الرئيسة \  دراسات  \  الأضرار الطارئة على الشخصية والعقلية السورية في ظل البعث وحكم الأسد

الأضرار الطارئة على الشخصية والعقلية السورية في ظل البعث وحكم الأسد

19.10.2013
شام صافي



"ورِثنا تّرِكة النظام عن أهلنا ولن نورثها لأبنائنا مهما حصل"
"أجزم أن روحاً جديدةً تسري اليوم في أجساد السوريين، لم يسبق لها أن عبّرت عن نفسها بهذه الطريقة في التاريخ المعاصر".
المقدمة :
هناك بنى فكرية قد لا نشعر بأثرها ووجودها إلا من خلال أثرها المديد عبر الزمن، وتكمن أهميتها من خلال أثرها الذي قد يكون تاريخياً يساهم في صناعة تاريخ لأنه يتحكم بعقلية مجتمع وبالتالي يتحكم في قراراته الجماعية، كالشاطئ يسحب الموجُ البحصَ منه لينطلق.. دون أن يشعر بذلك الناظر عن بعد بينما يشعر بأثره من جلس عليه.
هذه البنى الفكرية تتأتى من خلال التربية والبيئة ورسائل المجتمع وعقليته التي تتشكل تدريجياً عبر أزمان طويلة وأجيال، وإن هذه البنى تسيّر سلوكنا وتتحكّم به.
غالباً ما يكون اعتيادنا على الحالات قد أخرجنا عن وعينا بها وأثرها لتصبح التصرفات في مكمن اللاوعي .. فنتصرّف بالسليقة وهذا أمر له إيجابياته وسلبياته بالمقابل إذ قد يرسخ فينا قيمةً تربويّة خاطئة وصلتنا (من البيئة التي عشناها أو المجتمع المحيط) الذي رسخها ، وبالتالي ننقلها لغيرنا لأننا أصبحنا نحن أيضاً رديفاً أو جزءاً داعماً جديداً لهذا المجتمع المحيط الذي أوصل لنا أصلاً هذه الفكرة، والأمثلة عديدة بل هائلة لا يكتشفها عادة إلا المفكرون وهي من مهام علماء المجتمع. فكيف إن كانت الفترة التي عاشها المجتمع تشبه ما عاشته سورية في ظل حكم الأسد والبعث! ..
وقديماً قيل "الناس على دين ملوكها" هي مقولة لها من الحقيقة نصيب ومن هنا أنطلق في هذه الدراسة لنتبين مدى تأثر الشخصية السورية بالنظام عقلية وسلوكاً، وأتت الثورة فكانت معجزة إلهية كشفت هذا وغربلته فكانت أشبه بزلزال أتى على الشخصية السورية ليخرج كنوزها ويظهر أمراضها.
وإن محور التأثير في الشخصية السورية محور واسع جداً بل شديد الاتساع لا يمكن تغطيته في هكذا دراسة بسيطة إنما يمكن اعتبارها انطلاقة مبسطة متواضعة في هذا الحقل الواسع، إذ إن لها زوايا متعددة.
هناك حقيقة أن الثورة كانت الفارز الحقيقي والمحك الأصلي الذي كشف عن مزايا عظيمة للشخصية السورية التي كانت متوارية تحت الغطاء الجبري الكاتم للحكم الأسدي، فوضعتها أمام امتحان صعب للغاية اختبرت العديد من الأوجه ولو تعمقنا لوجدنا الكثير مما يمكن البحث فيه من خصائص وإشكالات تبدلت وأمور تغيرت وصفات إيجابية ترسخت وأخرى من العيوب ذهبت إلى غير رجعة .. والثورة فرزت الناس ليس فقط تبعاً لمعادنها بل صبغت الأجيال بصبغة عامة وبشكل مفاجئ عما ساد في زمن النظام من تربية وحشد وتوجيه للتفكير تحت منظومة تربوية عشش فيها الفساد والاستبداد وتوابعهما..


يمكن وبناءاً على تجربة الثورة تقسيم الأجيال من منطلق تأثرهم وتأثيرهم بالثورة ووفق شريحتهم العمرية إلى فئات رئيسية ، ولا يعارض هذا التقسيم حالات فردية مخالفة:
1-                 جيل الحرية (المواليد الجدد ومن هم تحت السن القانونية للمدارس)
2-                جيل الثورة (من سن المدرسة فما فوق حتى منتصف الثلاثينات).
3-                جيل من الأربعينات إلى بدايات الستيات) منهم من تعاطف وتأثر بجيل الثورة والأغلبية حكمتهم عقلية التأثر بأحداث حماه .
4-                كبار السن في السبعينات تقريباً: عاشوا فترة الحروب وعدم الاستقرار والانقلابات تشكلت تركيبتهم على الرضا بالواقع والاستقرار عليه، ما كانوا أصحاب إرادة أو عمل في هذه الثورة وكانوا غير مؤثرين، وعموماً كانوا أكثر الناس سلبية في هذه الثورة.
هذا وينبغي التسليم والاعتراف بأن أربعين سنة من حكم النظام ومن خلال الحقن والتخدير حتى الترسيخ والإشباع سيبدو أثره حتماً في الناس .. والعقلية البعثية صارت في عقول مجموعة منا نحن شعب سورية دون أن ندري، فلا يظنن أحد أن تأثير 50 عام لم يحفر أخاديده فينا. والثورة كشفت معادن الناس على حقيقتها فصقلت الجواهر وزادت في صدأ التالف وأزالت الطبقة الرقيقة عن المزيف..
 
