الرئيسة \  تقارير  \  الاستثمار في سوريا أمام منعطف تاريخي بعد سقوط الأسد .. الفرص والتحديات

الاستثمار في سوريا أمام منعطف تاريخي بعد سقوط الأسد .. الفرص والتحديات

19.01.2025
عبد العظيم المغربل



الاستثمار في سوريا أمام منعطف تاريخي بعد سقوط الأسد .. الفرص والتحديات
تلفزيون سوريا - عبد العظيم المغربل
السبت 18/1/2025
بعد سقوط نظام الأسد، يقف الاقتصاد السوري على أعتاب مرحلة جديدة تجمع بين التحديات والفرص، فقد تركت سنوات الحرب الطويلة أثراً عميقاً على البنية التحتية وأثقلت كاهل الاقتصاد بأزمات معقدة وهيكلية مدمرة.
الآن، مع مرور الوقت باتجاه وضع أسس الاستقرار، يُفتح الباب على مصراعيه للمستثمرين الراغبين في البحث عن فرص مهمة في مختلف القطاعات الاقتصادية، سواء المتعلقة بإعادة الإعمار والبناء، أو القطاع التكنولوجي، أو القطاع الصحي، أو القطاع التعليمي، وذلك لكون الاستثمار يعد أحد الركائز الأساسية لدفع عجلة التنمية.
التعرفة الجمركية في سوريا.. تداعيات القرار الأخير وآثاره الاقتصادية
يتيح الاستثمار للمستثمرين المساهمة في إعمار سوريا الجديدة والمشاركة في رسم ملامح مستقبلها الاقتصادي، وفي الوقت الذي تتطلع فيه البلاد إلى ترسيخ الاستقرار السياسي والاجتماعي، تبدو الحاجة ملحة إلى استقطاب رؤوس الأموال المحلية والأجنبية لإعادة بناء القطاعات الحيوية كالزراعة والصناعة والطاقة.
الواقع الاقتصادي في سوريا بعد سقوط نظام الأسد
يمر الاقتصاد السوري بحالة معقدة تجمع بين الإمكانيات الواعدة والتحديات الهيكلية والانهيار الكبير الذي تركه نظام الأسد عليه. فعلى صعيد نقاط القوة، تتميز البلاد بمساحات زراعية خصبة تمثل نحو 32% من مساحة سوريا، وموارد بشرية شابة، حيث يشكل السكان الذين تقل أعمارهم عن 35 عاماً نسبة تفوق 60% من إجمالي السكان. كما تعد الأجور في سوريا من بين الأدنى في المنطقة، مما يجعلها بيئة جاذبة للاستثمارات التي تعتمد على العمالة المكثفة.
يتمتع الاقتصاد السوري بموقع جغرافي استراتيجي يربط بين آسيا وأوروبا، ويطل على البحر المتوسط بخط ساحلي يمتد لأكثر من 180 كيلومتراً، مما يتيح فرصاً كبيرة لزيادة التبادل التجاري وتعزيز دور البلاد كمركز لوجستي إقليمي. إضافة إلى ذلك، توجد الجاليات السورية في الخارج التي تُحوّل سنوياً العملات الصعبة للداخل السوري، وهو عامل يمكن أن يدعم الاحتياطيات النقدية ويسهم في تمويل القطاعات الاقتصادية وينشط الاستهلاك وينمي الإنتاج.
لكن، في المقابل، يعاني الاقتصاد من نقاط ضعف كبيرة، أبرزها الانخفاض الحاد في الناتج المحلي الإجمالي، الذي تقلص بنسبة 87% خلال العقد الماضي، حيث انخفض من 67.5 مليار دولار في عام 2011 إلى نحو 8 مليارات دولار في الأعوام الأخيرة. وأدى تدهور البنية التحتية بفعل الحرب إلى خسائر ضخمة، مع دمار كبير في المرافق العامة وشبكات الكهرباء والمياه والطرق، مما يعيق عودة النشاط الاقتصادي بسرعة.
