبوعين وناقش مع قادة الجيش والاجهزة الامنية سبل إحتواء التوتر على الحدود الجنوبية، والحؤول دون إشتعال حرب جديدة، لا تخدم أحداً لا في لبنان ولا في إسرائيل.
شتم أميركا وإتهامها، حلال بلا أدنى شك. التدقيق في جذور الازمة يمكن ان يؤدي حتما الى العثور على تورط أميركي، وعلى مسؤولية ما يتحملها الاميركيون، الذين غادروا لبنان نهائياً قبل أكثر من خمس عشرة سنة ( في أعقاب حرب العام 2006) ولم يعودوا. وبات التواصل معهم حتى من قبل حلفائهم السابقين شبه مستحيل.. ولم يبق من صلات لبنانية مع اميركا، سوى تلك التي يقيمها الدولار المسموح تداوله رسميا في المقاصات اللبنانية المتعددة. أما بقية عمليات التجارة والتهريب والتخزين، للسلع الحيوية، فلا شك أنها تصيب الاميركيين والعالم كله بحيرة لا مثيل لها.
الأدق والأجدى من إتهام الاميركيين بالمسؤولية عن النكبة التي تحل بلبنان الآن، هو التسليم بأنها فوضى ما بعد رحيلهم النهائي من العالمين العربي والاسلامي. وهي ظاهرة عامة تتجلى اليوم بأصدق صورها في افغانستان، خاتمة حروب الاميركيين على المسلمين والعرب، التي إنتهت الى صراع محلي بين أقصى التطرف وأقسى التشدد.. يرجى أن يحسم بسرعة لكي تتمكن شعوب أفغانستان والعراق ولبنان وسوريا، من بلورة تجاربها البديلة، في الحكم المستقل عن الاحتلال الاجنبي والاستبداد الديني.