"جيل الثورة" جيل مخضرم:
دخل الجيل السوري الجديد خاصة المصنف تحت مسمى (جيل الثورة) فضاء العمل العام من أوسع أبوابه. فالثورة أكبر عملٍ عام قام به الشعب السوري بعد أعوام من الركود ولهذا أثره العميق في تغيير البنية الشخصية التي يتوقع أن تتطبع بها الأجيال القادمة، وبوابتها أوسع بوابة إلى صناعة الدولة وكتابة التاريخ السوري. وفي أتون ملحمةٍ كبرى يسطر شعبنا مفرداتها، كبُر شباب سوريا كثيراً، صغُر الخوف لديهم وتقلصت مساحة الأنا الفردية، فكبرت طموحاتهم واهتماماتهم، وصارت الأنا الجماعية، أنا الوطن والشعب، محور تفكيرهم وعملهم. النقلة التي حدثت لدى الشباب السوري تحديداً أن تحول الشباب إلى شريحة مفعمةٌ بالنقاء والعنفوان والإبداع والمثابرة والتخطيط. تعمل بفعاليةٍ ونشاط رغم العوائق الكبيرة وشدة صعوبة التحديات، فنفضت الثورة عنهم غبار الكسل والانتهازية التي تُركّز على تحقيق المصالح الشخصية، وغيّرت جذرياً منظومة القيم التي كان النظام يسعى جاهداً لزرعها في ثقافتهم. فأصبحت الأولوية للمصالح العامة، وصارت قيم الكرامة والحرية والمواطنة ومعانيها جزءاً لا يتجزأ من تكوينهم النفسي والفكري، فلم تعد الحياة ممكنةً بالنسبة إليهم دون تحقيقها على أرض الواقع. وعاشوا حياة رقي وسمو وتعمم معنى الانتماء الوطني الواحد والمصلحة العامة وأدركت من قبل الجميع.
لهذا، باتت القطيعة النفسية والفكرية والعملية كاملةً بين الغالبية العظمى من هذا الجيل وبين النظام السوري طبيعيةً وبدهية. إذ لم يعد النظام في نهاية المطاف بالنسبة إليهم إلا ميراثاً بغيضاً يجب عمل كل شيءٍ لكيلا يرثه أبناؤهم بأي حال.
لا يظهر حجم المفارقة إلا حين نتذكر ماذا فعل النظام على مدى عقود لكي يُشكّل شخصية هذا الجيل بحيث تتمحور حول معاني النفاق والذل والانتهازية والعبودية والخوف،
عدم الانتصار للحق، وعدم الوقوف بجانبه، الاهتمام بتفاصيل الحياة اليومية من مأكل ومشرب دون القضايا الأكبر التي تمس الوطن إلا من خلال رؤية الدولة، عدم الإحساس بالتشاركية في بناء الوطن أو مزيجاً من كل تلك الصفات. كان تحقيق ذلك الهدف مقصد كل الأنظمة التعليمية والإعلامية والثقافية، وكل منظمةٍ واتحاد، وكل نشاطٍ وفعالية. إلى جانب جلد الذات وعدم الثقة بالقدرة مع الانبهار بالغرب. وغرس عدم المحبة بين الناس من خلال مختلف الممارسات.
كان الظن بأننا فقدنا في سوريا أجيالاً في متاهات الضياع والسطحية والتفاهة بكل معانيها. لكن أقدار الله سارت باتجاه آخر على عكس ما مكروا فكان جيل زعزع أركان النظام نفسياً وعملياً بنشاط متواصل وإرادة وإصرار، ويمكن القول بأن الثورة كانت نقلة عاشها جيل شباب الثورة.
 
من منجزات التربية البعثية للشخصية السورية:
كان للتربية البعثية والأسدية العديد من الآثار السلبية والتي تظهر جلية حينما يتم المقارنة بين الشخصية المتكونة خلال للخميسن سنة الأخيرة وما قبل حكم البعث والأسد تحديداً .. بعضها ظهور التبجح وشهوة السلطة، الوقاحة في الخطاب وخطاب الاتهام والتفشيل المسبق والتكبر وعبادة الذات، التخوين والاتهام بالعمالة والشك بأي عامل، الحديث عن الفضائل مع الخلو عنها، التسلط والقهر للآخرين، التخريب لكل عمل منظم أو يخدم البلاد دون أن يكون لمسؤول فيها يد، إبعاد كل نظيف ومخلص عن الساحة، مصادرة كل شيء مادي ومعنوي، الإعجاب بالذات والنرجسية القاتلة دون وجه كفاءة، دفع الناس إلى الانسحاب والسكوت عن كل منكر، إرهاق الناس وإغراقهم بالتفاصيل المملة وتكريس فكرة أن مصيرهم تحت خطر الفناء عند محاولة أو مجرد التفكير في الخروج عما حكم به النظام، حصر الوطنية بالمؤيدين والتحطيم الإعلامي والاجتماعي والنفسي لكل مخالف، بذاءة اللسان والشتم دون استثناء دين ولا نبي ولا أي رمز، قلة الحياء ونسف الأخلاق وتحطيم أي مرجعية، الشمولية والطائفية والتعصب، المثالية في الأفكار أو لا شيء والهبوط في الواقع، اللصوصية، وصفات أخرى مشابهة هي سمات أساسية لأغلب البعثيين الحاليين عموما وللعصابة الحاكمة في سورية بالتخصيص.
فضلاً عن أن النظام المستبد علم الناس السوقية في الكلام، فلقد أصابنا الاستبداد الطويل بنوع من التفكير أشبه بقطعة من الصخر الأصم التي لا يمكن أن ينبت فيها أي شيء ، ولا بد من نقب هذا الصخر وإعادة استصلاحه لتعود الحياة إلى ما كانت عليه وفق التغيير الزمني المعاصر.
كل هذه الصفات انعسكت فينا بنسب مختلفة، وقد زرع النظام في شعبنا فيروساته ليصاب بمرض نقص مناعة حضاري يطيح بنا مئات السنين في قعر واد مظلم مخيف.

وفيما يلي التبويب ضمن مجموعات خصال:
نزع كل من النخوة والتعاون واللهفة على الآخرين، وتضخم الأنا الفردية على حساب الجماعية.
النخوة لم تُنزع وإنما هي من الطبائع الأصل في الشخصية السورية لكن عندما تتوجه ممارسة القانون بمسؤولية الخطأ لفاعل الخير وقد يكون ثمرة هذا عمر في السجون أو حتى سنين في تهمة ظالمة.. ومع نشر الأمثال يقال أنها عربية مقابل تحريم أي شيء يمس النظام وانتقاد شيء في الحكومة: "كل مين إيدو ألو" "امشي الحيط الحيط وقول يا رب السترة" "لا تنام بين القبور ولا تشوف منامات وحشة".. ومع الإشباع بالرعب من كال ما ينم عن صفات التعاون وتلفيق التهم، هذا كله مع الزمن قلل فرص ظهور النخوة لكنه لم يقتلها بل جعلها حبيسة أصل الإنسان السوري ومعدنه الذي ما تغير وظهر حين انجلت عنه غمة النظام وعبرت عنه الثورة. كما كان حرص النظام خلال فترة حكمه وبكل ما أوتي من وسائل على: "محاربة إحساس البشر بإنسانيتهم حينما ينتصرون لبعضهم بناءاً على كلمة الحق وموقف الحق والعدل وسعى إلى محاربة الفطرة الإنسانية وإطفاء نور الإله في الأرواح ..
كما أن الثقة بالنفس وبالآخرين وبالتالي بالمجتمع يكاد يكون معدوماً وإن وجدت فهي مريضة بالتطرف، والثقة وإن وجدت فهي منحرفة معتمدة على السند والواسطة والمعارف فحسب.
 