ويعاني الاقتصاد من هجرة العقول والكفاءات، حيث غادر أكثر من 6.5 ملايين شخص البلاد خلال الأربعة عشر عاماً الفائتة، بينهم نسبة كبيرة من أصحاب المهارات العالية، كما تسببت الحرب في ارتفاع معدل البطالة إلى ما يزيد على 88%، مع تدهور القوة الشرائية للسكان بفعل انخفاض قيمة العملة المحلية التي تجاوزت حاجز 13 ألف ليرة سورية مقابل الدولار.
أما على صعيد إعادة الإعمار، تُقدر كلفة إعادة بناء المناطق السكنية والصناعية المدمرة بأكثر من 400 مليار دولار، وهو مبلغ يتجاوز بكثير الإمكانيات المحلية ويحتاج إلى دعم دولي كبير في ظل استمرار العقوبات الاقتصادية. بالتالي، يظل الاقتصاد السوري مكبلاً ويواجه صعوبة في استيراد التكنولوجيا والمواد الأساسية اللازمة لإعادة تشغيل القطاعات الإنتاجية، مما يجعل التعافي الاقتصادي مهمة شاقة تتطلب تعاوناً دولياً وإصلاحات جذرية داخلية.
الفرص الاستثمارية الواعدة في القطاعات الاقتصادية
تتميز سوريا الجديدة ببيئة غنية بالفرص الاستثمارية التي تمتد عبر العديد من القطاعات الحيوية، مدفوعة بالحاجة لإعادة الإعمار والتنمية الاقتصادية الشاملة. مع توفر الموارد الطبيعية والبشرية، والتوجه نحو تعزيز البنية التحتية وتحقيق الاكتفاء الذاتي، تبرز بعض القطاعات الاقتصادية كوجهات مناسبة للاستثمار الذي يحقق النمو اللازم، وتبرز داخل هذه القطاعات فرص ملائمة للوضع الراهن.
قطاع الزراعة: تمتلك سوريا مساحات زراعية كبيرة وخبرات زراعية عالية، مما يجعل الاستثمار في زراعة الحبوب والخضراوات والقمح والفواكه مشاريع ذات جدوى اقتصادية عالية. تكمن الفرص في هذا القطاع عبر تطوير مزارع متخصصة لزراعة القمح والخضراوات، وإنشاء محطات حديثة لري الأراضي.
قطاع الصناعات الغذائية: تعتبر الصناعات الغذائية من أكثر القطاعات طلباً، خاصة في ظل الحاجة المتزايدة لضمان تأمين الأمن الغذائي في المرحلة الأولى بعد سقوط النظام وتحقيق الاكتفاء الذاتي. يعد إنشاء مصانع لإنتاج الألبان والأجبان والمعكرونة والمخابز فرصاً استثمارية واعدة في هذا القطاع.
ما بعد سقوط النظام.. الأسواق في طرطوس تشهد وفرةً في السلع وتراجعاً بالأسعار
قطاع البناء وإعادة الإعمار: يمثل قطاع البناء فرصة ذهبية لأصحاب رؤوس الأموال الكبيرة، وذلك للحاجة الماسة إلى بناء المساكن وإعادة تأهيل البنية التحتية والقيام بإصلاح الوحدات السكنية والتشغيلية المتضررة. تبرز هنا مشاريع استثمارية في إنشاء مصانع الحديد، والسيراميك، والدهانات، بالإضافة إلى مشاريع إعادة تدوير الأنقاض وشركات وورش البناء.
قطاع الطاقة: يمكن للطاقة الشمسية ومشاريع إعادة التدوير أن تلعب دوراً مهماً في تلبية احتياجات البلاد المتزايدة للطاقة في ظل وجود عجز كبير في هذا القطاع وبطء تعافيه لكلفته العالية. لذلك، يُتوقع أن تكون مشاريع مزارع الطاقة الشمسية ومشاريع إعادة التدوير والنظافة من المشاريع البارزة مستقبلاً في سوريا.
قطاع التكنولوجيا: يعتبر القطاع التكنولوجي قطاعاً استراتيجياً للاستثمار في سوريا؛ حيث تبرز مشاريع تطوير البرمجيات والبنية الرقمية كفرص مهمة. تتماشى هذه المشاريع مع حاجة سوريا لهذا القطاع، الذي حُرمت منه بسبب نظام الأسد لعقود، مما أدى إلى انقطاع كبير عن مواكبة التطورات العالمية. بالتالي، تعتبر المشاريع المتعلقة ببناء بنية تحتية للإنترنت، وتطوير البرمجيات الحكومية، وتطبيقات الخدمات من المشاريع الواعدة في هذا المجال.