اللامبالاة واللامسؤولية وفقدان الشعور بالمواطنة والانتماء للوطن.
عدم الاهتمام بقضايا أوسع من تأمين متطلبات الحياة، مما جعل الثقافة متدنية والاهتمام بالعلم أقل، فالقلق من كل شيء بدءاً من تأمين الرزق والمأوى والمشاكل الحياتية التي أغرق فيها النظام الناس طيلة المدة الماضية ما أثر على الأداء اليومي والذي لم ينج منه أي مواطن سوري -طبعاً على اختلاف في درجاتها- وباتت بتواتر دخل لب حياته اليومية ..
ومن تربية النظام أن يترك رزق الناس على بعضهم دون تأمين حاجاتهم كدولة بل التعيش عليهم كالكائن الطفيلي ينهبهم عنوة صامتين مع التمنن عليهم تحت ذرائع عدة منها تأمينهم تحت جناح الدولة فتشكلت طبقة من الموظفين لهم خصائص مرضية في أكثر من ناحية.
 
سلب حرية الرأي والتعبير والفكر.
بواسطة الممارسات التي تكرست خلال العقود الأربعة الماضية، فأصبحت أي جريمة أسهل من تهمة التعبير عن الرأي والحرية الفكرية إضافة إلى تخريب وتدمير معاني الإنسان وإبداعه وطموحه وآماله في التطور والمساهمة في بناء وتطوير البلاد والشعور بالمشاركة فيه  ..
                                 
الدبلوماسية بمعنى النفاق واللف والدوران والتخوف من العبارات الصريحة والصراحة.

مرض إضافي في الشخصية السورية نشأت مع المداهنة للنظام واضطرار العيش في ظله حيث تعلم الناس من السلطة القائمة عليهم أنها النمط الديمقراطي ويمارس النمط التسلطي وهو منتشر بكثرة بين السوريين خاصة الذين يتميزون بشخصية دبلوماسية، وهي مشكلة في العمق التربوي المرافق للمداهنة والتمثيل وقد يصل ملامساً شيئاً من النفاق ..
 
الوهن أو الفشل السياسي.
من خلال تحريمها على الناس وجعل النظام منها جرماً يستحق الاعتقال وصولاً للتخوين والإعدام والتعامل مع جهات خارجية لأي أحد يقترب منها .. واستعمل عدة أساليب لهذا حتى ممن وضعوا أيديهم معه حتى لا يفكروا بالخروج عنه يوماً فمنها استثمار أخطاء كثيرين يحثهم ويحرضهم على الوقوع بها .. ثم تضخيمها بعد مراقبتهم ليتم وصمهم بها .. قد يقوم باستغلال مواقف لا تقبلها عامة الناس والجلوس باستشراف إعلامي فحسب على مائدة الشرف والأخلاق والدين على أساس أنه يدعم الإسلام مثلاً!
حتى صار بعض ما يعتبر من الأخطاء حقيقة مفروضة ودخلت الأمور ببعضها، حتى معنى الحرية اختل بسبب تفريغ القاعدة منها .. فصرنا كشعب لا نميز بين حرية الرأي والتعبير وبين ما يحق للمرء اتخاذه بدواعيه. إن لم ينجح النظام في هذا كله كان يتبع أسلوباً آخر بحيث ينفّر الناس من الذين ثارت شعبيتهم بمنعهم من عملهم إما بحجة استدعائهم الدائم للفروع الأمنية أو إلصاق تهمة إثارتهم للمشاكل والتهم الزور بهم إضافة لتقييد حرية حركتهم وتحركاتهم، كان ينفذ هذا من خلال الرقابة الأمنية المشددة أحياناً عليهم وعلى زوارهم وروادهم حتى يخفف من تأثيرهم .. إضافة إلى نفي كثيرين خارج البلاد إن لم يروقوا له أو استثمار الخروج الطوعي لبعضهم الآخر ممن لديهم مؤهلات قيادية أو إصلاحية أو حتى علمية .. أو تكسير شوكة معظمهم بشتى السبل إن آثروا البقاء داخل البلاد التي تصبح جحيماً عليهم غير قابل للإصلاح . هذه بعض التفاصيل عموماً التي ساهمت في عدم بروز واضح وكبير لأي من السياسيين الحقيقيين .. وبالتالي فالاستراتيجية التي اتخذها النظام أن يترسخ في أذهان الناس مع الزمن أنه الوحيد القادر على القيادة .. من جهة لأنه مهيأ أكثر من غيره من خلال الممارسة في حكم البلاد ومن جهة أخرى أن أي قادم جديد محروم من السياسة سيبدأ من الصفر وسيوقع البلاد في فوضى لخلو الحياة السياسية في البلاد .. هذا عدا عن سلب جميع السياسيين والنواب والوزراء القائمين مقدراتهم وصلاحياتهم وجعلهم مجرد واجهة لا تسمن ولا تغني من جوع البلاد .. فهم لا يملكون فعل أي شيء أمام القيادات الأمنية التي تحكمت في كل البلاد وحياتها والعباد وحياتهم حتى جعلتها شقاءاً ما بعده شقاء حتى لتشكك كل امرئ بأقرب الناس إليه ..

التبعية والذل والخضوع.
الذل والخضوع الكامل والتسليم المطلق والتعلق بالأشخاص يعود للتربية الدينية التي كانت وليدة تربية النظام التي يطالب بها النظام التعليم الديني،، والتي كان يراقبها .. فمن خلال سيطرة النظام على الشيخ كان يتحكم بالأتباع باعتبار الشعب متدين إذ لا بد من سدنة للمعبد ليسهل على الرئاسة القيادة .. فإن تم امتلاك الشيخ وخضوعه واستسلامه للنظام فالسيطرة على أتباعه سهلة .. ولذا كان ارتباط المشايخ بالنظام فكرياً قوي وحرص النظام على هذا وأن يمسكهم تماماً ..
من جهة أخرى تدمير الذات والإذلال، والتحقير، وإزكاء الشعور بالدونية وعدم الثقة بالنفس من خلال إفشال المواطنين مرة بعد مرة في تحقيق أهدافهم التي يؤمنون بها فيسحقون أمانيهم وكلما وجدوه ازداد صلابة في تحقيق ذاته -إن لم يلن لهم ويتعامل معهم أو يتماهى مع أساليبهم- كانوا يمعنون في إقصائه … مما قد يؤدي بالفرد مع الأيام إلى احتقار ذاته، والتقليل من نظرته لذاته وهذه العملية تكون مؤثرة كلما كان الفرد ذو أهمية وذو نوعية خاصة تثير حفيظتهم.
 
عدم امتلاك آليات التعاون والعمل الجماعي.
هناك مشكلة متأصلة صارخة في عملنا الجماعي، منها ما أصله النظام من اتباعه كل الوسائل التي تفشل العمل الجماعي إلا أن من الأسباب أيضاً ما أصله من الشخصية السورية عموماً فكثرة دخول الجميع في غير اختصاصه أو فضول كثيرين، وأصبح عندنا إن نجح عمل معين أو كان "موضة" تجد الجميع يتهافت لهذا العمل ليجربه وهذا إن كان يدل على شيء فهو يدل على معنى إيجابي وآخر سلبي وهو موضع الحديث، الأمر الإيجابي يدل على ثقة كل إنسان بإمكانية عمله ونجاحه بهذا العمل وسهولة تعلمه رغم تجاوزه موضوع الكفاءة والاختصاص، والأمر السلبي فهو بالإضافة إلى عدم اهتمامنا الكافي بالتخصص والاختصاص فهناك أمر أخطر وهو الاعتماد على التجربة التي قد تفشل بل في كثير من الأحيان ويصبح كل شيء قد جرب كل شيء وكل شيء لكل شيء.
الحاجة ماسة إلى هذا النوع من العمل .. فالمجموعات التي تعمل يعتقد كل واحد فيها أنه مهم في كل شيء ودونه لا ينجز العمل على النحو اللازم، كما أن هناك معضلة أخرى وهي أنه ومع الزمن بدأت تختفي أو تضمحل الثقة بالكفاءة للعمل الجماعي لكثرة الفشل وهذا ناجم عن عدة أسباب : عدم فهم طبيعة العمل الجماعي المتمثلة بالصبر من قبل البعض الذين يحملون هم العمل ونجاحه والثقة بمن معهم والطرف الآخر الذي هم من مع المبادر ينتظرون نجاح العمل حتى يدخلوا مشاركين بالعمل بعد أن اعتبروا أنفسهم أجزاء منه أو من فريق العمل بينما هم في الحقيقة لم يقدموا أي شيء في هذا الإطار وقد يطلعوا لحب الاطلاع ويكتفوا بالمعرفة دون أن يساندوا بأي عمل مساعد. والإحساس العالي بالمسؤولية هو أول وأهم خطوة في النجاح بهذا النوع من العمل.
لا ننكر أن الثورة أزكت التكافل الاجتماعي وأخرجته من مكمنه المكنون كجوهرة حاول النظام جاهداً طمرها تحت الطين وطمس لمعتها.. ورغم الجهد الجهيد في سبيل منع حدوث أي تغيير بعيداً عن سلطة النظام فقد رفعت الثورة من قيمة التعاون الذي افتقده السوريون لزمن طويل حيث أفقدهم إياه الرتم التربوي للنظام الذي مشى بخطواته الحثيثة في تحطيم كل ما للذات الإنسانية من قدرة على التأثير خاصة من منطلق الإطار الجماعي..
علاقة زمالة العمل والعمل الجماعي مضطربة في الأصل، والذي أفشل عمل التعاون هو التفكيك المزمن لمنظومة التنسيق والتنظيم والقيادة والتجمعات، وقلة الاتحاد والتنظيم ولو أرادت المجموعة الانتظام والتعاون  كان الخطر ماثلاً على رؤوسها أولاً وعلى أفرادها أيضاً.
 
قلة الثقة.
وصل هذا إلى الحذر الشديد وإلى الحد المرضي في بعض الأحيان لكثرة دس المخبرين بين الناس .. حتى بين الأصدقاء والعائلة مما أدى إلى ضعف في العلاقة وبالتالي هو أحد عوامل فشل العمل الجماعي الرامي للنهضة وأي شيء مفيد للبلاد. لوضع كل العوائق في وجه أي تجمع والفصل بين التنظيمات وخلق العداءات بينها.. لتتشعب الولاءات وتتعدد بعيداً عن المركزية في الولاء للوطن مثلاً أو حتى الدين فبدلاً من كونها باتجاه واحد تستثمر اختلافاتها، وعدم الفصل بين تعدد الألوان والانتماءات وتنوع الأفكار وتلونها وبين "الاختلاف" المفضي إلى التناحر.
 
الأنانية.
حينما يضيق على الناس حوائجهم حتى تصبح همهم الأكبر فمن الطبيعي تخليهم عن هموم أخرى أكبر حجماً والتحجيم في هذه الهموم الصغيرة، والنظام استثمر غريزة البقاء اجتماعياً حينما يتشاجر أحدهم مع أخيه على حاجته ويبغضه لعدم وجود العدل الذي حرض عليه النظام، ومن جهة ثالثة يسرق المسؤولون فينمون ثروتهم على حساب حق الشعب .. هي نتائج ووسائل ساعدت في هذا التضييق وولدت الأنانية مع الزمن. كان كل أحد يسأل عن نفسه ومصلحته فقط لأن الفرصة نادرة فإن وصلته فرصة قلما تكون متاحة وفي نفس الوقت يستغلون هذا لمآربهم فيمنحون ما يمنحون لغاية شراء صاحب الحاجة لصالحهم مثلاً ويشعرون الناس بأنهم هم من يملكون حياتهم وقوتهم وهم القادرون على حرمانهم وعطائهم كل شيء حتى صدقوا أنفسهم.
 
عدم التنظيم.
اضطرابات التنظيم والتنسيق الحقيقي .. لأنه يحتاج لصبر وجهد وجلد وآلية لم نعتد عليها .. الشبان واليافعون يعملون كل على قدر طاقاتهم وإدراكهم التي لا يوجهها عمل على قدر تضحياتهم التي يقدمون.
يوضع عمل ويبذل فيه جهد وينفق لأجله وقت ويفعل فيه التنسيق ثم لا يوجد فيه أي قادر على العمل بشكل يثمر وصولاً للنهاية.
ولو حاول الناس الانتظام أفشلهم النظام كي لا يكون هناك شيء خارج عن إرادته وحتى لا يثق الناس بأنفسهم وحتى لا يأملوا بقدرتهم بعيداً عنه وحتى ييأسوا من إمكانياتهم والتخريب جرى في لب الإنسان ..