 التحديات التي تواجه الاستثمار في سوريا
رغم الإمكانيات الكبيرة التي توفرها السوق السورية، تواجه الاستثمارات العديد من التحديات:
غياب الاستقرار السياسي والأمني: يمثل استكمال الاستقرار السياسي والأمني شرطاً أساسياً لجذب المستثمرين، خاصة الأجانب منهم.
البنية التحتية المدمرة: تحتاج معظم المدن السورية إلى إعادة بناء شامل للبنية التحتية المدمرة، خصوصاً المتعلقة بالطاقة.
البيروقراطية: تعيق القوانين المتفرقة والمتضاربة، التي كان يستخدمها النظام البائد، وتعدد الجهات الرقابية تدفق الاستثمارات بشكل سلس إلى الداخل السوري.
ضعف القوة الشرائية: تجعل مستويات الدخل المتدنية لدى معظم السكان في سوريا من الصعب تحقيق عوائد كبيرة في القطاعات الاستهلاكية، إذا كان الهدف تصريف البضائع في السوق الداخلي.
المخاطر الإقليمية والدولية: يبقى النفوذ الخارجي في سوريا عاملاً قد يؤثر على الاستقرار الاقتصادي في حال عدم تقويضه
رابعاً: الرؤية المستقبلية للاستثمار
لضمان استثمار ناجح ومستقر في سوريا الجديدة، تحتاج البلاد إلى استراتيجية واضحة تقوم على تعزيز الاستقرار السياسي، وتطوير البنية التحتية، وتحديث القوانين الاقتصادية، ويجب على الحكومة السورية أن تعمل على تحسين بيئة الأعمال من خلال ما يلي:
تحفيز الاستثمارات المحلية والأجنبية: عبر تقديم حوافز ضريبية وقانونية، وتسهيل إجراءات الاستثمار.
إعادة بناء البنية التحتية: من خلال شراكات بين القطاعين العام والخاص والدول الصديقة، مع التركيز على الطرق والمرافق الحيوية بشكل رئيسي في البداية.
تنمية القطاعات الإنتاجية: مثل الزراعة والصناعات الغذائية، لتأمين احتياجات البلاد الأساسية، وكون الزراعة قطاعاً مرتبطاً بالصناعة ويعزز عملها.
تعزيز الشفافية: عبر إنشاء مؤسسات رقابية قوية تحارب الفساد وتضمن تطبيق القوانين، بخلاف سياسات النظام البائد التي عززت الفساد.
دعم الاستقرار الاجتماعي: من خلال توفير فرص عمل واسعة تسهم في رفع مستوى المعيشة، وتقليل التوترات الاجتماعية، وخفض البطالة.
استثناءات محدودة من العقوبات الأميركية على سوريا.. الدلالات السياسية والاقتصادية
يمثل الاستثمار في سوريا بعد سقوط النظام نقطة تحول استراتيجية نحو إعادة بناء البلاد على أسس اقتصادية متينة ومستدامة، ورغم التحديات الهيكلية والسياسية والأمنية التي تواجه المستثمرين، فإن الإمكانيات الهائلة التي تتمتع بها سوريا، سواء من حيث الموارد الطبيعية والبشرية أو موقعها الجغرافي المتميز، تجعلها وجهة واعدة للاستثمارات الإقليمية والدولية.
لتحقيق هذه الرؤية، لا بد من تبني استراتيجية متكاملة من قبل الإدارة الجديدة، تشمل تعزيز الاستقرار السياسي، وتطوير البنية التحتية، وإصلاح البيئة التشريعية والاقتصادية، مع تقديم حوافز حقيقية للمستثمرين.
إن نجاح هذه الجهود سيسهم ليس فقط في تحقيق التنمية المستدامة داخلياً، بل أيضاً في استعادة مكانة سوريا الاقتصادية بشكل مؤثر على الساحتين الإقليمية والدولية بعد عدة سنوات، مما يضمن مستقبلاً أفضل لشعبها مليئاً بالرفاهية الاقتصادية بعد سنوات طويلة من الحرب.