 
التجهيل ودعوى محو الأمية وانطلاقة العلم.
تلك الخصلة التي طبقها الاستبداد الأسدي على شعبه بشتى الوسائل وفي كل المناحي، حتى تسهل السيطرة ويتمكن من التسلط..
محو الأمية كان ليستطيع السوري فقط قراءة ما يريدونه وتعلم ما يرضون عنه مع احتكار المراكز العلمية العالية وخلو المتمركزين من كفاءاتهم .. نشر الثقافة كان ليقرأ المواطن جريدة تشرين ونشرة التوجيهات الأسدية التي يسمح بها النظام فقط أما التحليل والمساءلة والاستفسار من إنسان شبه أمي فهذا أمر غير متوقع.


سريان الواسطة والمحسوبيات.
أبداً في دولة النظام الأسدي فليست الكفاءة فيها هي المعيار إنما المعيار هو كل شيء إلا الكفاءة .. وأهمها الولاء للدولة والتسابق بالفساد والإفساد والتعاون مع رؤوس الفساد بكل مكان في الدولة .. هذا ما ولد الالتفاف والنفاق والتملق وانفصام التعامل مع النفس حتى تولد جيل ممن يتربون في أسر هؤلاء المتلوثين ملوثين مثلهم فتسرب هذا الفساد إلى طلاب المدارس حتى خرب التعليم إضافة للرافد الإفسادي التعليمي الممنهج من قبل سيطرة الأمن على وزارات التربية والتعليم العالي وما رافقه من التدخل الأمني بالمناهج والتعليم والمدرسين والإدارة والتحكم بهذا كله بشكل شامل.
 
إهمال الكفاءة وبالتالي قتل الكفاءات وضعف المستوى التعليمي.
ليس غريباً أن تكون شعارات طلاب الجامعة خلال الثورة: «ستعود جامعاتنا من أحسن جامعات العالم بعد أن نحررها من أعداء العلم والحضارة»!
فقد اضمحلت الأهمية والعمق التربوي والتعليمي للناس واضمحل الفكر التعليمي وازداد هلع المدرسين والمعلمين من الاقتراب أو الإشارة للمعلومات التوعوية والفكرية التي ترفع سوية الفكر بين الطلاب حتى تولد من نتائج هذا فئة من الناس معها متلازمة ستوكهولم بحيث مهما فعل بها رئيسها فمعه الحق!

حرب على الإسلام مع التظاهر بدعمه من خلال الوسائل المفصلة على قياس الاستبداد.
أولاً: سلخ التعليم البعثي الفرد عن شعوره بالانتماء لماضيه المجيد مترافقاً مع الغرق في نجاحات الماضي: مثال ذلك كتب التاريخ التي تتناول سيرة النبي والخلفاء الراشدين والدولة الأموية والعباسية والعثمانية بطريقة باردة لا انتماء فيها ولا اعتزاز وإنما مجرد سرد سطحي دون الربط بالقيم الانتمائية وما تمثله عمق
أي أصبح الهدف من دراسة التاريخ في عهد البعث هو التاريخ للحفظ الصم وذكر أمجاده وليس التاريخ لأخذ العبر واستعادة الأمجاد والتعلم منها والاستفادة وإعادة إحياء السير الناجحة. وليس من الخافي غمط الشخصييات التاريخية الإسلامية حقها وخاصة في المجالات الثورية فمثلا لا ذكر إلا على استحياء لعز الدين القسام ولا ذكر أبداً لبدر الدين الحسني والدقر وغيرهم بينما نجد الذكر الأكبر لمن هم ذوي التوجه المنافي للدين كساطع الحصري وعدنان المالكي.
ثانياً: العداء للإسلام مع الغرق في تفاصيله الشعائرية الظاهرية والإغراق في علم القلوب والغيبيات حد الزهد والتجهيل، وفي مناهج اللغة العربية شواهد كثيرة حيث تم تغييب الأدب الإسلامي تغييباً كبيراً وملئوا الكتب المطروحة بالأدب الحديث الخالي من الأدب في محاولة لنزع القيم من المناهج والثقافة خاصة والتغريب في عدة مجالات.
 
فساد الجيش عامل مؤثر جداً بالشخصية السورية وتشجيع تكون العصابات.
بيئة الجيش السوري تحت حكم الأسد واحدة من أقذر البيئات التي يمكن أن يخالطها إنسان على ظهر الأرض. الكفر في الجيش السوري هو ملح الكلام، فلا تكاد تخلو من كلمة كفرية فاحشة جملةٌ طولُها مئةُ كلمة، ولا يكون العسكري مقبولاً بين الرفاق حتى يبلغ أسفل قعر السفالة الأخلاقية فيستمرئ الفواحش كلها والموبقات.
 
رغم أن العساكر -من ضباط وجنود- فيهم من هو على خلق ودين، بل إن فيهم من هو في أعلى مقامات التديّن والتخلّق بكرائم الأخلاق، من لم تلوّثه البيئة التي عاش فيها ولم تُصبه بالأمراض. ولكن الأكثرين ليسوا كذلك؛ الأكثرون أصابتهم العدوى وفتكت بهم الأمراض الخُلقية.
 
أما "العصابات" الشعبية التي تنتشر عادة في الأحياء الفقيرة في كل المدن (من نوع فتوّات وزكرتية الحارات)، وهي تضم في الغالب شباناً ورجالاً من أهل الشجاعة والمروءة الذين لم يجدوا لهم مكاناً في المجتمع. هؤلاء ليسوا مجرمين سيئين ولا يرتكبون الجرائم الشنيعة والموبقات الكبار. ربما يقتصر شغبهم على السطو والتهريب وتحصيل الإتاوات، ولو أنهم عاشوا في بلاد حرة تحترم مواطنيها وتمنحهم الفرص العادلة في الحياة الكريمة لكانوا (أو كان أكثرهم) من كرام الناس ومن بُناة الوطن، ولكن النظام الآثم الذي استأثر بالخيرات وآثر بها عبيدَه المقرّبين حرم أولئك المواطنين الأخيار من خيرات الوطن وألجأهم إلى ما رأينا. النتيجة الحتمية كانت انتشار الجهل بين أولئك الناس ووقوعهم في الشر والفساد، فصار منهم من يدمن أنواع الحبوب المخدرة ومن يقع في الحرام، ونشأ كثيرون بعيدين عن الله وعن الخُلُق القويم. علماً أن هذه العصابات كان هنالك تشجيع لها من قبل الدولة بشكل لا مباشر وتسهيل لأمورها سواء من خلال التعاون معها أو التفضل عليها بالصفح وتخليصهم من القانون.
 
تذويب القيم.
مرحلة التذويب والتي تهدف إلى إيصال الفرد لمرحلة يشك فيها بالقيم والمبادئ والأخلاقيات السامية التي يحملها، فحرص النظام على تذويب الفرد الصالح بين مخالفين له منغمسين بالفساد وحينما يكثّر عددهم حوله فمن الصعوبة إلى حد المستحيل الاستمرار، مما يضطره اضطراراً إلى التعديل منها أو التأقلم على الأقل كي يتماشى ويتلاءم مع المجتمع ومع المحيط وإلا فسيكون منبوذاً لا مكان له بين الناس أو على الأقل مثيراً للشفقة لأنه سيخسر المميزات وسيعتبر أنه غير قادر على الحياة في هذا المجتمع رغم أنه الأحق بها بكفاءته والتي يحظى بها من لا يملكون شيئاً من الكفاءة. والتشكيك في القيم يصل بكثيرين إلى درجة أن يميلوا إلى تغييرها وصولاً إلى اعتناق قيم بديلة عنها!!.
وعندما تفقد العدالة ويرى العامل أو الموظف أن الكسول غير المخلص السارق يرقى في مكانته تفقد الكثير من تلك الأحاسيس ويتكرس الهروب والتهرب من العمل وأخذ الإجازات بغير حق ويصبح هذا العامل دوماً بحاجة إلى المراقبة والتأنيب ودون جدوى ليتكرس الإحباط وتتولد دائرة من السلبيات بينما في حالة العدالة في المجتمع تتولد دائرة غير منتهية من الإيجابيات.
 
ما يتعلق بالعقلية :
مفاتيحها ثلاثية: إعلام – تعليم – مجتمع.
تفكيرنا أحيانا مثل ساحة (مدحولة أو مهروسة) والفكرة الصحيحة ستمر ولو خالها الناس سرابا .." معاذ الخطيب، وهناك مقولة تنسب لهتلر: "أعطني إعلاماً بلا ضمير، أعطيك شعباً بلا وعي"، فتزييف وعي الناس أمر سهل جداً إن تم امتلاك المؤسستين (الإعلام والتعليم) ليصيرا توغلاً في المجتمع، والقدرة على التصدي لهذا الزيف صعبة جداً بحيث تختلط الحقيقة بالكذب، ويمتزج السم بالدسم، ليصبح ما يقوله الإعلام هو الحقيقة الراسخة وينمط الناس على أسلوب واحد وفكر واحد يصنعه إعلام المنتصر أو الإعلام المتغول، فهناك من الوهم ما أصبح في الذهن حقيقية وبشكل غير قابل للجدل؟ هذا هو عمل الإعلام ..
ومن المخلفات الفكرية للنظام التعميم، والتخوين لكل من في الخارج واعتبارهم مرتبطون بالدول الغربية، وعدم التثبت والتأكد مع الحكم السريع على الأشخاص دون دلائل وإثباتات. وفي التفاصيل هناك تشويهات أخرى تتمثل بالنقاط التالية:
 
·                    تشويه ثقافة ومصطلح "الأغلبية" :
ثقافة الأكثرية غير منتشرة في مجتمعنا السوري إلا بمعناها السلبي الذي يحرك الطائفية، ليس بمعناها الذي يحدد القرار فهذا قد تم نسخه في عهد الأسد الذي فوّق غصباً كل ما هو قليل على ما هو الغالب، لينهي الخير وينهي الحق وينهي العدل وينهي الفطرة وينهي كل ما يمكن أن يسود ليصح الصحيح حتى يبقى الفساد الذي يمارسه الأقلاء هو السائد غصباً .. فالمشكلة حتى وقت قريب أننا في المجتمع السوري ليس لدينا ثقافة الأغلبية بأن الأغلبية هي التي تقرر المصير، بل تثق الأقليات بأنه يمكنها تنفيذ ما تريده ولو بأي طريقة.
 
·                    سيادة ثقافة التصنيف:
من العقلية الأمنية في الأصل التي كُرست في عهد نظام الأسد الذي فرز الناس إلى أقسام يعبئهم فيها. فانتشر بين الناس تصنيفهم لبعضهم (هذا من جماعة فلان وهذا سلفي وهذا صوفي وهذا من أتباع فلان وهذا من تلاميذ الجامع الفلاني وهذا حزبي وو) وبالتالي الحكم بصفات معينة توسم بها الجماعة التي صنف الفرد على أنه منها.
وتكرست هذه العقلية أيضاً من خلال تفضيل شخص على آخر على أساس طائفته ودينه أو حتى محافظته ومنطقته في دوائر الدولة بينما يظهر إعلامياً عكس هذا، فيكرسون كرهاً لم يكن يوماً أساساً في النفوس بينما التراحم الطائفي وبين السوريين جميعاً هو الجوهر والأصل.
 
·                    عقلية الصنمية والتأييد للأبد ونظرية القائد الأوحد وثقافة الأسد أو لا أحد:
البعض يرددون أقوال ما اعتادوا سماعه من إعلام النظام ولهذا مبرراته ومن أبرزها الخوف ممزوجة بعدم رغبتهم بالاعتراف بالواقع على العلن حتى لا يرهقوا ضميرهم بما يلزم عليهم فعله وبالتالي يعيشون بحالة من اللامبالاة والتبلد في الإحساس .. وفي هذه الحالة هناك أزمة ضمير وتموّت بطيء للإرادة وكرامة الإنسان وقدرته وما وهبه الله إياه من إمكانيات.
فلازال الحقن والتخدير 40 سنة ماثلاً في رؤوس من أفاقوا فجأة على وقع الثورة.. أو ركنوا إلى الدنيا بشكل من الصعب إظهار خيرهم بسببه حتى وإن ارتأوا الحق يتجاهلونه باستمرار أو يتمنون هذا في قرارة أنفسهم، هناك أيضاً من ركنوا إلى الدنيا لمنافع مرتبطة بالنظام أو للحفاظ على ما عندهم إذ يخشون خسرانه .. وهناك من لا يزال رهن الخوف ومن خوفه يتصرف تصرفات يتجنب بها إعانة الثورة بما يستطيع .. أو وهي حالة أخيرة هناك حالات من الغباء وسوء المحاكمات العقلية مع رؤية الواقع عند البعض بأعينهم ما يذهل له المرء حينما يقف مندهشاً عند مواقفهم.
على كل حال هؤلاء موجودون وسيبقون في كل مكان وزمان فهي فئة طبيعية الوجود في ظل نظام وزمن كالذي مر، لكن السفينة يركبها الجميع ويصيبهم ما يصيب الجميع وبالتالي هم يألمون وينالون ما ينال الجميع.
والأسوأ هم "الأتباع" فالبنية التربوية والعقلية التي أنشأ النظام عليها أتباعه المدافعون عنه تحديداً: أن يكونوا جسداً بلا عقل .. عبد مأمور لا يعرف إلا تنفيذ الأوامر مهما كان هناك التباسات .. غير مخولين بالتفكير أو نزعت منهم هذه الخصلة حتى يجهلون معرفة الأسباب ولماذا عليهم فعل هذا ..
ولا غرابة أن يكون في التعليم الإعدادي والثانوي وما يتكرر فيهم كل سنة على المسامع قول: "نفذ ثم اعترض"!

عدا عن أن الخواص من أتباع النظام استطاع أن يجعل منهم مجرمين متبجحين بإجرامهم، وهم أسوأ فئة في المجتمع السوري تمت صناعتها على أيدي النظام.
من جهة أخرى فكثرة صور الرئيس والتي فرضت على جميع غرف ومكاتب الدولة وحتى على مكاتب الأعمال الخاصة كشرط لافتتاح أي عمل .. ولدت مع الزمن فكرة أنه الواحد وساعدت على تقبله بل وأنه هو الوحيد الأوحد ولا غيره ومعنى أنه السيد الرقيب المراقب وكرست صنميته في العقول وكان لها أثر نفسي في تدعيم فكرة وجوده إلى الأبد.
فالقائد الذي يتظاهر بالديمقراطية ويوهم بالأخذ بها ولكنه يقوم بفعل ما يريده بوسائل قد يستعمل بها مكره ودهاءه ليصل ما يريد من خلال أساليب يتوصل لها بعد سبر نفسيات وطبيعة وتربية مرؤوسيه ..هو نوعية بارزة عند العرب عموماً واستطاعت هذه النوعية من القادة على مدى طويل الاستمرار والنجاح في القيادة  حيث أثبتت باللاوعي أنها ناسبت قيادة العرب بمعنى القيادة بدءاً من أصغر الدوائر إلى أكبرها وصولاً للرئاسة (بما فيها أصغرها "الأسرة" فرب البيت يستعملها حتى مع زوجته وأهل بيته!!) .. أما في أيام الربيع العربي فلم يعد هذا النموذج نافعاً وممكناً لعدة أسباب ومعطيات منها العولمة وعالمية الوعي وتبادل المعلومات وازدياد الإدراك وتكشف الكثير من الحقائق التي كانت تغطى لزمن طويل ويتم إخفاؤها مع تجهيل الشعب وستر الحقائق عنه من خلال السيطرة على الإعلام.
إن تفنن النظام في كيفية الإذلال ..  ربت نفوساً من أتباعه محقونة بالحقد والكره والتكبر والاستعلاء مع التجبر وصلت حتى قداسة الإله فكان من نتيجتها شعار "الأسد أو لا أحد .. الأسد أو نحرق البلد" وغيرها من شعارات الكفر .. وهذا يلخص قصة الكفر في الجيش واستعمال الألفاظ النابية وكلما علت الرتبة زادت هذه الخصال ..
 
·                    عقلية اليأس من صلاح أحوالنا:
إن بعض الناس متشائمون من صلاح الناس وأننا لن نصبح كالبشر وتنصلح حالنا، بينما لا يدركون أن أساس فشلنا في إصلاح أحوالنا هو النظام بحد ذاته والتخلص منه سيغير الكثير في المجتمع حتى من منطلق الشخصية السورية، وهؤلاء أيضاً من ضحايا عقلية النظام المزروعة فيهم لزمن طويل وغياب الوعي والتوعية من قبل المثقفين وعلماء الدين ..
 
·                    عقلية دينية تراكبت مع عقيلة النظام لتكتمل صورة الاستبداد :
العقلية الدينية المتكونة في فترة الاستبداد كانت سبباً هاماً في صناعته .. ومن ضمن ذلك القبول بالظلم واعتباره قدراً مكتوباً والحاكم لا ينبغي الخروج عليه دون معرفة الحقوق والواجبات وتوضيحها، والرضا بالقضاء والقدر دون دراية بأن المغير هو الإنسان ولا يناقض هذا إرادة الله تعالى، لكن الفهم المعكوس هو السائد فولد الإحباط وعدم التفاؤل بغد أفضل والاستسلام.
إضافة إلى التدين القاصر المستسلم للاستبداد مسبح بحمده تكون بها لعبة الاستبداد لعبة تركيب تتكامل أحجارها ما بين عقلية النظام وعقلية زرعتها تربية لا تؤهل لإمساك القيادة، بل تؤهل للاستسلام بينما تم تجاهل إثبات خلافة الأرض للإنسان المؤمن الذي يمكن له إن وقف وقفة حق أن تقف كل الدنيا عند إرادته، فهو الذي يصنع إن أراد، ويضع الحق والعدل وما أمره به الله، إن عمل لهذا.
 
·                    عقلية ونظرية المؤامرة:
نظرية المؤامرة والغيبيات مما يشل القدرة على إرجاع العوامل لأصلها والعمل الفاعل تجاهها كيفما كان العمل سلباً أو إيجاباً.. هذه دخلت أيضاً العقلية حيث يتم إرجاع المشاكل والأخطاء التي تحصل معنا إلى مؤامرة أو عامل خارجي مما أدى إلى عدم إرجاع المشاكل للعوامل المنطقية والاعتماد على الغيبيات وأنها هي من تتحكم بالإنسان طبعاً بالإضافة إلى عوامل أخرى التي ساهم بها رجال الدين من إرجاع منحرف ومتطرف للغيبيات ومنها الجن والسحر والمس.
هذا مما ساهم في عدم التخطيط والتسليم في الأمور وضعف في اتخاذ الأسباب والإيمان بالعلم. ونظرية المؤامرة كرستها كتابات كثيرة جعلت الواقع يبدو مستحيلاً، وبدل أن تفضح مخططات الخصم حولته لوحش لا يقبل الهزيمة.
 
الخاتمة:
ما تم عليه التركيز هي الأمراض التي تولدت وتوالدت في شخصية السوريين لكن هناك الكثير جداً من خصائص مميزة للشعب المرابط الذي أثبت للعالم كله بطولة نادرة فمن المعلوم عنه أنه قادر على التأقلم في أصعب الظروف – لا يبيع بالخبز الكرامة قادر على الصبر وبإمكانه الخروج مارداً من تحت الرماد – متحضر ليس بدائياً ولا ساذجاً – ذكي – سريع التعلم ونشيط. وما غيرته الثورة ليس بأقل أهمية فالتعاون وتقديم الخدمات دون حساب والمراعاة - الجيران تقاربوا بمحبة للتعاون في الملمات – أدركوا تماماً بأنهم وحدهم من سيحلون مشاكلهم وليس الغرب أو أي أحد آخر بعد أن خذلهم الجميع ولم يمدوا أيدي المساعدة .. فالشعب بمعدنه وأصله مختلف عما غطاه به زمن استبداد الأسد لتأتي الثورة وتكشف ذاك الغطاء فيظهر روعة معدنه.
نحن شعب مؤمن وشجاع وذو عطاء وتضحية غير مسبوقة، ولكننا متعبون وتنهش فينا الأمراض البعثية .. نؤمن بأنه لا يوجد داء إلا وله دواء، ولكن الإحاطة بأسباب المرض والتشاور حول معالجته، بل رفق كل مريض بأخيه المريض من أسباب العافية والشفاء. وإننا نكتشف اليوم جرائم النظام فينا وما حقنه في أجسادنا من سموم، وكل الخراب العمراني الذي حصل يهون أمام ما خربه في نفوسنا! وعلينا مساعدة بعضنا بعضاً في الشفاء والعافية والنجاة من الفيروسات القاتلة. إن كل القوى في الساحة مدعوة للتوحد .. فالخطر القادم هائل .. والانتقاد عليه أن يكون بحب والاعتراض بأخلاق والاختلاف ضمن مبادئ .. شعبنا يستطيع اختصار الطريق بتعاونه ومشاريعه الجماعية التي تعيد الدفء والحياة إليه ..
نعم "الثورة غيّرت الناس، وهذا صحيحٌ جزئياً لأن الأحداث الجسام تصقل الإنسان وتقوّيه، ولكن الأصح أن الثورة كشفت معادن الناس وأظهرت حقائقهم؛ أزالت قشرة رقيقة من الفحم غلّفهم بها طولُ الاستسلام لظلم النظام وقمعه واستبداده، فإذا هم جواهر من أنقى الجوهر وأغلاه. الحقيقة الجليّة التي أظهرتها الثورة السورية هي أن السوريين أهل بطولة قلّ نظيرها في الشعوب وأبناء مجد تليد أورثه الأجدادُ للأحفاد، وهم جديرون بقول النبي صلى الله عليه وسلم فيهم: "الشام صفوة الله من بلاده، إليها يَجتبي صفوتَه من عباده".
المؤمنون في الشام مهيّئون اليومَ لوراثة الأرض كما لم يكونوا من قبل، وقد غيروا كل شيء في أنفسهم؛ غيروا بالسكوت كلمةَ الحق، وبالاستسلام ثورةً على الظلم، وبالخنوع شجاعةً في مواجهة الباطل ليس لها حدود... أليس الله وعد بتغيير حال الجماعة إذا غيّر الناسُ نفوسَهم فقال وهو أحكم القائلين:{إنّ الله لا يغيّرُ ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم}؟ فها قد وفّوا هم بنصيبهم وغيروا أنفسهم، والقانون الإلهي لا يحابي ولا يتعطل، فلا بد إذن أن يتحقق قانون الله فيهم، فيتغير حالهم ويخرجوا من البلاء إلى العافية ومن العبودية إلى الحرية ومن الاحتلال إلى الاستقلال بإذنه تعالى".

هذا وإن شعبنا ليس أقل عظمة من شعوب الأرض التي نكبت كما شعب اليابان وشعب ألمانيا و أقتبس المقطع التالي: " كانت اليابان في حالة دمار شامل بعد هزيمة الحرب العالمية الثانية لتتمكن في خلال (3-4) عقود فقط من تكوين قوة صناعية والمسجلة لأعلى المعدلات الإنتاجية في العالم. لتصبح اليابان على قمة المنافسة على مستوى العالم على الأسواق العالمية، تزامن هذا مع تفوق آخر في النتائج الأخلاقية والاجتماعية بالمقارنة مع نظيراتها من الدول المتقدمة الأخرى، مع إدراك بالغ بالأهمية أنها أعطت نموذجاً خاصاً بها مختلفاً عن النموذج الغربي أو الأمريكي نجح في الموافقة ما بين التقاليد والعادات اليابانية من جهة والمفاهيم الغربية الحديثة من جهة أخرى، ولعل التفوق في العوامل المعنوية هو أكثر ما يثير الاهتمام بشكل أكبر من العوامل المادية".
ومن الممكن أن يعود الإنسان السوري أو يكون أفضل مما هو عليه إن استبان الأخطاء وتحلى بالإرادة والتصميم على تجاوز ما سبق وتمكن من استعادة أصوله بل وتحليتها أيضاً بعد أن تغطى وراء أنانية ومصالح حتى كان يأكل بعضه بعضاً، عزز ذلك النظام في نفوس الناس حتى أجبرهم على أن يكونوا بهذا الشكل الذي قولبهم عليه عبر نشره للمحسوبيات والرشوة وربط جميع الأعمال الكبيرة بأفراد منه ليديروا الناس على هذا. وقد "تخلص الشعب منذ يوم الثورة من هذه الصفات وغسل هذا الران المتركز .. لكنه غسل هذه المرة بدماء الشهداء .. بألم كبير وشديد الوطأة، ولكن النتيجة هي أسرع تطهير اجتماعي قياساً بما زرع خلال سنوات طوال عجاف بحق الإنسانية واستقامة الإنسان" ..
وفي كل ما سبق عن ذكر البنود ورغم أن الثورة غيرت وبدلت وصقلت وحسنت وكشفت لكن لا تزال القاعدة أن العلاج يحتاج إلى صبر وأناة ولا يتم إلا في الوقت الطويل، ويحتاج منهجية واعية تنبت من أهلها الصالحين بمعنى الذين يبتغون صلاح الوطن وأهله.
 
وفي الختام
“اجمعوا قلوبكم إلى قلوبنا، وضموا قلوبنا إلى قلوبكم، لا توصدوا أبواب الوطن في وجه من كان عاملاً صادقاً، لأن جنة هذا الوطن تتسع للجميع من غير تفريق في الملة” سلطان باشا الأطرش
“يجب الانتباه إلى أننا أمة واحدة، إلهنا واحد … وأعمالنا للدين والدنيا ترجع إلى أصل واحد … فمن أين جاء التفرق والخصام؟ لاشك أن للسياسة الغاشمة يداً في هذا التفريق …” عبد الفتاح الإمام
_________________
المراجع:
كتاب السيرة الذاتية – علي عزت بيغوفيتش.
كتابات كل من د.جاسم سلطان، د. وائل ميرزا، أ. أحمد معاذ الخطيب، شام صافي، أسامة النجار.
خلاصة الدواء، مجلة التمدن الإسلامي، السنة 12،1366هـ، 399.
جريدة الأيام، العدد 2234، 4 أيلول 1940.